في موضوع الحوار بين الحضارات
سنة الرسول الكريم وخلفائه الراشدين فى الحكم والإدارة، بيان لعناصر الحداثة
دكتور/ بهاء الدين محمود محمد منصور
مجلة مركز صالح كامل للاقتصاد الإسلامى ، مركز صالح كامل للاقتصاد الإسلامى ، جامعة الأزهر ، السنة السابعة – العدد الثانى و العشرون ،1425 هجرية – 2004 م
هذه مقالة علمية، تهدف إلى التحليل والمقارنة لبيان مدى صلاحية سنة الرسول الكريم وخلفائه الراشدين فى الحكم والإدارة كأساس لثقافة سياسية تقيم دولة بمفهوم الدولة الحديثة وتؤدى أداء يغطى مجالات عملها بكفاءة، وتهدف المقالة أيضاً إلى بيان أن هذه السنة هى الأصل الإسلامى فيما أمر الله به من علاقة شرعية بين الحكام والمحكومين وبينها الرسول الكريم فى سنته واتبعه خلفاؤه الراشدون فى الحكم والإدارة.
هناك سنة واضحة للرسول الكريم وخلفائه الراشدين فى الحكم والإدارة وفى التعامل مع الرعية، وفى موضوع العلاقة بين الحكام والمحكومين، لا يتسق مع الإطار العام للمعاملات الإسلامية وحدودها إلا مذهبهم والأحرى بالمسلمين الحريصين على إتباع سنة الرسول الكريم فى العبادات والمعاملات الاجتماعية، أن يحرصوا أيضاً على سنته فى الحكم والإدارة وأساسها تجنب البغى على الآخرين مستغلين السلطة أو النفوذ وهما فى الأساس أمانة استأمنهم الله عليها، وتجنب جرائم التربح من السلطة ظاهرة وباطنة، عينية وغير عينية، مالية وغير مالية، سنة يلتزم بها الغفير والوزير ورئيس الدولة، وفى إتباعها إصلاح أخلاقى نحن فى أشد الحاجة إليه للإصلاح فى عصرنا هذا، فضلا عن أنه، وبطبيعته، أساس أخلاقى لثقافة سياسية تقيم دولة بمفهوم الدولة الحديثة تقوم على كفالة حرية الرأى لكل من يريد أن يساهم بأمانة، ولا يضار أحد بعد ذلك لاختلافه فى الرأى أو الدين، طالما يحترم النظام العام للدولة وهو الأساس المتين لأى إصلاح سياسى يجعل النظام العام والقرارات السياسة والاقتصادية والتعليمية لصالح الأمة وليس لصالح القلة صاحبة النفوذ بما يؤدى إلى أن تغطى الدولة مجالات عملها بكفاءة، بل إن الرسول الكريم قد سن سنة عظيمة عند وفاته برد المظالم، وإن لم يظلم أحداً، حيث حرص على أن يلقى ربه وليس لأحد من الرعية أن يطلبه بمظلمة؛ درهما ولا ضربة سوط ولا شتمة عرض أو ما دون ذلك.
ومع إدراكنا أن السنَّة المطهرة قد اتبعت في عهود الخلافة الراشدة كلها، أيام أبى بكر وعمر وعثمان وعلى بل وعمر بن عبد العزيز رضوان الله عليهم جميعاً إلا أننا اكتفينا بذكر التطبيقات من ولاية كل من أبى بكر وعمر رضى الله عنهما باعتبار أنهما المؤسسين لمنهج الاتباع لسنَّة الرسول الكريم فى الحكم والإدارة.
1- مقدمــــة
تبدأ قصة الخلق بخلق آدم عليه السلام فى الجنة، التى أذن الله له فيها بكل شيء عدا شجرة واحدة، لا يقربها بأمر الله، ولكنه، وبظن منه بأن له مصلحة فى ذلك، وسوس له الشيطان فخرج عن أمر ربه، وأيـًّا كان تأويل معنى هذه الشجرة، فإن المعنى الذى لا يخطئ هنا هو أن لله حدودًا لا يخرج عنها من يريد أن يعيش فى ملكوته، وفى طاعته، وفى ولايته.
يُتهم المسلمون اليوم بأنهم لا يتناسبون مع الحداثة التى أتت للإنسان بالرفاهية والقيم التى تعلى من شأنه، هذه الحداثة والحضارة أقامها الإنسان بجده واجتهاده، وآتاها بعلم من عنده، ومن حقه أن يدافع عنها ضد كل من تخلف عن ركبها، بل وكثيراً ما يُعلن هؤلاء المتحضرون صراحة أنهم نسوا الله، فسلكوا سلوكاً آدمياً أصيلاً بالاندفاع إلى ما يظنون بأنه مصلحتهم.
إلى هؤلاء الذين نسوا الله صراحة، وإلى المسلمين، يتقدم مؤلف هذه المقالة لبيان أن سنة الخلفاء الراشدين فى الحكم، ليست إلا إتباعًا دقيقـًا لسنَّة رسول الله ﷺ فى الحكم والقيادة لمجتمع المسلمين، وأن كليهما لم يسلكا إلا ما أمر الله به فى كتابه العزيز . إلى الذين نسوا الله صراحة، وإلى المسلمين، ونحن نتذكر ما أمر الله به من حدود، يترك المؤلف لهما الحكم لبيان ما إذا كان فى الاستجابة لله ولرسوله ما يحيينا نحن البشر أم لا، بل والمقارنة بين إتباع سنة الخلفاء الراشدين فى الحكم، وما أتت به الحداثة البشرية، أيهما أقيم للحضارة ورفاهية الإنسان وإعلاء شأنه، أقول ذلك دفاعاً عن الإسلام وليس عن المسلمين، لعل فى البشر جميعاً مسلمين وغير مسلمين، قوماً يحبهم الله ويحبونه فيرعون حدوده ولا يقربونها.
تحتل الدولة موقعًا محوريًا فى العمل الاجتماعى بمفهومه الشامل، وهو اجتماع البشر مع بعضهم البعض من أجل تبادل المصالح، وتعظيم أمنهم ورفاهيتهم، ولن نستطيع أن نفهم سنة الرسول الكريم وخلفائه الراشدين فى الحكم والإدارة دون أن نقرأها فى سياق مجالها الصحيح داخل مفهوم الدولة الحديثة ومجالات عملها كما يبينها علم السياسة، وكيف أن تحديث الدولة، هو ضرورة، وليس زينة وإلا ضاع كل استقلال واقتصاد وثقافة.
الهدف من هذه الدراسة هو بيان أن هناك سنة للرسول الكريم فى الحكم والإدارة، وأن هذه السنة نفسها هى التى اتبعها الخلفاء الراشدون من بعده فى نفس موضوع الحكم والإدارة، وأيضاً أن هذه السنة لها خصائص واضحة تتسق تمام الاتساق مع كل ما جاء بالقرآن الكريم وكل صحيح فى الدين والشرع الإسلامي، وعلى كل مسلم أن يتبعها فى سلوكه الشخصى، شأنها فى ذلك شأن كل السنن الشريفة الأخرى، فكل منا يتمتع بسلطة ما حتى ولو كانت سلطة جندى فى الدولة أو نفوذ (وهو المفهوم الأوسع لممارسة التأثير على الآخرين)، وإن لم يكن لديه سلطة ولا نفوذ فعليه ألا يشارك فى ما أنكره الرسول الكريم، فيحرم كل مسلم على نفسه ما حرمه الرسول ويحيى ما أحياه، ومقارنة هذه الخصائص مع مفهوم الدولة الحديثة ومجالات عملها لبيان لما فى إحيائها من رفع لكفاءة الدولة وتحديث لأدائها.
تقدم هذه المقالة؛ مفهوم الدولة الحديثة ومجالات عملها كما هو فى العلوم السياسية، الإطار العام للمعاملات فى الإسلام، ثم بيانـًا لسنَّة الرسول الكريم ﷺ فى الحكم، وبيانـًا لسنَّة الخلفاء الراشدين فى الحكم والإدارة من بعده، ونقيضًا لكل ذلك تعرض المقالة خصائص الحكم الذى لعنه الله جُملة وتفصيلاً، وتوعد القائمين عليه بأشد العذاب وهو نموذج الحكم الفرعونى، ثم نصل إلى الخلاصة من المقالة.
2- مفهوم الدولة الحديثة ومجالات عملها
تحتل الدولة موقعًا محوريًا فى العمل الاجتماعى بمفهومه الشامل، وهو اجتماع البشر مع بعضهم البعض من أجل تبادل المصالح، وتعظيم أمنهم ورفاهيتهم، ولا يوجد مجتمع له صفة الدوام والثبات وله خصائصه الثقافية والاقتصادية والاجتماعية المقننة، إلا وله دولته المستقلة التى تعبر عن هذه الأمور الخاصة وتحافظ له عليها، من أجل ذلك لا يوجد مجتمع إلا وله أفكاره السياسية العامة السائدة، أو ما نسميه اليوم بالثقافة السياسية[ ]، وقد قام أرسطو الذى يعتبر الأب الشرعى لعلم السياسة، وتحديدًا لعلوم تحليل النظم السياسية [ ]، باعتماد معيارين لتصنيف النظم السياسية، هما: عدد المشاركين فى السلطة، ونوعية التوجه الذى يأخذون به[ ].
أيضاً، ونظرا لأن الناس لم يجتمعوا فى الدولة إلا لتحقيق مطالب لهم وحاجات، فإن هناك دائما المثال (الأعلى)، والواقع، أى أن هناك النظرية السياسية المعيارية أو الغائية، والنظام السياسى؛ وذلك باستخلاص الأساس النظرى لما يجرى من علاقات تشكل النظام السياسى على الواقع[ ]. ولعل الفارق بين الجمهورية لأفلاطون، والسياسة لأرسطو هو الفارق بين النظرية السياسية المعيارية أو الغائية، والنظرية السياسية الوضعية (الامبريقية)[ ].
النظام السياسى[ ]: هو نسق من العمليات والتفاعلات التى تتضمن علاقات سلطة بين الفئة الحاكمة من ناحية والمواطنين أو الجماهير من ناحية أخرى (وبين الفئات والمجموعات التى تشكل هرم السلطة بعضها والبعض الآخر). هذه العلاقات تحدث فى نطاق عدد من الأطر القانونية والأعراف المؤسسية (تشكل نظاما وتقليدا لهذه العلاقات)، والتى تتأثر أشد الأثر بالأيدولوجية والثقافة السياسية السائدة (فالحكام والمحكومون ليسوا إلا بشرا، ولا يمكن أن يسلكوا سلوكاً يشكون فى سلامة جدواه لأنفسهم، ولا يتمشى مع قيمهم).
فى ظل هذه العلاقة تقوم النخبة الحاكمة التى تتولى مقاليد السلطة باتخاذ القرارات وتحديد السياسات كما تقوم بتنفيذها. ويقوم المواطنون بمهمة المشاركة السياسية التى قد تقل أو تزيد والتى تختلف صورها وأشكالها من نظام لآخر، للتأثير على هذه القرارات أو لمراجعة بعض جوانبها. وكذا، للرقابة على عملية التنفيذ والمحاسبة على النتائج.
فى هذا السياق يمكن الحديث عن ثلاثة مجالات ومهام أساسية للنظام السياسي، حيث يتم أداؤها من خلال عملية الهيمنة التى يمارسها فى الدولة[ ]:
أ – النظام السياسى كآلية لحل الخلافات وإقرار القانون والنظام :
هذه هى الوظيفة التنظيمية القهرية للنظام، فكل نظام سياسى يقوم بوضع القواعد القانونية لتنظيم العلاقات القانونية الاجتماعية، كما يمتلك القدرة على توقيع الجزاء على الخارجين عن هذه القواعد. فالوظيفة الأولى للنظام السياسى هى الحماية وتوفير الأمن للمواطنين داخلـيًا، وحماية إقليم الدولة إزاء الأعداء خارجيـًا .
