فى تفسير المادة الثانية من الدستور المصرى
دكتور / بهاء الدين محمود محمد منصور
مجلة الأزهر الصادرة عن “مجمع البحوث الاسلامية” ، عدد جمادى الأولى 1434 هجرية ؛ أبريل 2013 م
مقدمة
بعد مناقشات مستفيضة اتفق أعضاء الجمعية التأسيسية لكتابة الدستور المصرى عـلى الإبقاء على نصَّ المادة الثانية من الدستور المصرى كما هى و هذا هو النص: “الاسلام دين الدولة ، واللغة العربية لغتها الرسمية ، ومبادىء الشريعة الاسلامية المصدر الرئيسى للتشريع”؛ و بذلك يلحق بهذه المادة حكم المحكمة الدستورية العليا(1) الذى يبـيِّـن أن هذه المادة تخاطب المشرِّع و لا تخاطب القاضى؛ و أن المعنى باتخاذ “مبادئ الشريعة الاسلامية المصدر الرئيسى للتشريع” إنما يتمخض عن قيد هو ألا يجوز لنص تشريعى أن يناقض “الأحكام الشرعية القطعية فى ثبوتها ودلالتها” ؛ و من أجل تقييد التفسير لمفهوم مبادئ الشريعة الاسلامية تم إضافة “المادة 219” بالنص الآتى: “مبادئ الشريعة الإسلامية تشمل أدلتها الكلية وقواعدها الأصولية و الفقهية و مصادرها المعتبرة فى مذاهب أهل السنة والجماعة” أى أن هذه المادة تشير إلى وجوب الأخذ بما استقر فى “علم أصول الفقه” من مقاصد و قواعد الاستنباط الشرعية.
من المفترض أن تهيمن “دستورية القرآن الكريم” على الدستور الوضعى فى أى دولة إسلامية و تسبقه ؛ و موضوع هذه المقالة هو إثبات أن النص بحالته القائمة و التفسير بأن المبادئ هى كل ما هو “قطعى الثبوت قطعى الدلالة” يكفى تماماً لتعريف “إطار دستورى قرآنى مُحكم” يفصل بطريقةٍ قاطعةٍ بين الحلال و الحرام فى الاسلام سواء جاء فيه نصٌ مُحكم فى القرآن و السنة أو لم يُذكر ؛ و من ضمن ما يفصل فيه بين الحلال و الحرام أن هذا الاطار يطهِّر الفقه السياسى الاسلامى من شرعية “فقه الحكم بالغلبة” حيث لا يقبل هذا الاطار شرعية إلا لصحـيـح السنة باتباع نهج النبوة فى الحكم ؛ و بالتالى يُـلزم الحكام فى كل زمان و مكان بـفـقه الخلافة الراشدة حيث “السلطة مقابل المحاسبة”(2) مما يفتح الباب أمام توافق و تآزر بين صحيح الفقه السياسى الاسلامى و الالتزام بحقوق الانسان الطبيعية دون شذوذ ؛ و يستوجب ادخال النظم الديموقراطية الحديثة و آلياتها فى صلب نظام الدولة الاسلامية باعتبار أن الديموقراطية بآليات اختيار الحاكم و محاسبته على السلطة المفوَّضة إليه هى منتج انسانى قبل أن يكون غربـيـا ؛ و أن العقد الاجتماعى بين الحكام و المحكومين فى دولة الخلافة الراشدة هو نفسه العقد الاجتماعى فى الدول الديموقراطية: “السلطة مقابل المحاسبة” ؛ و إذا كانت دولة الخلافة قد افتقرت إلى النظام السياسى الذى يجبر الحكام الذين يفتقدون الورع الكافى لإلزام أنفسهم اختياراً لهذه المبادئ فإن هذا لا يمنع المسلمين من الاستعانه بآليات النظم الديموقراطية لتنظيم تنفيذ و تحقيق مقاصد الشريعة السياسية الاسلامية و عقدها الاجتماعى باعتبار أن “النظم الدستورية الحديثة” فى التشريع و “آليات النظم الديموقراطية” السياسية فى إدارة الدولة ليست إلا نظماً استحدثتها الحضارة الانسانية لحل معضلات التشريع و السياسة وبالتالى هى إرث إنسانى عام و ليس موروث حضارى غربى خاص.