إن احتكار القوة المسلحة واستخدام العنف هو أحد الخصائص الأساسية للدولة، وبالتالى فإن فشل الدولة فى فرض النظام والقانون بالداخل أو الفشل فى حماية حدود الدولة مع الخارج، هو موقف لا يتحمله أحد، ويأذن بانتهاء النظام السياسى فهما أساس وجوده، وهما أساس قبول المواطنين بممارسة السلطة عليهم من قبل النخبة الحاكمة المتمتعة بالسلطة[ ].
ب – النظام السياسى كآلية لتوزيع الموارد فى المجتمع:
علم السياسة، شأنه فى ذلك شأن علم الاقتصاد، يرتبط بمشكلة الندرة فى المجتمع، حيث المطالب دائما أقل من الموارد مما يخلق مشكلة التناحر والتنافس على المنافع والموارد باعتباره أمراً طبيعيـًا للأفراد والجماعات فى المجتمعات البشرية، ويوفر النظام السياسى الآلية والمعايير اللازمة لترتيب الأولويات وتوزيع الموارد وتنظيم الأنشطة الاقتصادية، بما يسمح بعدالة التوزيع وتعظيم المنافع وحسن استغلال الموارد، وإن كانت المشكلة هنا هى فى الأصل مشكلة اقتصادية، إلا أن تنظيم وإدارة اقتصاد الدولة نفسه، يقع فى سلطة وتحت إشراف وتنفيذ النظام السياسى وسلطاته المتحكمة، حتى إن من يملك السلطة السياسية، يستطيع أن يتحكم فى من يحصل على ماذا ولماذا[ ].
ج – النظام السياسى كآلية للتغيير الاجتماعى[ ]:
النظام السياسى من ناحية، هو مرآة تنعكس عليها الأوضاع والمصالح والتناقضات المختلفة فى المجتمع، كما تنعكس عليها الآراء والأفكار والمعتقدات الذائعة فيه. ولكن النظام السياسى لا يكتفى بهذا الدور، بل يمكن للنخبة الحاكمة أن تعيد تشكيل المجتمع وفقا لرؤية أيدولوجية أو تصور سياسى . هذا ما حدث فى الدول التى شهدت ثورات اجتماعية، ووصلت إلى الحكم فيها نخب سياسية ذات توجهات أيدولوجية[ ].
وحتى لو لم تهدف السلطة السياسية إلى إحداث التغيير بنفسها وبفعل سلطتها المباشرة، فهى على الأقل ومن خلال النظام السياسى وسلطاته المتحكمة تنظم وتشرف على نظم التعليم ونظم الإعلام فى الدولة بما يسمح بتسهيل انتشار أفكار معينة أو تعوق انتشار أفكار أخرى.
والخلاصة فى مفهوم الدولة الحديثة ومجالات عملها هى أنه لا يوجد من يستطيع أن يتحمل انهيار الدولة لأنه لا يوجد من يتحمل انعدام النظام بالداخل أو انعدام الدفاع أمام أخطار الخارج، وبالتالى فإن الكل يتكاتف للحفاظ على السلطة القهرية للدولة، التى يمارسها على الواقع النخبة الحاكمة، ولكن يجب أن توضع الضوابط لعدم انحراف النخبة الحاكمة بمجالات عمل الدولة فى الاقتصاد وتوزيع الموارد، أو بمجالات الثقافة لخدمة مصالح النخبة الحاكمة، وهو أمر قد يحدث على حساب المحكومين، وربما على حساب المصلحة العليا للدولة على المدى الطويل، من أجل ذلك، حرصت الدول الحديثة على وضع أساس لمشاركة المواطنين فى السياسة، لتنظيم تأثيرهم على قرارات النخبة الحاكمة، ولمراجعة أعمالهم، والرقابة على التنفيذ والمحاسبة على النتائج، وكما لايستطيع أحد أن يتحمل انهيار الدولة، كذلك لا يستطيع أحد فى أى من الدول الحديثة أن يقبل أن يترك حبل السلطة على غاربه للحكام، وهو الأمر الذى يستند على مفهوم الديموقراطية، والدول الحديثة بهذه الخصائص أقدر على أداء مهامها من الدول المتخلفة التى يحصل فيها الحكام على السلطة دون محاسبة، ولا يوجد من يراجعهم عند انحرافهم بسلطة الدولة فى مجالات توزيع الموارد، أو الثقافة، وغالبا ما ينتهى الانحطاط فى الأداء إلى فشل الدولة المتخلفة فى المحافظة على استقلال الدولة أمام الدول الحديثة ذات الأداء القوى المتميز بالكفاءة.
أما بخصوص مفهوم الديموقراطية[ ]، فقد استقر الفكر السياسى والاجتماعى على أن الديموقراطية تتجاوز الأشكال الدستورية والتنظيمية المرتبطة بها ( تعدد الأحزاب – جماعات المصالح ومؤسسات المجتمع المدنى – الحريات العامة – الانتخابات الدورية كآلية لتغيير الحكومة – استقلال القضاء ) إلى اعتبارات ثقافية وقيمية، وهى ما تسمى عادة بالثقافة السياسية[ ].
والنظم الديموقراطية تستند إلى القانون[ ]، الذى يطبق على الجميع بالمساواة، لا فرق بين حكام ومحكومين، ولا اختلاف بين ما هو مكتوب فى صحيح القانون والدستور وما يطبق على الواقع، وتستند أيضا إلى وجود الاتفاق العام حول قواعد العملية السياسية وشكل الحكم. والنظام الديموقراطى لا تحميه القوة المسلحة بقدر ما يحميه التزام الفاعلين السياسيين بقواعد هذه العملية وفقا للدستور والقانون، حيث تدرك غالبية الأفراد الذين ينتشرون على جانبى أصحاب السلطة والمحكومين، أهمية المحافظة على هذه الأمور من أجل وجودهم ومصالحهم الجوهرية.
وهكـذا فإن هناك مجموعة من الأفكار والمفاهيم والقيم تشكل الثقافة السياسية الديموقراطية، وبدون توافرها فى مجتمع ما، فإن المؤسسات الديمـوقراطية تكون نبتاً مصطنعاً لا يستند إلى جذور فى الواقـع الاجتـماعى تصونه وتحميه[ ].
وفى هذا الإطار، فإن التعددية الحزبية والسياسية[ ]، على سبيل المثال، تجد أساسها الفكرى فى قيمة التسامح والقبول بالآخر، وأنه لا توجـد جماعة سياسية أو تيار سياسى يحتكر الحقيقة أو الحل الوحيد فى القضايا التى تواجه المجتمع. والحق فى الانتخابات يستند أيضا إلى الاعتقاد فى عقلانية الإنسان ورشده وقدرته على الاختيار بين البدائل، كما أن هذا الحق يستند إلى مبدأ المساواة بين البـشر بغض النظر عن الجنس أو اللون أو العرق أو الدين[ ].
وهكذا نصل إلى أن جوهر بناء الدولة الحديثة الناجحة فى مجالات عملها الثلاثة، هو وجود شعب يمتلك الثقافة السياسية التى ترفض، أو على الأقل لا تساند طغيان الحكام بسلطة الدولة، وتحرم عليهم إدارة مجالاتها الثلاثة السلطة والاقتصاد والثقافة، لحساب أنفسهم، وتؤدى إلى مساندة حق كل فرد فى الدولة مهما قل نصيبه فى السلطة أو النفوذ، فى المشاركة بالرأى، أو هو ما يعرف بحق التعبير لكل فرد، فهل يوجد طريق آخر غير النقل عن الفكر والقيم الغربية المبنية على التفلسف والتى تحتاج إلى مجتمعات مثقفة خالية من الأمية للتقارب مع هذه الثقافة، هذا فضلاً عن أن النقل عن الغرب يحمل فى طياته تيارات ما بعد الحداثة، والتى مثلها الصارخ تبنى الأمم المتحدة لحرية الشذوذ الجنسى باعتباره صورة من صور المساواة وعدم احتكار الحقيقة، بما يمثله ذلك من تحد لقدرات الفهم والتفلسف، بما يتفوق على ما لدى الفرد المتوسط فى دولة نامية، يحصل بالكاد على بعض التعليم. نحن نحتاج إلى مصدر سهل الفهم نقيم عليه قيم المجتمع السياسية، بما يؤدى إلى بناء الدولة الحديثة، فهل نجد فى التراث الإسلامى ما يسمح بذلك.
3- الإطار العام للمعاملات فى الإسلام
يهدف الإسلام إلى العدل فى كافة المعاملات الخاصة بالسلطة وتداولها واستخداماتها، كما يهدف إلى ذلك أيضا فى كافة المعاملات المالية والاقتصادية؛ حيث يقول الله فى محكم آياته:
(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل، 90]،
(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً) [النساء، 58]
() شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [آل عمران، 18]،
(إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنْ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) [آل عمران، 21]،
(لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ) [الحديد، 25]،
وعن الرسول الكريم يقول:
(فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمْ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) [الشورى، 15].
وبخصوص السلطة والنفوذ فقد حرم الله البغى بغير الحق ولم يعط هذا الحق لأحد من الأنبياء وبالتالى لا حق لحاكم أو موظف عام بالبغى على محكوم ممن يمارسون عليهم السلطة. ويقول الله فى محكم آياته:
(قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) [الأعراف،33].
ويأمر الله سبحانه وتعالى بالعدل والإحسان وإيتاء ذى القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغى، (انظر سورة النحل، آية 90، بالفقرة السابقة) فإذا مكن لأحد منهم سلطة، فيصفهم الله تعالى:
(الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ ) [الحج، 41].
أما بخصوص التعامل فى الأموال والتبادل الاقتصادى فقد حرم الله أكل أموال الناس بالباطل حيث يقول فى محكم آياته :
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً ) [النساء، 29].
أما عن التلاعب فى الكيل والميزان وبخس الناس أشياءهم لأكل حقوقهم فى تبادل السلع الاقتصادية، فأمر الله واضح:
(وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ) [هود، 85].
ويقول:
(وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6) كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7)) [المطففين،1-7].
ويختص الله سبحانه وهو العليم الخبير بالتحذير للإدلاء بأموال الناس بالباطل للحكام، حيث يقول فى محكم آياته:
(وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [البقرة، 188].
وأوجب أيضا المحاسبة بين الناس على الأموال حفاظا على حقوق العباد حيث يقول سبحانه وتعالى:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلْ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [البقرة،282].
والشيء بالشيء يذكر، فإذا كان الله سبحانه وتعالى قد حرم أكل أموال الناس بالباطل فى تبادل السلع والخدمات المالية والاقتصادية بل يجب أن يتعفف من يستطيع أكل أموال الناس بالباطل عن ذلك ابتغاء وجه الله سبحانه وتعالى وابتغاء شرعه، فإن من باب أولى أن تكون طاعة الله فى موضوعات السلطة وتداولها أشد لأن عدم العدل فيها ينتج عنه اعتداء على حرمات الأبرياء وحرياتهم أى هو ارتكاب جرائم النفس بوساطة الأقوياء ظلماً وعدواناً على الضعفاء وهى أشد من ارتكابهم جرائم الأموال فى حق الضعفاء ظلماً وعدواناً.
فإذا اختلفوا فإن أساس التقاضى العادل وأركانه يرعاها الله بنفسه فى آيات محكمات ويتوعد الخارج عن هذه الأسس أشد العذاب، حيث تقع كل هذه المعاملات على أساس متين من وجوب القسط فى الشهادة وعدم كتمها وتحريم قول الزور، وتلك أهم أسس إقامة العدل فى جميع المعاملات بين الأفراد وفى ساحات القضاء بل تكفي وحدها لإقامة مجتمع العدل والاستقامه، حيث يأمر الله سبحانه من يتكلم أن يعدل فيما يقول، انظر الآية الكريمة :
(وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [الأنعام،152]،
وأيضًا:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) [المائدة، 8]
وأيضاً أمر بعدم كتم الشهادة:
(وَإِنْ كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تجِدُوا كَاتِباً فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) [البقرة،283].
أما القصاص فالمبدأ واضح:
(وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ) [النحل، 126].
وخلاصة حكم الله وشرعه :
(الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ) [الحج، 41]،
وأيضاً:
(مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمْ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) [الفتح، 29]
وأيضاً:
(تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [القصص،83]،
وأيضاً:
(وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً) [النساء، 75].
هذا هو الإطار العام للتعامل.فى الإسلام. أما الإحسان بين الناس والتصدق بالمال والتنازل عن القصاص باعتباره صدقة فبالاستحباب وبالاختيار، والإجبار فيه محرم أما احترام الحقوق والدفاع عن حقوق الضعفاء خاصة فأمر واجب .
4- نظام الحكم فى الإسلام
يُبنى نظام الحكم فى الإسلام على الأساس المتين من المبادئ العامة للمعاملات فى الإسلام، وتزداد الأمور إيضاحا واتساقا بدراسة المبادئ الخاصة فى الحكم كما بينها القرآن وسنَّة الرسول الكريم ﷺ ، ثم الإضافة المحددة التى بينها الخلفاء الراشدون رضوان الله عليهم أجمعين بيانا للفرق بينهم وبين الرسول الكريم، الذى كرمه الله بالعصمة من الخطأ ذلك أن أبا بكر وعمر رضى الله عنهما طلبا من الناس التقويم والمراجعة. وهى إضافة تؤكد المبادئ الإسلامية المؤكدة فى المساواة بين البشر جميعا وفى الأمر بالشورى عند اتخاذ القرار، حتى لا يتطاول حاكم من البشر ويدعى لنفسه ما لرسول الله ﷺ من حقوق أساسها الضمنى هو العصمة من الخطأ.
4-1: ولاية رسول الله ﷺ للقيادة فى المجتمع
تولى رسول الله ﷺ القيادة وقام بكل ممارسات السلطة المركزية فى مجتمع المسلمين الأوائل. وعن الرسول عامة يقول سبحانه:
(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) [الأنبياء، 107]،
وأيضاً:
(وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم، 4].
كان الرسول الكريم وبحق رحمة وعلى خُلُق عظيم، فقد كان قرآناً يمشى على الأرض فلم يأمر أصحابه بشيء إلا وطبقه على نفسه صغيراً كان أو كبيراً وعلى الرغم من مكانته العالية بين أصحابه إلا أنه لم يختص نفسه ولا أسرته بأبهة سلطة ولا ترف مال:
(قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28) وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِي إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (29)) [الأحزاب، 28، 29]
ولا اعتداء على أحد بقول أو عمل حتى أحبه أصحابه وفى ذلك يقول سبحانه:
(فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) [آل عمران، 159]
وعن الشورى يؤكد الله عن مجتمع المسلمين:
(وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) [الشورى، 38 ]،
ومعنى هذا الأمر بالشورى فى أول انطباع لمعناه العام أن يشارك أكبر عدد ممكن من المؤمنين فى اتخاذ القرار سواء ممن يعملون فى النظام الإدارى من المختصين أو ممن تطبق عليهم القرارات وتعنيهم نتائجه فيزداد القرار عمقا وعرضا ليشمل كل الجوانب التى يؤثر فيها ويتأثر بها وبذلك يكون أمرهم شورى بينهم، وفى أقل معانيه ألا يُمنع أحد من إبداء رأيه ولا يُضار أحد فى ذلك حتى ولو اختلف معه المختلفون.
يستطيع القارئ أن يتعرف على السيرة العطرة ويتأكد من عدل الرسول الكريم مع أصحابه، بل ومع أعدائه أيضاً وإحسانه لهم جميعا حتى ألف بين القلوب واستمال كل من تعامل معه بحلمه وكرمه وعدله ودوام مشاورة المسلمين فى أمور دنياهم مع شرح دينهم وعدم التعدى على ثوابته حيث لا مشورة فى الثوابت بل إعمال العقل فى فهمها وتلك من ثوابت الإدارة العلمية. كتب المراجع والسيرة منهل لهذه المعلومات مما يضيق عنه مجال هذه الصفحات. ولكن يود كاتب هذه المقالة أن يؤكد على نقطتين حاكمتين فى الموضوع ؛ الأولى فى ذكر الخبر عن بدء مرض رسول الله ﷺ الذى توفى فيه والثانية أنه تصدق بكل ما فى بيته لأن الأنبياء لا يورثون ولكل منهما دلالته العظيمة.
أما فى ذكر الخبر عن مرض رسول الله الذى توفى فيه فقد ورد فى تاريخ الطبرى[ ]، عن الفضل بن عباس، قال : جاءنى رسول الله ﷺ فخرجت إليه فوجدته موعوكا قد عصب رأسه، فقال: خذ بيدى يا فضل، فأخذت بيده حتى جلس على المنبر، ثم قال: ناد فى الناس. فاجتمعوا إليه، فقال: أما بعد أيها الناس، فإنى أحمد إليكم الله الذى لا إله إلا هو ؛ وإنه قد دنا منى حقوق من بين أظهركم، فمن كنت جلدت له ظهراً فهذا ظهرى فليستقد منه، ومن كنت شتمت له عرضاً فهذا عرضى فليستقد منه ؛ ألا وإن الشحناء ليست من طبعى ولا من شأنى، ألا وإن أحبكم إلى من أخذ منى حقا إن كان له، أو حللنى فلقيت الله وأنا طيب النفس ؛ وقد أرى أن هذا غير مغن عنى حتى أقوم فيكم مراراً.
قال الفضل ثم قام فصلى الظهر، ثم رجع فجلس على المنبر، فعاد لمقالته الأولى فى الشحناء وغيرها، فقام رجل فقال يا رسول الله؛ إن لى عندك ثلاثة دراهم، قال أعطه يا فضل، فأمرته فجلس، ثم قال: أيها الناس، من كان عنده شيء فليؤده ولا يقول فضوح الدنيا، ألا وإن فضوح الدنيا أيسر من فضوح الآخرة.
ثم كانت الوصية التالية[ ]، إنى لكم بشير ونذير، لا تعلوا على الله فى عباده وبلاده ؛ فإنه قال لى ولكم:
(تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [القصص، 83].
وقال:
﴿ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ ﴾[الزمر، 60].
فقلنا متى أجلك؟ قال : قد دنى الفراق والمنقلب إلى الله وإلى سدرة المنتهى.
أما الثانية[ ]، أنه كان عنده صلى الله عليه وسلم أول ما اشتد به المرض سبعة دنانير خاف أن يقبضه الله إليه وما تزال باقية عنده، فأمر أهله أن يتصدقوا بها. ولكن اشتغال أهله بتمريضه أنساهم تنفيذ أمره. فلما أفاق يوم الأحد الذى سبق وفاته من إغمائه سألهم: ما فعلوا بها؟ فأجابت عائشة أنها ما زالت عندها . فطلب إليها أن تحضرها، فوضعها فى كفه ثم قال: «ما ظن محمد بربه لو لقى الله وعنده هذه». ثم تصدق بها جميعاً على فقراء المسلمين[ ]. بل إن رسول الله ﷺ قد أكد[ ]،: «لا نورث (ويقصد معشر الأنبياء)، ما تركناه فهو صدقة، إنما يأكل آل محمد فى هذا المال»[ ].
و هكذا كانت ولايته صلى الله عليه وسلم، لا ظلم ولا تمتع بسلطة ولا مال ؛ يأكل مما يأكل عامة المسلمين ويلبس مما يلبس عامتهم من يدخل عليه فى أصحابه لا يعرفه من بينهم حيث لا يميز نفسه فى مجلسه ولا ملبسه وعند الوفاة تصفية لأى حقوق تخص الغير وتقع لديه سواء من الحقوق الناتجة عن ممارسة السلطه والنفوذ أو الناتجة عن الولاية فى المال العام، ثم تأكيد لكل ذلك بأن يلقى ربه دون أن يورث شيئا لأهله.
4-2: ولاية الخلفاء الراشدين للقيادة فى المجتمع
لم تختلف ولاية الخلفاء الراشدين عن ولاية رسول الله صلى الله عليه وسلم من حيث العفة عن الاستفادة من أبهة السلطة أو التمتع بالنفوذ أو التربح من السلطة بأى شكل كان بل كانت أمانة وتكليفا تحملوه أملا فى الثواب من الله سبحانه وتعالى وسيرتهم العطرة متاحة لمن يطلبها فى كثير من المراجع. ولكن الإضافة التى حرص على إضافتها صاحبا رسول الله ﷺ ؛ أبو بكر وعمر رضى الله عنهما، خاصة أنهما تعاقبا على الحكم من بعده ولتكون دستوراً لمن يتولى أمر المسلمين من بعدهم ؛ هى حق الرعية فى محاسبة الحاكم على السلطة المفوضة إليه وتقويمه والمرجع فى ذلك له ولهم هو القرآن الكريم وسنة رسول الله ﷺ بعد ذلك، هو الانضباط فى نظام الدولة الإسلامية، وهذا هو الفهم الصحيح كما أدركه وأوضحه صاحبا رسول الله ﷺ.
انظـر إلى أول ما نطـق بـه سيدنـا أبـو بكر الصديـق فـور توليـه الخلافـة عن رسول الله ﷺ [ ]:«قال: نادى منادى أبى بكر، من بعد غد متوفى رسول الله ﷺ: ليتم بعث أسامة ؛ ألا لا يبقين بالمدينة أحد من جند أسامة إلا خرج إلى الجرف. وقام فى الناس فحمد الله وأثنى عليه وقال: يا أيها الناس إنما أنا مثلكم؛ وإنى لا أدرى لعلكم ستكلفوننى ما كان رسول الله ﷺ يطيق؛ إن الله اصطفى محمداً على العالمين وعصمه من الآفات ؛ وإنما أنا متبع ولست بمبتدع؛ فإن استقمت فتابعوني، وإن زغت فقومونى؛ وإن رسول الله ﷺ قبض وليس أحد من هذه الأمة يطلبه بمظلمة ضربة سوط فما دونها؛ ألا وإن لى شيطاناً يعترينى؛ فإذا أتانى فاجتنبونى؛ لا أؤثر فى أشعاركم وأبشاركم، وأنتم تغدون وتروحون فى أجل قد غيب عنكم علمه؛ فإن استطعتم ألا يمضى عنكم هذا الأجل إلا وأنتم فى عمل صالح فافعلوا» ثم استمر رضى الله عنه فى موضوعات أخرى من الشئون والنصائح العامة[ ].
انظر أيضا كيف تعفف عن أموال المسلمين وهو فى الولاية[ ]: «وكان رجلاً تاجراً (وهو أبو بكر)، فكان يغدو كل يوم إلى السوق فيبيع ويبتاع؛ وكانت له قطعة غنم تروح عليه ؛ وربما خرج هو بنفسه فيها ؛ وربما كفيها فرعيت له، وكان يحلب للحى أغنامهم، فلما بويع للخلافة قالت جارية من الحى : الآن لا تحلب لنا منائح دارنا، فسمعها أبو بكر فقال: بل لعمرى لأحلبنها لكم ؛ وإنى لأرجوا ألا يغيرنى ما دخلت فيه عن خلق كنت عليه. فكان يحلب لهم، فربما قال للجارية من الحى : يا جارية أتحبين أن أرعى لك، أو أصرح ؟ فربما قالت: إرع، وربما قالت : صرح ؛ فأى ذلك قالته فعل ؛ فمكث كذلك بالسنح ( أحد ضواحى المدينة ) ستة أشهر ؛ ثم نزل إلى المدينة، فأقام بها، ونظر فى أمره فقال: لا والله، ما تصلح أمور الناس التجارة، وما يصلحهم إلا التفرغ لهم والنظر فى شأنهم، ولابد لعيالى مما يصلحهم . فترك التجارة واستنفق من مال المسلمين ما يصلحه ويصلح عياله يوما بيوم، ويحج ويعتمر . وكان الذى فرضوا له ستة آلاف درهم . فلما حضرته الوفاة، قال: ردوا ما عندنا من مال المسلمين ؛ فإنى لا أصيب من هذا المال شيئا، وإن أرضى التى بمكان كذا وكذا للمسلمين بما أصبت من أموالهم؛ فدفع ذلك إلى عمر، ولقوحاً وعبداً صيقلاً، وقطيفة ما تساوى خمسة دراهم؛ فقال عمر : لقد أتعب من بعده.