كل القرآن الكريم قطعى النص وهذه مسألة ثابتة فى كل ما كُتِبَ فى علم أصول الفقه والسيرة فضلاً عن أن الله سبحانه وتعالى قد تعهد بحفظه بنص آياته الكريمة (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) ) (سورة الحجر، الآية 9)، جاءت الرسالة السماوية مُقسَّمةً إلى قسمين رئيسين، وهذا حسب ما جاء فى القرآن الكريم نفسه ﴿هُوَ الّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مّحْكَمَاتٌ هُنّ أُمّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمّا الّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاّ اللّهُ وَالرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ كُلّ مّنْ عِندِ رَبّنَا وَمَا يَذّكّرُ إِلاّ أُوْلُواْ الألْبَابِ﴾ (سورة آل عمران، آية 7)، وبالتالى فإن الآيات المحكمات تنبع منها المبادئ والأحكام الآساس فى الدين الإسلامى عقيدةٌ وشريعة وعبادات ، و أن هذه الآيات المحكمات هى “قطعية النص قطعية الدلالة” ؛ وهى تستوجب الأخذ بالسنة النبوية المشرفة المأخوذة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم حيث تبيِّن أنها ليست إلا وحىٌ يوحى من عند الله (سورة النجم: الآيات 1- 5) و لذلك أمر الله عباده بالالتزام بالسنة النبوية المشرفة فى الآية المحكمة ﴿يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرّسُولَ وَأُوْلِي الأمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾(سورة النساء، آية 59).
و بالنظر إلى أن السنة النبوية المشرفة قد تُـُروى وقائعها على أكثر من رواية و لكن يجمعها الدلالة الواحدة لذلك احتاط القاضى بأن جاء نص الحكم “قطعى الثبوت قطعى الدلالة” ليشمل الثابت المتواتر من السنة النبوية المشرفة؛ و فى هذا الشأن تم إرساء القاعدة الفقهية: “لا اجتهاد مع نص” و المقصود هو “النص قطعى الثبوت قطعى الدلالة”؛ و بالنظر إلى أن “مذاهب الفقه السنية” المشهورة و كذلك “علم أصول الفقه” قد تم إنشاؤها جميعاً فى القرنين الثانى و الثالث الهجريين فقد نظرت جميعاً إلى النصوص “قطعية الثبوت قطعية الدلالة” باعتبارها نصوص قانونية متفرقة تشرِّع لموضوعات مختلفة فى المعاملات و كان هذا متوافقاً تمام التوافق مع أحدث النظم التشريعية حيث لم تعرف البشرية الدساتير إلا عام 1776 ميلادية ؛ و لكن بالأخذ بالمفهوم الحديث للنظم التشريعية فإنه يجب التعامل مع النصوص “قطعية الثبوت قطعية الدلالة” من “القرآن و السنة” باعتبارها مكملة لبعضها و ليست قواعد قانونية متفرقه لا يجمعها رابط عندئذٍ سنجد أنها تعرِّف بمنـتـهى الدقة و الوضوح “اطاراً عاماً للمعاملات الاسلامية” لا يُسمح لأحدٍ أن يخرق أحد مبادئها أو يتعدَّى حداً من حدودها مما يجعلها تؤسس لدستورية القرآن الكريم(3)،(4).