وقال على بن محمد – فيما حدثنى أبوزيد عنه فى حديثه عن القوم الذين ذكرت روايته عنهم – قال أبوبكر : انظروا كم أنفقت منذ وليت من بيت المال فاقضوه عنى. فوجدوا مبلغه ثمانية آلاف درهم فى ولايته[ ].
وهكذا كانت ولايته رضى الله عنه، تماما على سنة رسول الله ﷺ ، لا ظلم ولا تمتع بسلطة ولا مال يأكل مما يأكل عامة المسلمين ويلبس مما يلبس عامتهم، من يدخل عليه فى أصحابه لا يعرفه من بينهم حيث لا يميز نفسه فى مجلسه ولا ملبسه مع التأكيد من لحظة بداية ولايته على الفرق بين الرسول الكريم المؤيد بالوحى والمعصوم من الخطأ وذلك الذى يخلفه من البشر، مرجعه اتباع القرآن والسنة ولا يبتدع ؛ فإن استقام فليتبعه المسلمون، وإن زاغ فليقوموه (وهذا يعنى أن من حقهم محاسبته على السلطة العامة المفوضة إليه)، وعند الوفاة تصفية لأى حقوق تخص الغير وتقع لديه سواء من الحقوق الناتجة عن ممارسة السلطه والنفوذ أو الناتجة عن الولاية فى المال العام، ثم تأكيد لكل ذلك بأن يلقى ربه دون أن يورث شيئا لأهله مما حصل عليه من المال العام.
هذا سيدنا أبوبكر، فماذا عن عمر بن الخطاب؛ من أراد أن يفهم عمر فعليه أن يستحضر الحديث الشريف: «جعل الله الحق على لسان عمر وقلبه»[ ]. فكان شديداً فى الحق على نفسه أولاً وعلى أهل بيته ثانياً ثم على ولاته وكبار دولته، ينتصر للعدل طاعة لله سبحانه وحباً فى العدل جُبل عليه حتى أصبح علماً على ذلك، يلوذ به الضعفاء والمظلومون فينتصر لهم على كل جبار وظالم.
هذا أول خطاب له يخرج به إلى الناس فى المسجد فى ثالث أيام ولايته، يرسم به سياسة دولته[ ]: «ثم إنى وليت أموركم أيها الناس . فاعلموا أن تلك الشدة قد أضعفت، ولكنها تكون على أهل الظلم والتعدى على المسلمين. فأما أهل السلامة والدين والقصد فأنا ألين لهم من بعضهم لبعض، ولست أدع أحدا يظلم أحدا أو يتعدى عليه حتى أضع خده على الأرض، وأضع قدمى على الخد الآخر حتى يذعن بالحق . وإنى بعد شدتى تلك أضع خدى على الأرض لأهل العفاف وأهل الكفاف. ولكم على أيها الناس خصال أذكرها لكم فخذونى بها:
لكم على ألا أجتبى شيئا من خراجكم ولا ما أفاء الله عليكم إلا من وجهه. ولكم على إذا وقع فى يدى ألا يخرج منى إلا بحقه، ولكم على أن أزيد عطاياكم وأرزاقكم إن شاء الله تعالى، وأسد ثغوركم . ولكم على ألا ألقيكم فى المهالك، ولا أجمركم فى ثغوركم ( أى جمعهم فى الثغور وحبسهم عن العود إلى أهلهم )، وإذا غبتم فى البعوث فأنا أبو العيال.
فاتقوا الله، عباد الله، وأعينونى على أنفسكم بكفها عنى، وأعينونى على نفسى بالأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر، وإحضارى النصيحة فيما ولانى الله من أمركم. أقول قولى هذا وأستغفر الله لى ولكم»[ ].
وقد سئل يوما عما يحل له من مال الله، فقال : «أنا أخبركم بما استحل منه ؛ يحل لى حلتان: حلة فى الشتاء وحلة فى القيظ، وما أحج عليه وأعتمر من الظهر، وقوتى وقوت أهلى كقوت رجل من قريش ليس بأغناهم ولا أفقرهم . ثم أنا بعد رجل من المسلمين يصيبنى ما أصابهم». وكان يقول: «إنى أنزلت مال الله منى بمنزلة مال اليتيم، فإن استغنيت عففت عنه، وإن افتقرت أكلت بالمعروف»[ ]. وكان تعففه عما فى بيت المال يبلغ به فى بعض الأحيان حد الحرج . اشتكى يوما فوصف له العسل، وفى بيت المال عكة منه، فلما كان على المنبر قال: «إن أذنتم لى فيها وإلا فإنها علىّ حرام»[ ]. ورأى المسلمون ما رأوا من شدته على نفسه . فذهبوا إلى ابنته حفصة أم المؤمنين . فقالوا لها: «أبى عمر إلا شدة على نفسه وحصرا، وقد بسط الله الرزق فليبسط فى هذا الفئ فيما شاء منه، وهو فى حل من جماعة المسلمين». وكأنما قاربتهم حفصة فى هواهم، فلما دخل عليها عمر أخبرته بالذى قالوا، فكان جوابه : «يا حفصة بنت عمر، نصحت قومك وغششت أباك . إنما حق أهلى فى نفسى ومالى، فأما فى دينى وأمانتى فلا»[ ].
يستطيع القارئ أن يتأكد من صدق عمر فى تطبيق هذا الدستور فى الحكم من مراجعة سيرته[ ]، [ ]، [ ]، والتأكد من عدله ورحمته وأمانته وعفته عن السلطة والمال العام وتطبيقه هذه المبادئ على نفسه أولا ثم أهل بيته ثم كبار رجال دولته ثم عامة الناس . هذا هو عمر رضى الله عنه، لكن نذكر من كل سيرته العطرة تلك الواقعة كبيان عملى لكل سمات عصره[ ]:
«جاءت عمر برود من اليمن ففرقها بين المسلمين فخرج فى نصيب كل رجل برد واحد ونصيب عمر كنصيب واحد منهم. قيل: واعتلى عمر المنبر وعليه البرد وقد فصله قميصا، فندب الناس للجهاد، فقال له رجل: لا سمعا ولا طاعة . فقال عمر: ولم ذلك؟ قال الرجل لأنك استأثرت علينا؛ لقد خرج فى نصيبك من الأبراد اليمنية برد واحد، وهو لا يكفيك ثوبا، فكيف فصلته قميصا وأنت رجل طويل؟ فالتفت عمر إلى ابنه قائلا: أجبه يا عبد الله. فقال عبد الله : لقد ناولته من بردى فأتم قميصه منه . قال الرجل: أما الآن فالسمع والطاعة»[ ].
تأمل هذه الواقعة وتعجب، هذا رئيس الدولة يتعامل مع المال العام باعتبار أن له حرمة كحرمة مال اليتيم فلم يأخذ منه إلا ما تشتد حاجته إليه ومثله مثل غيره، ثم هذا رجل من العامة يحاسبه على المال العام فيجيب عليه ولا يتكبر. رئيس الدولة يسير بين الناس ويتحاور معهم بلا حراسة ولا جند ولا حملة مباخر يُسكتون له الناس، وهذا يعنى أيضا حرمة السلطة العامة حرمة مساوية لحرمة المال العام؛ أى لا تُستخدم إلا فيما فوضت له. أما عن قبول مبدأ محاسبة رئيس الدولة (وما دونه من الموظفين العموميين) من قبل رعايا الدولة فمبدأ كان ينفذه عمر ببساطة وعفوية وكأن الناس قد جبلت عليه.
وعمر هو الذى قال لعمرو بن العاص: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً وهو يقتص منه لصالح أحد أبناء البلاد التى فتحت فى عهده وهو المصرى الذى ضربه ابن عمرو وهو يظن نفسه ابن الأكرمين، وهو نفسه الذى طلب من المصرى أن يضرب عَمْراً قائلاً: أحلها على صلعة عمرو، فوالله ما ضربك ابنه إلا بفضل سلطانه[ ]،[ ].
ثم هذا عمر رضى الله عنه وأرضاه، وجازاه عنا كل خير، هذا عمر يحرم الإعتقال أو الضرب بدعوى تأديب الرعية أو غيره[ ]:
«خطب عمر بن الخطاب، فقال: يأيها الناس؛ إنى والله ما أرسل إليكم عمالا ليضربوا أبشاركم ( أى وجوهكم )، ولا ليأخذوا أموالكم ؛ ولكنى أرسلهم إليكم ليعلموكم دينكم وسنتكم ؛ فمن فعل به شئ سوى ذلك فليرفعه إلى ؛ فوالذى نفس عمر بيده لأقصنه منه . فوثب عمرو بن العاص، فقال : يأمير المؤمنين ؛ أرأيت إن كان رجل من أمراء المسلمين على رعية، فأدب بعض رعيته، إنك لتقصه منه ! قال : إى والذى نفس عمر بيده إذا لأقصنه، وكيف لا أقصه منه وقد رأيت رسول الله ﷺ يقص من نفسه ! ألا لا تضربوا المسلمين فتذلوهم، ولا تجمروهم فتفتنوهم، ولا تمنعوهم حقوقهم فتكفروهم، ولا تنـزلونهم الغياض فتـضيعوهم».
وتتأكد نفس هذه القصة، قصة طلب تأديب الرعية ورفض عمر لهذا المبدأ الخطير، مع مبادئ مكملة فى فقه السنة[ ]، موضحة تحت عنوان «الإقتصاص من الحاكم» باعتباره فرداً من أفراد الأمة، لا يتميز إلا كما يتميز الوصى أو الوكيل، ويجرى عليه ما يجرى على سائر الأفراد». وهو مبدأ أكده الرسول عليه الصلاة والسلام وأبو بكر وعمر[ ].
ثم نؤكد على نفس المبادئ بالتأمل فى واقعة اغتياله من قبل أبو لؤلؤة المجوسى[ ]:
«خرج عمر بن الخطاب يوما يطوف فى السوق، فلقيه أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة؛ وكان مجوسياً، فقال يا أمير المؤمنين، أعدنى على المغيرة بن شعبة ؛ فإن على خراجاً كثيراً، قال: وكم خراجك؟ قال درهمين كل يوم، قال وأيش صناعتك؟ قال : نجار، نقاش، حداد، قال: فما أرى بخراجك كثير على ما تصنع من الأعمال ؛ قد بلغنى أنك تقول : لو أردت أن أعمل رحى تعمل بالريح لفعلت، قال : نعم ؛ قال فاعمل لى رحا، قال: لإن سلمت لأعملن لك رحا يتحدث بها من بالمشرق والمغرب، ثم انصرف عنه ؛ فقال عمر : لقد توعدنى العبد آنفاً». وبعد ثلاثة أيام اغتالة بطعنات فى ظهره وهو يصلى[ ].
هذا عمر بن الخطاب رئيس أكبر دولة فى ذلك الوقت بعد انكسار الفرس والروم أمام جيوشه، ومع ذلك يسير فى الأسواق يتفقد حال الرعية بلا موكب ولا حراسة، ثم يهدده أحد الأسرى فلا يعتقله ولا يتخذ ضده إجراء استثنائياً بل ويستمر على نظامه العادى بلا حراسة ولا يعاقب أبو لؤلؤة إلا على جرم مادى ارتكبه فعلا وليس على شبهات ولا ظنون، على الرغم من أن الذى يهدده هو عمر، وأن عمر قد فهم التهديد وأدركه .
كان الرسول ﷺ مبجلاً بين أصحابه وكان أبو بكر كذلك، أما عمر فقد كان إضافة لذلك، وبمقاييس الدنيا، رئيس أكبر دولة فى عصره ومع ذلك عف الجميع عن التمتع بالسلطة على رءوس الرعية وتعاملوا مع المال العام كأحسن ما يتعامل الوصى مع مال اليتيم وساروا بين الناس يسمعون منهم ويتحاورون ويتشاورون ويتبعون أحسن ما يعلمون مما يصلح شئون الدين والدنيا ويقرر أبوبكر فى أول عبارة عامة يخطبها حق الرعية فى محاسبته كرئيس للدولة تشديداً على أنه ليس معصوماً من الخطأ مثل الرسول الكريم ويعيدها عمر فى ولايته وينفذها كأحسن ما تنفذ على نفسه وعلى ولاته وكبار رجال دولته.