“مجموع الآيات المحكمات اللاتى هن أم الكتاب (سورة آل عمران، آية 7) و قطعى الثبوت قطعى الدلالة من السنة النبوية المشرفة” يعرِّف إطاراً دستورياً محكماً للمعاملات الإسلامية أساساته هى العدل والرحمة والإحسان وتأدية الأمانات إلى أهلها، وإذا حكموا بين الناس أن يحكموا بالعدل (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) ) (سورة النحل، آية 90)، (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً (58) ) (سورة النساء، آية 58). وبخصوص السلطة والنفوذ فقد حرم الله البغى بغير الحق (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (33) ) (سورة الأعراف، آية 33)، أما بخصوص التعامل فى الأموال والتبادل الاقتصادى فقد حرَّم الله أكل أموال الناس بالباطل ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً (29) ) (سورة النساء، آية 29)، وحرَّم التلاعب فى الكيل والميزان وبخس الناس أشياءهم لأكل حقوقهم فى تبادل السلع الاقتصادية (وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) ) (سورة هود، آية 85)، وحرم الإدلاء بأموال الناس بالباطل إلى الحكام (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188))(سورة البقرة، آية 188)، وأوجب أيضا المحاسبة بين الناس على الأموال حفاظاً على حقوق العباد (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلْ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282) وَإِنْ كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تجِدُوا كَاتِباً فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283) ) (سورة البقرة، آيات 282-283) ؛ أما آداب التقاضى وواجباته فهى القسط فى الشهادة (سورة الأنعام، آية 152)، (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمْ الأَنْعَامُ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) ) (سورة الحج، آية 30)، (وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً (72) ) (سورة الفرقان، آية 72)، أما فى القصاص فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126)) (سورة النحل، آية 126).
المبادئ العامة للمعاملات الإسلامية كُلٌّ لا يتجزأ ولو أخذنا واحدة منها بصدقٍ لأدت إلى اتباع باقى قواعدها ولو خرقنا إحداها لخرقنا الآخرين، و التطبيق الخاص لهذه المبادئ العامة هو نفسه “سنة الرسول الكريم فى الحكم و الإدارة” و هى نفس ما اتبع الخلفاء الراشدون ، ونجد أن خصائصها وآساسها هى : العدل والمساواة والرحمة (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (29) ) (سورة الأحزاب، آية 28، 29)، الشورى؛ حيث أمر الله سبحانه وتعالى بالشورى كما جاء فى الآيتين الكريمتين من سورتى آل عمران (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) ) (سورة آل عمران، آية 159) و الشورى (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38) ) (سورة الشورى، آية 38)، وأقل ما يعنيه ذلك هو حرية الرأى وألا يُضار أحدٌ من اختلافه فى الرأى مع أصحاب السلطة والنفوذ ، التعفف عن التمتع بأبهة السلطة أو اكتساب النفوذ الاجتماعي أو التربح منه ، كان الرسول الكريم عفيفاً عن السلطة والمال العام وكذلك حرَّم الله على أزواجه إن كُنّ يردن الله ورسوله فليس لهنَّ إلا أن يكنَّ مثله (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (29) ) (سورة الأحزاب آية 28 ، 29)، السلطة أمانة لا تُستخدم لغير الغرض التى فُوضت من أجله، و أخيراً رد المظالم قبل مغادرة مقعد السلطة بالوفاة أو بغير ذلك وهذا واضحٌ من ذكر الخبر عن مرض رسول الله الذى توفى فيه(5)، و منه نأخذ الدروس والعبر، وكذلك فعل خلفاؤه الراشدون وعلى رأسهم أبوبكر وعمر عند الوفاة ومحاسبة كلٍّ منهم لنفسه وسؤالهم عمن جلد له ظهراً أو شتم له عِرضاً أو كان له درهماً فى ذمته.
و بالنظر إلى أن الرسول الكريم يختلف عن البشر جميعا فى أنه يوحى إليه و بالتالى هو معصوم من الخطأ فقد زاد الخلفاء الراشدون على السنة النبوية فى الاعتراف للرعية بحقها فى محاسبة الحاكم ومراجعته على السلطة العامة وعلى المال العام وهذا واضحٌ من خطبتى استهلال الحكم من أبى بكرٍ(6)، و عمر(7) بطلب التقويم والنصيحة ، وما سيرة عمر مع الرجل الذى حاسبه على طول حُلّته إلا دليلاً على ذلك(8)؛ هذه القواعد قد شُرِّعت ليلتزم بها رئيس الدولة و الوزير و الغفير و كل من منحه الله السلطة و النفوذ حتى و لو كان من خارج نظام الحكم و السلطة الإدارية حيث لا يُسمح بإفلات من يخرق هذا الاطار الشرعى من العقاب حتى لو كانت فاطمة بنت محمد(9)؛ و كل من حكم بغير نهج النبوة فى الحكم و الادارة قد اضطر إلى خرق هذا الاطار بدرجاتٍ متفاوته مما يؤكد أن نهج الخلافة الراشدة هو وحده نمط الحكم الشرعى الوحيد فى الاسلام(10).