الإسلام عقيدة وشريعة، ولا يختلف أحد على ذلك، والدولة بما لديها من سلطات تمارسها على رعاياها، هى التى تطبق الشريعة، ويمكن أن تنحرف بالتطبيق، بل وبالمفاهيم نفسها، ما لم يكن عليها مرجعية تصحح مسارها، ليس فى الإسلام كهانة ولا كهنوت ولا إمامة مستقلة تشرع بما لم يأت به الله ورسوله، وفى ذلك يقول الله سبحانه وتعالى:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ) [النساء، 59]،
بمعنى أطيعوا الله، فهو مصدر للتشريع، وأطيعوا الرسول، فهو مصدر للتشريع يوحى إليه، ويكمل هذا المفهوم أنه معصوم من الخطأ
(وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5)) [النجم، 1-5]
لأن هذه العصمة ضرورية طالما له حق التشريع، أما أولى الأمر منكم فأطيعوهم طالما أطاعوا الله ورسوله فهم ليسوا مصدراً للتشريع، وهذا ما حرص على بيانه، أبو بكر وعمر رضى الله عنهما، عندما طلب كل منهما فى بدء حكمه التقويم والنصيحة مبينين أنهما غير معصومين من الخطأ، فهذا أبوبكر فى خطبته «إن الله اصطفى محمدًا على العالمين وعصمه من الآفات ؛ وإنما أنا متبع ولست بمبتدع ؛ فإن استقمت فتابعونى، وإن زغت فقومونى» وهذا عمر «أعينونى على نفسى بالأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر، وإحضارى النصيحة فيما ولانى الله من أمركم»، وهما أعف الناس عن السلطة والمال العام، بل وأكثر الناس علما بالشريعة الإسلامية، لكنه إعلان للحقوق والواجبات لتعليم من يأتى من بعدهم.
وهكذا، وبمعايير تعريف عناصر النظام السياسى، بند ( 2 )، نستطيع أن نقول أن العلاقة كانت واضحة فى تقرير الحقوق والواجبات بين الحكام والمحكومين فى عهد الرسول الكريم وخلفائه الراشدين، فالمواطن يكتسب حق المواطنة بطاعة الله والرسول وأولوا الأمر (وهو المحافظة على الدولة والدستور والنظام)، وبالمقابل له حقوقه المقررة فى المبادئ العامة للشريعة الإسلامية ويزيد عليها تخصيصاً، مبدأ حق الشورى المقرر للمحكومين قبل الحكام فى القرآن الكريم وتفصيلا فى سنة الرسول الكريم فى الحكم والإدارة، حيث تميزت بالعدل بين الرعية وعدم استخدام السلطة العامة فى غير ما قررت له، وعدم وجود أبهة للحكم، ولا تمتع بالحكم ولا بالمال العام فقد حرم الله ذلك على زوجات رسول الله ﷺ (سورة الأحزاب، آية 28، 29 )، وحرمة المال العام قبل الحاكم كحرمة مال اليتيم ( خطبة عمر بن الخطاب )، وعند الوفاة، أو مغادرة السلطة حرص على رد المظالم لأفراد الرعية ولو بجلدة على الظهر يردها الحاكم لفرد رعيته الذى بغى عليه . هذه هى الشريعة الإسلامية والسنة النبوية الشريفة و«إن رسول الله ﷺ قبض وليس أحد من هذه الأمة يطلبه بمظلمة ضربة سوط فما دونها» (خطبة أبى بكر)، ودون تفلسف، كان هؤلاء الولاة الكرام يستطيعون أن يأخذوا من الرعية مثلما كان يأخذ الملوك والأباطرة فى ذلك الوقت ولكنهم عفوا عن ذلك تقوى لله سبحانه وطاعة بصرف النظر عن توازن القوى داخل الدولة وما يمكن أن يتيحه لهم من المتع . هذا الشرع الواضح وهذه السنة فى الحكم والإدارة، يمثلان الأساس للدستور والقانون، وأهم من ذلك يمثل إحياء سنة الرسول الكريم فى الحكم والإدارة، باعتبارها سنة مثل باقى سنن العبادات التى يحرص عليها الأفراد المسلمون، أساساً للثقافة السياسية ومصدراً للقيم لإقامة الدولة الحديثة التى ينعم فيها المواطن بحرية الرأى دون اضطهاد الحكام وأصحاب السلطة للمعارضين فى الرأى أو منع اجتماعهم ودون اعتداء الحكام وأصحاب السلطة على المال العام أو ضرب أو سجن المعارضين.
أما عن السؤال عن الأطر القانونية والمؤسسية فى الدولة الناشئة بما يضمن العلاقة بين الحكام والمحكومين وعدم خروج أحد منهم عن الإطار المسموح به، فأمر لم تسمح به التقنيات القانونية والمؤسسية لذلك العصر، فضلاً عن عدم ظهور الحاجة المباشرة لتلك التنظيمات الدقيقة لتقوم بإجبار الخارجين على النظام بالعودة إليه، فمثل هذا النوع من المواطنين لم يكونوا موجودين على عهد الرسول الكريم وصاحبيه أبى بكر وعمر، فقد حرص كل فرد مسلم فى ذلك العصر على أن يكون منارة للإسلام، فكان كل منهم صحابياً وأُمّة يقيم الشرع والسنة فى نفسه وفى من حوله، وكان كل منهم حارساً للدولة الراشدة الفاضلة، واستمر الأمر كذلك حتى جاء الانقلاب الذى قاده معاوية على دولة الخلفاء الراشدين، ذلك الانقلاب الذى انتهى بظهور حكام يورثون الحكم، إلى آخره، بما أدى إلى قطع التجربة ومنع نموها القانونى والمؤسسى. لقد استمر حكم الرسول الكريم وصاحبيه أبو بكر وعمر حتى عام 24 هجرية، هى عمر التجربة، حيث مرت بعد ذلك بعهدين انتقاليين ؛ هما ولاية سيدنا عثمان رضى الله عنه حيث تسلل الأمويون إلى مراكز الدولة العليا، وانتهى بعهد سيدنا على بن أبى طالب من عام 35 هجرية حتى قتل عام 40 هجرية وكانت كلها فترة المنازعات والفتن على النحو المعلوم فى التاريخ، والذى انتهى بزوال دولة الخلفاء الراشدين الشرعية الفاضلة وظهور الدول الإسلامية التاريخية، التى تختلط فيها توازنات القوى مع بعض النزوع إلى الثقافة الإسلامية فى الحكم والإدارة تزيد وتنقص حسب الظروف والأمزجة . لقد كانت دولة الخلفاء الراشدين الفاضلة التى لم تستمر أكثر من 40 عاماً تجربة فريدة غير مسبوقة فى التاريخ الإنسانى، وبالتالى لا يوجد ما يشبهها فى الأطر القانونية المدنية ولا المؤسسية السياسية، ولا يعنى ذلك أنه لم تكن هناك دولة، بل هناك دولة يمكن إحياؤها بإحياء سنة الرسول الكريم فى الحكم والإدارة فى سلوكيات الأفراد المسلمين فيكف كل منهم عن منع حق غيره فى الشورى وحرية الرأى، أو اللجوء إلى تغييب وعى الآخرين أو التكسب من ذلك، وأن يكف كل منهم عن التكسب من السلطة العامة المفوضة إليه، أياً كان مستوى سلطته صغيراً أو كبيراً، وأن يرد المظالم، ولا يعين ظالماً، بوجود مثل هؤلاء الأفراد، يمكن أن يخرج من بينهم من يُكمل العمل الذى بدأ ولم يكتمل، ويستنبط لدولة الخلفاء الراشدين الأُطر القانونية والمؤسسية.
5- الفتنة الكبرى، حتمية حدوثها، وأثرها على الفقه السياسى الإسلامى
كانت سنة الرسول الكريم وخلفائه الراشدين فى الحكم والإدارة تشريعاً متميزاً ذا أسس وأطر واضحة لمن طبقوه والتزموا به، بدليل أنه طُبق على مدى ثلاثين سنة متصلة من بعد بيان الرسول الكريم له وعلى يد أربعة من الخلفاء الراشدين رضى الله عنهم أجمعين لالتزامهم بصحيح السنة والشرع الإسلامى، ثم انقطع هذا الالتزام الكامل وتأرجح بين درجات مختلفة حسب رؤية الحكام المسلمين للأمر، ولم يعد عودة كاملة لله ورسوله إلا الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز رضى الله عنه وأرضاه، عام تسع وتسعين هجرية، أى بعد تسعة وخمسين عاما من الانقطاع، حيث يتفق جمهور علماء المسلمين على اعتباره الخامس من الخلفاء الراشدين، بما يعنى أن هناك سمات واضحة لسنة الخلفاء الراشدين فى الحكم والإدارة.
فى عصر الرسول الكريم وخلفائه الراشدين، لم تكن مستويات البشر العلمية ولا المعارف البشرية ولا وسائل تداول المعلومات ولا مدارس الفكر السياسى المتداول، إلى آخر ما نعلم عن أدوات ومصادر التأثير على الثقافة السياسية، تسمح بغير النظم الاستبدادية فى منظومة العلاقة بين الحكام والمحكومين، وهذا الأمر واضح من تاريخ الممالك المعاصرة لهم، فقد كانت أعظم الإمبراطوريات المعاصرة لهم وأكثرها تقدما وقوة وهما الفرس والروم ودول أخرى أقل منهما ترزح تحت نظم استبدادية، ينعم فيها الحاكم بسلطة لا يحاسبه عليها أحد، ولا حدود بين المال العام فى الدولة وماله الخاص، أما عن تداول السلطة فتوريث الحكم هو النظام السائد .
لذلك نستطيع أن نقول أن الثقافة السياسية السائدة أو هو مفهوم العلاقة بين الحكام والمحكومين لم يكن يسمح باستيعاب أى مبرر لتنازل أصحاب السلطة بدرجاتهم المختلفة بدءاً من الرؤساء حتى أدنى الدرجات في الدولة عن مكاسبهم المتاحة زمنيا لهم، ما لم يكن هناك إيمان شديد بالله سبحانه وتعالى وطمع في مرضاته، هذا الإيمان، وهذا الورع، لم يكن الزمن في صالحهما لأن البعد عن الوحى الإلهي المتمثل في القرآن والسنة ومشاهدتهما رؤية العين لابد من أن يضعف مع الزمن وتباعد الأجيال، والنقل عن جيل من بعد جيل، هذا فضلا عن الدور الذي قام به حديثو العهد بالإسلام الذين أسلموا ولم يؤمنوا ولم يتفقهوا ما أمر الله به، وهم فى تكاثر نتيجة للفتوحات، مما مهد لأحداث الفتنة الكبرى.
كانت أحداث الفتنة الكبرى هي الدليل على العبور الزمني لنقطة التعادل بين ورع الحكام مقابل ميلهم الطبعي إلى التمتع بالسلطة وبالمال العام على النحو السائد في زمانهم مع مقاومة أى مشاركة للآخرين فى سلطة اتخاذ القرار، لقد نسوا ولم يجدوا لأنفسهم عزما، لقد جاءت أحداث الفتنة الكبرى الدامية، تلك الأحداث التى لا زالت تدمى قلب كل مسلم يقرأ عنها حتى اليوم بأثر خطير على الفقه الإسلامى الذى كُتب من بعدها، حيث نستطيع أن نلاحظ، وهذا منطقى تماما، أن الفقهاء المسلمين قد ظهر فيهم تياران رئيسان، الأول يحركه حسن النية، حيث يدعو إلى السمع والطاعة، ولو ظلم الحكام، تجنبا للفتنة الداخلية التى قد تمزق دول المسلمين، والثانى يحركه الطمع فى مشاركة الحكام بعض ما يحصلون عليه من مغانم لم يشرعها الله لرسوله ولا لأحد من بعده ويدعوا أيضا إلى السمع والطاعة والصبر على مظالم الحكام، وانطمس نتيجة لذلك الفقه الإسلامى الصحيح المتوازن فى الحقوق والواجبات بين الحكام والمحكومين، وهو فقه سنة الرسول الكريم وخلفائه الراشدين فى الحكم والإدارة، وإذا علمه أحد فإن نشر أحكامه وتداول تطبيقاته لا يتفق مع إدارات مثل هذه الدول التى يحصل فيها الحكام علي مغانم لم يشرعها الله لرسوله ولا لأحد من بعده، وأصبحت سيرة الخلفاء الراشدين من القصص التاريخية البديعة وليست لاستخلاص الأحكام .
بين النظام السياسي والفقه السياسي:
النظام السياسى والفقه السياسى فى الدولة لا يمكن أن يستقرّا دون توافق بينهما، وحيث أن النظام السياسى بعد القضاء على الخلافة الراشدة قد استقر على نظام الملك ووراثة السلطة وتمكن الحاكم من كل سلطة القرار دون حساب ودون احتمال محاسبة بأى شكل من الأشكال أو مراجعة للمظالم، ولا حتى عند الوفاة، وذلك فى كل نواحى الدولة السياسية والعسكرية والأمنية وكل أمور المال العام، لذلك لم يعد أمام رجال الفقه الإسلامى مساحة إلا أن يستصدروا أحكاما تتوافق مع هذا الواقع ولا تتصادم معه، أيضا علم رجال الدول الإسلامية أن الدين الإسلامى هو مصدر تماسك الدولة فأبقوا على كل ما فيه عدا ما لا يناسب حصولهم على السلطة المطلقة فى الدولة، وكذلك توافق معهم الفقهاء فى أحكامهم، وحقيقة لا يمكن أن تسير الأمور بطريقة منطقية بغير هذا الوصف، وعلم السياسة بفروعه شاهد على ذلك، ولذلك نستطيع أن نصف كل الأحكام الفقهية التى تختلف عن سنة الرسول الكريم وخلفائه الراشدين فى الحكم والإدارة ما هى إلا نوع من تاريخ الأحكام الفقهية فى الدول الإسلامية يعكس فكر فترة تاريخية معينة ويتأثر بظروفها وواقعها، لأن الفقه الإسلامى وإطار المعاملات الإسلامية الشرعية واحد لا يتبدل وقد بينه الله سبحانه وتعالى فى قرآنه الكريم وسنة رسوله الشريفة وفصَّلها خلفاؤه الراشدون، وليس لنا أن نبتدع على الإسلام ولا على الله ولا على رسوله .
منذ أحداث الفتنة الكبرى، وهى بداية الانقلاب على سنة الرسول الكريم وخلفائه الراشدين فى الحكم والإدارة، والنظام السياسى فى الدول الإسلامية والقائم على كل ما هو إسلامى عدا ما يمس حصول الحكام على السلطة المطلقة وتوابعها من المكاسب الشخصية لهم، يعتبر بكل المقاييس أكثر عدالة وأكثر تقارباً مع مطالب المحكومين من الدولة وأكثر تقدمية من كل ما حوله من نظم سياسية، وذلك خلال حقبة تاريخية كبيرة بدءاً من حكم معاوية بن أبى سفيان بن حرب وحتى عصر النهضة الأوربية، ولكن الفكر السياسى تقدم فى أوربا وتقارب مع مطالب البشر فى العدل والحرية واتساع المشاركة فى اتخاذ القرار سواء داخل النظام السياسى نفسه أو مع الشعب الذى تدير شئونه الحكومة، وذلك نتيجة للتقدم العلمى الشامل والمتكامل فى العلوم الطبيعية والإنسانية وتقدم مناهج البحث فى هذه العلوم، ويسود حاليا اقتناع شعبى عام، وذلك على أساس من علم الإدارة بضرورة محاسبة كل من يُفَوَّض سلطة عامة على ممارساته للسلطة، وضرورة التأكد من أنها استخدمت فيما فوضت له وليس لأغراض شخصية مع تحديد مدة الرئاسة فى الدولة حيث لا يصل أحد إلى رئاسة الدولة بغير انتخابات (أو مبايعة عامة)، ولعل هذه المبادئ كلها قد جاءت وطُبقت وصُرح عنها بطريقة تتفق مع البداوة والعفوية فى ولاية وخُطب أبى بكر وعمر رضى الله عنهما، هذا بينما تجمد شكل النظم السياسية فى الدول الإسلامية ومعه الفقه الإسلامى الرسمي المرافق له على حالهم، يشد بعضهم بعضا إلى مزيد من الثبات وعدم التطور، ومَثَّل هذا معاوقة لتطور الفكر السياسى فى الدول الإسلامية كما هو كائن ومتداول اليوم، ومؤلف هذه المقالة لا يهمه شأن الدول الإسلامية، ولكن يهمه أن يبرئ الفقه الإسلامى الأصلى كما جاء فى القرآن وسنة الرسول الكريم وخلفائه الراشدين فى الحكم والإدارة من أن يكون متخلفاً أو ناقصاً عن مطلب البشر فى العدل والحرية والمساواة بين الحكام والمحكومين فى السلطة والمسئولية، فمن أخذ سلطة فعليه أن يقبل المحاسبة عليها ومن حُمّل مسئولية فمن الطبيعى أن يُفوض سلطة تُمكنه من تحملها[ ]، ولو توجه الفقهاء إلى القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة وحقبة حكم الخلفاء الراشدين مباشرة لاستخلاص الأحكام الشرعية فى موضوع العلاقة بين الحكام والمحكومين بحيث تصدر الأحكام متوافقة مع الكل وليس الجزء، ومتوازنة فى الحقوق والواجبات بين الحكام والمحكومين لسبقت أحكامهم كل العلوم، أما عن الفقه المكتوب فى الحقب التى تلت أحداث الفتنة فيجب أن يخضع لعملية نقد وتحليل ومقارنة واسعة مع سنة الرسول الكريم وخلفائه الراشدين فى الحكم والإدارة .
أما الفرق بين الفكر السياسى العلمانى والفقه الإسلامى فيكمن فى اختلاف الدوافع حتى لو التقت الأهداف النبيلة، ولعل هذا الالتقاء يدعم تكاملهما، فالدافع فى الفكر العلمانى مصدره الوعى بالمصالح وتوازنات القوى السياسية فى المجتمع، ولا يأنف السياسى من ممارسة الخداع أثناء الممارسة السياسية، ولا يأنف العلمانى أن يفلت بالسلطة دون حساب إن استطاع، أما الدافع لدى المسلم فهو تقوى الله فى ألا يبخس الناس أشياءهم وعدم البغى على الضعفاء والغافلين والمستضعفين وأن يرد المظالم فيلقى الله بوجه طليق، ومن هنا فإن تربية المسلم على احترام حقوق الآخرين السياسية كما عَرَّفَهَا الرسول الكريم وخلفاؤه الراشدون لهو أحفظ لهذه الحقوق وأشد ثباتا، حيث تظهر فئة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر فى هذا الموضوع ولا تشارك فى تغييب وعى الغافلين المغفلين ولا تعين ظالما ولا تبغى على الضعفاء والمستضعفين، وتفعل ذلك لسببين الأول هو الحفاظ على المجتمع وعلى المصالح الشخصية والعامة والثانى هو تقوى الله ورد المظالم .
الحصاد المر:
اليوم، وفى القرن الواحد والعشرين، وقد تطور النمط السائد فى زماننا للعلاقة بين الحكام والمحكومين فى الدول غير الإسلامية إلى اعترافات متوالية بحقوق للمحكومين تتقارب مع تلك التى أمر بها الله فى القرآن وسنة الرسول الكريم وخلفائه الراشدين، تحقيقاً للآية الكريمة:
(سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [فصلت، 53]،
كل هذا يجعل من الحصافة أن يعود المسلمون إلى سنة الرسول الكريم وخلفائه الراشدين فى الحكم والإدارة، لأن الانحراف عنها وعدم إدراك ما قادتنا إليه أحداث الفتنة الكبرى فى نظم الحكم فى الدول الإسلامية وأحدثته من تيارات وسط فقهاء المسلمين، قد جعل هناك حاجزا بين المسلمين ومعايشة عصرهم فى موضوع الحكم والإدارة وما يسمى بالديموقراطية وكفالة حرية التعبير، فالحكام أصحاب مصلحة فى ذلك بحكم الطبيعة البشرية، ويا للأسف أن يكون سندهم فى ذلك ومخرجهم من الحرج هو بعض ما كُتب من بعد الفتنة الكبرى ومتأثراً بها.
هكذا لم تنته الأمور بمن افتعلوا أحداث الفتنة الكبرى إلى ارتكاب فعل القضاء على الخلافة الراشدة ومصادرة حق المحكومين المعاصرين لهم فى الشورى وحرية إبداء الرأى ومحاسبة الحكام على ما أمر الله به من حقوق وحدود، بل امتد إيذاؤهم إلينا نحن المسلمين فى القرن الواحد والعشرين بما خلفوه لنا من فقه منقول لا يأمر بسنة الخلفاء الراشدين فى الحكم والإدارة بل يبرز هذه الأحكام المولدة قسرا تحت ظروف اتقاء الفتنة الكبرى وأمثالها إلى أن أصبحنا نحن المسلمين اليوم، وبحق، غثاء السيل .
6- نقيض النظام الإسلامى فى الحكم (النظام الفرعونى)
لعن الله فرعون وأعوانه، وأغرقهم، والنار يعرضون عليها فى قبورهم غُدواً ورواحاً، ويوم القيامة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب، وهذا قمة المقت من الله سبحانه. وسمات الحكم الفرعونى هى نقيض سنة الله فى الحكم . فقد أخذ من قومه كل ما طالت يداه ولم يرع فيهم عدلاً ولا أدباً ولا عفة ولا رحمة.
انظر إلى قصة فرعون فى سورة الشعراء ، من الآية 16 إلى الآية 66، وأيضاً سورة الأعراف من الآية 103 إلى الآية 137، وأيضا سورة يونس من الآية 75 إلى الآية 92، وسورة القصص من الآية 2 إلى الآية 42، وتأمل ؛ فسوف تجد أن فرعون كان رجل دولة من طراز رفيع يعرف كيف يؤثر فى رعيته ويقودهم بكفاءة فهو يقنعهم بأنه منهم وعليهم ويدرك كيف يملك عقولهم وعواطفهم بينما هم حقيقة، ملك يمينه لا يستطيعون الفكاك من ألاعيبه الملكية المتنوعة التى تبدأ بالكلمة وتنتهى بالسجن والتعذيب والصلب. وفوق ذلك هو رجل يعرف حقيقة نفسه، فعلى الرغم من أنه يدعى الألوهية أمام المغفلين وهم رعيته التى لا يُراع فيهم أى نوع من الرحمة أو الخُـلق يحاول أن يتراجع أمام الله سبحانه بعد أن رأى جبروته،
(وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ) [يونس، 90]،
فهو يخاف ويتراجع مثل كل البشر ولكن بعد أن يلمس القوة التى يتعامل معها وهذا هو رجل الدولة الأمثل بالمفهوم العلمانى، ولم يكن فرعون بشخصه حالة شاذة بين ملوك ذلك العصر، بل هو هنا مجرد نموذج لمثل هذا النوع من الحكام، انظر إلى قصة النمرود مع سيدنا إبراهيم وإلى ملوك الفرس وأباطرة الرومان وطريقة حكمهم للرعية، وغيرهم ممن تمتلئ بسيرتهم كتب التاريخ.
وهذه هى الآيات التى تصف حكم فرعون وعلاقته بشعبه فى القرآن الكريم :
(وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ) [الزخرف، 51].
(فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنْ الْمُسْرِفِينَ) [يونس،83].
(فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ ) [الزخرف، 54].
ونذكر هنا رد فرعون على رجل من قومه يكتم إيمانه يذكره بأنه لا يوجد من ينصرهم من بأس الله:
(يَا قَوْمِ لَكُمْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ يَنصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ ) (غافر، 29].
(وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنْ الْكَاذِبِينَ) [القصص، 38].
(اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى) [طه، 24].
(اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى) [طه، 43].
(فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى) [النازعات، 17].
(قَالَ لَئِنْ اتَّخَذْتَ إِلَهَاً غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنْ الْمَسْجُونِينَ) [الشعراء،29]
(قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) [الأعراف، 123].
(فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ) [القصص، 8].
(النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ) [غافر، 46].
(وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنْ الْمَقْبُوحِينَ (42) ) [القصص، 39 – 42].
(وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ) [يونس، 90].
وهذا يعنى أن فرعون ارتكز حكمه على استخفافه بعقول أفراد رعيته، فتمتع بسلطة استبدادية مطلقة وهذا أخطر ما فى الموضوع ( الزخرف، 54 ) وبمجرد أن استشعر منهم هذه الغفلة، امتد بولايته على عقولهم يغيب وعيهم ولا يريهم إلا ما يرى ويبلغهم أنه ما يهديهم إلا سبيل الرشاد ( غافر، 29 )، وبمجرد أن تمكن منهم إدعى الألوهية (قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ)
وذلك على الرغم من أنه يعرف أنه بشر محدود القدرات ويعاونه فى هذه المهزلة ويقاسمه متعة الحكم وزيره هامان وجنودهما كل يأخذ بقدر حجمه حتى نصل إلى صغار الجنود يأخذون الفتات .
يظن بعض الناس بأن الفرعنة سلوك عفى عليه الدهر ولم يعد له مكان فى الحياة الآن، وهذا غير صحيح، فلم يكن فرعون إلا رجل دولة أصيل، يمارس مباراة الحكم مع المحكومين ويأخذ منهم كل ما تطوله يداه، ويمارس المباراة بكل ما فيها من كر وفر، إنه سلوك برجماتى أصيل لقد امتلك فرعون كل الوسائل مقابل شعبه فلم يرحمهم، أنظر إليه وهو يدعى على المغفلين بأنه إله، ولكن هذا الإله الجبار ينحنى بكل نطاعة عندما يواجه قوة تقهره، فانظر إلى سلوكه عندما واجه الغرق حيث نسى كل ما أظهره من تكبر على الله وأعلن إيمانه، ولكن متى، بعد أن أصبح فى موقف ضعف وذله، ( يونس، 90 ) . وهذا هو رجل الدولة بالمعنى العلمانى الحق يفهم فى توازنات القوى ويتعامل معها بمنطق المنفعة فقط يتكبر فى مواقف القوة لإرهاب الخصوم ولا يجد خصاصة فى استرحامهم عند مواقف الضعف والذله، وكذلك يفعل كل الظلمة والمتكبرين، فهم أول من يعلمون حجمهم الحقيقى.
السلوك البرجماتى الذى لا يهدف إلا لمنفعة صاحبه ولا يحده إلا توازنات القوى، هو سلوك قابل للتطبيق فى كل زمان ومكان، فبعد عصور الفراعنة، وقد كانوا هم رؤساء أعظم الممالك فى عصرهم، وعندما لم يعد فى إمكان أحد أن يدعى بأنه الإله أو أنه ابن الإله، ومن مبدأ البرجماتية أيضاً، ظهر من بين حكام الدنيا من يدعى الحكم بالحق الإلهى، فالملك ملك الله سبحانه، قد فوض الحاكم بالسلطة لكى يحمل مسئولية الدفاع عن الدين وعن الديار، ومادام التفويض من الله، فلا حق لأحد غيره فى محاسبته، وهذا النمط من الحكم قد شاع فى الدول الأوروبية، وفى غيرها على طول البلاد وعرضها، بل ووجد التنظير والتبرير لكل أو بعض ممارسات الفرعنة، وما كان ممكنا لولا أنه ارتكز على نفس ما ارتكز عليه الفراعنة، وهو تغفيل المحكومين بهدف الحصول على السلطة دون أن يقابلها لا المسئولية ولا الحساب .
هذه هى البدايات التاريخية للعلاقة بين الحكام والمحكومين فى المجتمعات الإنسانية، كل سلطة الدولة، وبالطبيعة فى يد الحكام، حيث يديرون الأمر كله لصالح أنفسهم، ولكن تطور بعد ذلك عاملان أساسيان دفعا هذه العلاقة البرجماتية إلى التوازن فى الحقوق والواجبات بينهما ( وهو الذى انعكس فى المبدأ السياسى/الإدارى الذى يحترمه أهل العلم حاليا وهو لا سلطة بغير مسئولية ولا مسئولية بغير سلطة[ ])، هذان العاملان هما:
الأول: التطور التكنولوجى فى وسائل التنقل والاتصال بما يسمح باتساع دائرة تناقل المعلومات وتداولها، وبالتالى اتساع دائرة المشتركين فى التشاور فى الأمور السياسية والإدارية سواء كان لديهم هذا الحق أو نشأ لديهم بطبيعة وصول المعلومة إليهم ووعيهم بتأثيرها على حياتهم الخاصة فيتحركون من أجل مصالحهم .
الثانى: تعاظم التجربة التاريخية والسياسية والإدارية مصحوبا بالتطور التكنولوجى (الصناعى والزراعى)، وما يستتبعه من مهارات تعليمية وبالتالى قدرات الفهم وبحوث العمليات بما ينمى قدرات الأفراد بمعانى ومرامى الأحداث والموضوعات السياسية والإدارية مع الزمن، ولا يسمح للحكام باستغفالهم.
ولكن فى العصر الأكثر حداثة، ومع التقدم الشديد فى تقنيات الإعلام والدعاية، يبزغ خطر وقوع جماهير الناخبين تحت تأثير من يملكون هذه الوسائل فيسيطرون على شفرة السلطة السياسية اللبرالية، بوقوع الناخبين تحت سيطرتهم فيوجهون الخيارات السياسية للدولة بتأثيرهم على خيارات جموع الناخبين، فإذا كانوا جميعا من أتباع البرجماتية، إذا لضاعت الحدود والحقوق، ولظهر احتمال عودة الفرعنة الفجة نتيجة اختلال توازنات القوى فى المجتمع.
7- الخلاصــــة
الأصل فى الشرع الإسلامى هو اتباع القرآن والسنة، فإذا كان هناك اختلاف عن إتباع السنة، فلا يكون ذلك إلا عن اجتهاد لاقتضاء مصلحة أكبر أو لدفع ضرر، أو هو ابتداع لاستثمار واقع من توازنات القوى يتيح بصورة زمنية لأصحاب المصالح الخاصة وأتباعهم الحصول على مكاسب لا يسمح بها إتباع معايير القرآن والسنة فى موضوع الحكم والإدارة، ولا يُحسب على الإسلام إلا ما جاء فى القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة ومن اتبعها من الخلفاء الراشدين فى موضوع الحكم والإدارة وحدود الحقوق والواجبات بين الحكام والمحكومين، أما غيرهم فلا يُظلم الإسلام بأفعالهم وسلوكياتهم ولا يُحسبون عليه.
وضع القرآن إطارا عاما للعلاقة بين البشر يقوم على المساواة فى الحقوق والواجبات وضمان العدل بينهم، مع وضع حدود العقوبات على من يعتدى، وآدابا للسلوك عند التقاضى يتضمن تحريم قول الزور أو كتم الشهادة، وتخصيصاً فى موضوع العلاقة بين الحكام والمحكومين، أمر الحكام باحترام مبدأ الشورى، وهو فى أبسط مفاهيمه يضمن عدم الإضرار بأى فرد لاختلافه فى الرأى مع الحاكم وإعلانه عن هذا الإختلاف، طالما يلتزم بحدود حقوقه ويؤدى واجباته فى الدولة ولا يمارس ضرراً ولا ضراراً.
وجاءت سنة الرسول الكريم فى الحكم والإدارة اتباعاً دقيقاً وبياناً عملياً وتفصيلاً، لكل هذه المبادئ القرآنية .
ثم جاء من بعده الخلفاء الراشدون، فكان حكمهم اتباعاً دقيقاً لسنة الرسول الكريم فى الحكم والإدارة، وزادوا عليه ببيان أنهم ليسوا معصومين من الخطأ مثله، وأ نهم يطلبون من الرعية النصيحة وردهم عن الخطأ، على الرغم من أنهم هم الحكام، وكانت دولة الرسول الكريم وخلفائه الراشدين هى الدولة المعيارية، بمعنى أنها المثال لمن أراد أن يتبع الله ورسوله فى علاقات السلطة بين الحكام بدرجاتهم فى داخل سلم السلطة بالدولة، أو علاقاتهم بالمحكومين.
إلى أن جاء من بعدهم حكام لم يتبعوا سنة الخلفاء الراشدين فى الحكم والإدارة، واعتمدوا على الواقعية فى الحكم، وهو التعبير المهذب الذى يعنى ترسيخ العلاقة بين الحكام والمحكومين على أساس من توازنات القوى وما تتيحه لأصحاب القوة بأشكالها المختلفة من تفوق على المستضعفين، فإذا حصل الأقوياء على سلطة الحكم فى الدولة، حصلوا من المحكومين على ما لم يأذن به الله لرسوله الكريم ولا لأزواجه من تمتع بالسلطة وبالمال العام (سورة الأحزاب 28، 29 )، وزادوا على ذلك بتوريث الحكم لأبنائهم . وقبل بسلوكهم هذا علماء لم ينكروا الخلفاء الراشدين، ولكن اعتبروا أن سلوك الخلفاء الراشدين فى الحكم والإدارة مثالية وورع لا يطيقه بشر، وبعُد التطبيق فى الدول الإسلامية عن المعيار حتى أصبح كثير من دول المسلمين متخلفة عن متوسط الدول المعاصرة فى موضوعات محاسبة الحكام على السلطة المفوضة إليهم حتى ظن الناس أن الإسلام يعطى الحكام كل ذلك، وأصل ما جاء بالقرآن والسنة النبوية الشريفة برئٌ من كل ذلك.
لقد عف الرسول الكريم وخلفاؤه الراشدون عن التمتع بالسلطة أو استثمارها للحصول على المغانم العينية والمادية، على الرغم من أن هذا كان متاحا لهم، وأوضح ما يكون ذلك فى سلوك الخليفة الراشد الكريم رضى الله عنه وأرضاه سيدنا عمر بن الخطاب رئيس أكبر دولة زمنية فى عصره، وقد انتصر على أكبر دولتين فى عصره وهما الفرس والروم، وأصبح كل شيء من متاع الدنيا متاحا له، ومع ذلك، بل ومع وجود قطاع كبير من رجال دولته يتحرقون شوقا إلى استثمار اللحظة الزمنية للحصول على مكاسب ميل توازنات القوى فى الدولة الإسلامية لصالحهم، على النحو الثابت فى التاريخ الإسلامى، إلا أن عمر رضى الله عنه آثر الله ورسوله على كل ما دونهما .
إذن لا يمكن أن نعتمد على توازنات القوى فى الدولة أساسا لإحياء سنة الخلفاء الراشدين فى الحكم والإدارة باعتبارها أساسا للثقافة السياسية فى الدولة، أى تطبيقاً، ما لم توجد كتلة كافية ممن تقبل التضحية بمكاسب توازنات القوى سواء كانوا من الحكام أو الوزراء أو الجنود، طاعة للمعايير التى أمر الله ورسوله باتباعها فى العلاقة بين الحكام والمحكومين، وإلى أن يوجد من يقبل بذلك من مسلمى العصر الحديث طاعة لله واتقاء لشبهات أن يكون من أصحاب فرعون وهامان وجنودهما وفى العذاب المهين يوم القيامة، يجب علينا نحن المسلمين ألا نكتم الحق، وعلينا أن نبين للناس جميعا مسلمين لا يعلمون بوضوح وغير مسلمين، أن الأصل فى العلاقة بين الحكام والمحكومين فى الإسلام وعند الله هى سنة الرسول الكريم وخلفائه الراشدين فى الحكم والإدارة، وسوف يحاسبنا الله يوم القيامة على هذا الأساس وعلينا أن ننجو نحن المسلمين بأنفسنا من الشبهات، أما غير المسلمين فعلينا أن نبرئ الشريعة الإسلامية من شبهات تقنين الظلم الذى قد يمارسه بعض ذوى السلطة من المسلمين فى الدرجات الثلاث حكاماً ووزراءً وجنوداً أثناء اندفاعهم إلى جنى المكاسب القائمة على استثمار توازنات القوى لصالحهم ومتجاوزين حدود حقوقهم التى بينها الله ورسوله .
علَّمَنَا رسول الله ﷺ وخلفاؤه الراشدون أن السلطة ليست مغنما، على الرغم من أنها أقصر الطرق إلى المغانم والمنافع الشخصية بغير تجارة ولا صناعة ولا زراعة، فحساب الله عليها عسير، فلابد من العدل والإحسان فى ممارسة السلطة، وموقع المال العام من الحاكم فى شرع الله كمَالِ اليتيم، وقبل مغادرة السلطة، على الحاكم أن يحرص على رد المظالم فمن جلد له ظهرا فليستقض من ظهره، ومن أخذ منه مالا فعليه أن يرده إليه، فضلاً عن ذلك أمر الله بالشورى وطبَّق الرسول الكريم وخلفاؤه الراشدون مبدأ الشورى، فلم يحدث أن أضير أحد على اختلاف رأيه مع أحد منهم، بل وزاد عليه الخلفاء الراشدون بإيضاح حق المحكومين عليهم فى النصح والأمر بالمعروف والتقويم، وليس ذلك عن أدب وتواضع بقدر ما هو عن وعى عميق بالفرق بينهم وبين الرسول المعصوم، (سورة النساء، آية 59)، (سورة النجم، آية 1-5 )، وهذا ما جـاء من أبى بكر وعمر فى خـطاب كل منهما فى بداية الحكم ( بند 3،2 )، وفى مقابل كل ذلك من حق الحاكم أن تُطاع أوامره فى شـئون إدارة الـدولة، حفـاظا على اسـتقامة الإدارة. هذه المبـادئ التى تقوم عليها العلاقة بين الحكام والمحكومين فى دولة الخلفاء الراشدين، هى نفسها المبادئ التى تبنى عليها العلاقة بين الحكام والمحكومين فى أفضل الدول الحديثة.
مجال عمل الدولة، هو ممارسة السلطة لتحقيق النظام فى الداخل والدفاع عن مصالح الدولة وحدودها فى الخارج .فضلا عن ذلك، فإن الدولة هى التى تنظم النشاط الاقتصادى وتنظم توزيع الموارد فى المجتمع «من يحصل على ماذا؟ ولماذا؟»، إضافة إلى ذلك، فإن الدولة هى التى تتحكم فى تنظيم التعليم والنشاط الثقافى. أما تدعيم الدولة فى ممارسة السلطة فى الداخل والخارج، فهو أمر لا يختلف عليه أحد حاكماً ولا محكوماً ولا قديماً ولا حديثاً، لأن فى ضياع سلطة الدولة ضياع للأمن فى الداخل والخارج وهما أمران لا يتحملهما أحد. ولكن نظراً لدور الدولة فى تنظيم النشاط الاقتصادى ودورها فى توزيع الموارد، فقد استقر فى الدول الحديثة ضرورة مشاركة أصحاب السلطة بالرأى اللصيق ومراقبة أدائهم وتقويمه من قبل المحكومين وممثليهم حتى لا ينحرفوا بدور الدولة فى الاقتصاد وتوزيع الموارد، وتنظيم التعليم والثقافة إلى خدمة مصالحهم وجنى مكاسب شخصية من خلال ممارستهم لعملية صنع القرار وتنفيذه. تتم مشاركة المحكومين للحكام فى سلطة اتخاذ القرار ومتابعتهم فى تنفيذه من خلال مؤسسات وآليات الديموقراطية التى يمكن تفريغها من مضمونها الصحيح وتحويلها إلى شكليات بلا مضمون ما لم تستند إلى ثقافة سياسية تضرب بجذورها فى وجدان شعب الدولة الحديثة، بحيث يحافظ الحكام والمحكومون معا على مشاركة المحكومون للحكام فى عملية اتخاذ القرار؛ المحكومين بالرأى والشورى، ومن فى السلطة يتخذ القرار ويُحاسب عليه.
الأساس فى الثقافة السياسية فى الدول الديموقراطية الحديثة مبنى على إعلاء قيم المساواة والحرية الفردية ومسئولية الفرد عن هذه الحرية وكلها مبنية على أساس من الفكر والقيم الغربية المبنية على التفلسف والتى تحتاج إلى مجتمعات عالية الثقافة خالية من الأمية، حتى تستطيع أن تفهمها، هذا فضلا عن خطورة نقل الفكر عن الغرب بما يحمله فى طياته من تيارات تهدد تماسك الأسرة والقيم الاجتماعية الشرقية .
البديل الثقافى الأقرب إلى القلب والفهم لدى أبسط الناس فى مجتمعاتنا لإعلاء القيم التى تضمن عدم انحراف الحكام بوظائف الدولة الاقتصادية والثقافية لصالح أنفسهم، هو إحياء سنة الرسول الكريم وخلفائه الراشدين فى الحكم والإدارة، ولا ينكرها إلا مكابر، وهى حقوق وواجبات شرعها الله للعلاقة بين الحكام والمحكومين فى كل عصر ومكان، وسوف يحاسب عليها الحكام بمستوياتهم الثلاثة الجنود والوزراء ورؤساء الدول، سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين، تماما كما سيحاسب الناس فى كل زمان ومكان على حدود الله، لا يعفيهم فى ذلك إنكارهم لها، فهى شريعة الله فى الكون لا تتبدل. وإحياء سنة الرسول الكريم وخلفائه الراشدين فى الحكم والإدارة لدى كل فرد مسلم، هو استكمال لأحياء سنة الرسول الشريفة فى كافة العبادات.
لقد كانت دولة الرسول الكريم وخلفائه الراشدين الفاضلة التى لم تستمر أكثر من أربعين عاماً تجربة فريدة غير مسبوقة فى التاريخ الإنسانى، وبالتالى لا يوجد ما يشبهها فى الأطر القانونية المدنية ولا المؤسسية السياسية، ولا يعنى ذلك أنه لم تكن هناك دولة، بل هناك دولة يمكن إحياؤها بإحياء سنة الرسول الكريم فى الحكم والإدارة فى سلوكيات الأفراد المسلمين فيكف كل منهم عن منع حق غيره فى الشورى وحرية الرأى، أو اللجوء إلى تغييب وعى الآخرين أو التكسب من ذلك، وأن يكف كل منهم عن التكسب من السلطة العامة المفوضة إليه، أيا كان مستوى سلطته صغيراً أو كبيراً، وأن يرد المظالم، ولا يعين ظالما، بوجود مثل هؤلاء الأفراد، يمكن أن يخرج من بينهم من يُكمل العمل الذى بدأ ولم يكتمل، ويستنبط لدولة الخلفاء الراشدين الأُطر القانونية والمؤسسية.
فى موضوع الحقوق والواجبات بين الحكام والمحكومين، نجد سنة الرسول الكريم وخلفائه الراشدين فى الحكم والإدارة، قد بينها الله للناس لكى تُطبق وتُحترم، لا لكى يتناقلها الناس باعتبارها تاريخا ومتحفا، فالإسلام من خلال هذه السنة، يدعم حرية الرأى ( الشورى)، ويحرِّم الاعتقال الوقائى (واقعة تهديد أبو لؤلؤة الأسير لعمر، ثم عدم اعتقاله رغم أنه علم التهديد )، ولم يكتشف الإنسان قيمة التمسك بهذه الحقوق والواجبات إلا بعد تقدم علوم السياسة والإدارة وفيما يُعرف بالديموقراطية، بل ويزيد شرع الله على الديموقراطية الغربية فى أنه يحرم تغييب الوعى بوسائل الإعلام باعتبارها من جرائم الفراعنة وشبهات قول الزور وعدم أمانة الشهادة، ويضع أساساً أخلاقياً متيناً يستند على المبادئ الإسلامية الصحيحة لا يسمح بالتلاعب بالحقوق السياسية والاجتماعية للمحكومين، وهى قيم رفيعة تمثل عصب ما تهدف إلى تحقيقه أرقى الديموقراطيات الحديثة، وإحياء سنة الخلفاء الراشدين فى سلوكيات الأفراد المسلمين يدعم وثوق هذه النظم الحديثة فى مواطنيها من المسلمين بأنهم أول حماة هذا التحضر الاجتماعى، وفى ذلك نقول أيضا أن أساس اتباع هذه القيم الرفيعة فى التعامل هو تقوى الله فى الإسلام وفى سنة الخلفاء الراشدين فى الحكم والإدارة، بينما هو توازنات القوى، فى الديموقراطية، فإذا تقدمت تقنيات الإعلام بما يسمح بالتأثير على الناخبين وتزييف وعيهم فهو فعل قانونى فى الديموقراطية ولا عقوبة عليه، بينما هو فعل مرفوض وتعد على الحقوق فى سنة الخلفاء الراشدين فى الحكم والإدارة فحقوق الضعفاء والمغلوبين والغافلين محفوظة على أساس من تقوى الله سبحانه وتعالى، وبذلك تتفوق الثقافة السياسية الإسلامية القائمة على إعلاء سنة الرسول الكريم وخلفائه الراشدين فى الحكم والإدارة، على الثقافات السياسية العلمانية فى أن هناك وازعاً دينياً راسخاً بالإضافة إلى الوازع الثقافى والأخلاقى يدفع إلى الحفاظ على هذه القيم الرفيعة.
فى موضوع العلاقة بين الحكام والمحكومين، صحيح الشرع الإسلامى واضح، وهو سنة الرسول الكريم وخلفائه الراشدين فى الحكم والإدارة، ومن رغب عنها فلا يكون ذلك إلا عن اجتهاد بحسن نية لظروف تستوجب ذلك، أو عن ابتداع افتعله لغرض فى نفسه، وفى كلتا الحالتين، على من فعل ذلك أن يدافع عن نفسه، فإن الله لا يقبل أن يُشرك به بقول أو عمل أو فرعنة، ولا أذكر فى ذلك المقام إلا حديث رسول الله ﷺ «تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدى أبداً، كتاب الله وسنتى»، والأحرى بالمسلمين الحريصين على إتباع سنة الرسول الكريم فى العبادات والمعاملات الاجتماعية، أن يحرصوا أيضا على سنته فى الحكم والإدارة وأساسها تجنب البغى على الآخرين مستغلين السلطة والنفوذ التى هى أساساً أمانة استأمنهم الله عليها وتجنب جرائم التربح من السلطة ظاهرة وباطنة، عينية وغير عينية، مالية وغير مالية، سنة يلتزم بها الغفير والوزير ورئيس الدولة.
المراجــــع
[1] « تطور النظام السياسى فى مصر، 1803 – 1999 »، د. على الدين هلال، مركز البحوث والدراسات السياسية، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية – جامعة القاهرة، 2002.
[2] «تاريخ الطبرى، تاريخ الأمم والممالك»، لأبى جعفر محمد بن جرير الطبرى، المجلد الثانى (من السنة الأولى للهجرة لغاية السنة 35 للهجرة، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، 1408 هجرية – 1988م.
[3] «حياة محمد»، محمد حسين هيكل، دار المعارف، القاهرة، 1981 (الطبعة السادسة عشرة).
[4] «الفاروق عمر»، محمد حسين هيكل، دار المعارف، القاهرة، 1986 (الطبعة الثامنة ).
[5] «عبقرية عمر»، عباس محمود العقاد، دار المعارف، القاهرة، 1976 .
[6] «فقه السنة»، الشيخ سيد سابق، المجلد الثالث (الجزء التاسع )، دار الريان للتراث ( مكتبة الخدمات الحديثة )، القاهرة، 1987 .
[7] «Public Administration, An Action Orientation», Robert B. Denhart & Joseph W. Grubbs, Fourth Edition, Thomson Wadsworth, Australia, United States. 2003, Chapter 11, p 398 parity principle.