وننوه هنا إلى أنه بالنظر إلى «الإعلان العالمي لحقوق الإنسان»(11)، نجد أن الحقوق الطبيعية التى أمر الله بها فى قرآنه الكريم للملأ كافةً تسبق كل هذه الحقوق وتشملها(12).
“الإطار العام للمعاملات الاسلامية” و ” الحقوق الطبيعية للبشر” التى يبيِّـنها و الحقوق و الواجبات بين الحكام و المحكومين المبيَّـنة فى نهج النبوة يحرسها جميعاً عقوبات حدِّية بيَّـنها الله فى آياتٍ محكمات ؛ و من حيث المبدأ يجب أن يقع التشريع على المستوى القانونى داخل المبادئ الإطارية للمعاملات الإسلامية فى العدل و المساواة المذكورة بعاليه و أن تحقق “الديموقراطية و حقوق الإنسان”، و إلا يُطبَّق عليه عقوبة الامتناع أو الإلغاء؛ و أن يُجرِّم التشريع فى الدولة ما جرَّمه الله و أن يحلَّ ما أحلَّه الله و لن يختلف أحدٌ من أتباع الأديان السماوية على ذلك لأنهم و أتباع الاسلام أساسهم واحد (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) ) (سورة البقرة ، آية 285)؛ و ما جاء به الرسل و الأنبياء السابقون على الاسلام إلا تطبيقات خاصة فى حالاتٍ خاصة لأقوامٍ خاصة أما الرسالة الاسلامية فهى الحالة العامة لكل زمان و مكان؛ و عليه فإنه فى موضوع “حجم العقوبة و نوعيتها” فيما ذُكِرَ فى آياتٍ محكمات و سنةٍ متواترة؛ فإنه يُمكن أن يختلف التشريع فى الدولة الإسلامية الحديثة عمَّا كان عليه الأمر وارداً فى النص القرآنى يوم نزول الرسالة الإسلامية فى القرن السابع الميلادى بشرط أن يُعطى نفس الأثر النفسى و الاجتماعى المقصود من العقوبة على من يعيشون ظروف الدولة فى القرن الواحد و العشرين و ما بعده خاصةً أن المواطنين بالدولة قد تتعدد دياناتهم و إن كانت الأغلبية للمسلمين.
========================
المراجع
(1) “قضية رقم 119 لسنة 21 قضائية” المحكمة الدستورية العليا “دستورية ” جلسة 19/12/2004
(2) “فقه الخلافة الراشدة و التحول الديموقراطى فى مصر” ؛ مجلة الأزهر الصادرة عن “مجمع البحوث الاسلامية” ؛ عدد جمادى الآخرة 1433؛ مايو 2012
3) “التأسيس لدستورية القرآن الكريم” ، د. بهاء الدين محمود منصور ، مجلة مركز صالح كامل للاقتصاد الإسلامى ، جامعة الأزهر ، السنة الحادية عشرة – العدد الثالث و الثلاثون ، 1428 هجرية – 2007 م.
(4) “دستورية القرآن الكريم وعلم أصول الفقه الإسلامي” ، د. بهاء الدين محمود منصور ، مجلة مركز صالح كامل للاقتصاد الإسلامى ، جامعة الأزهر ، السنة الرابعة عشر – العدد الثانى و الأربعين ، 1431 هجرية – 2010 م.
(5) «تاريخ الطبرى، تاريخ الأمم والممالك»، لأبى جعفر محمد بن جرير الطبرى، المجلد الثانى (من السنة الأولى للهجرة لغاية السنة 35 للهجرة)، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، 1408هـ – 1988م، (ص227).
(6) «تاريخ الطبرى، تاريخ الأمم والممالك»، لأبى جعفر محمد بن جرير الطبرى، مرجع سبق ذكره، (ص 244، 245).
(7) «الفاروق عمر»، محمد حسين هيكل ، دار المعارف ، القاهرة ، 1986 (الطبعة الثامنة )، ص 93، 94.
(8) «الفاروق عمر»، محمد حسين هيكل، دار المعارف، القاهرة، 1986م (الطبعة الثامنة)، (الجزء الثانى، ص 194)
(9) «فقه السنة»، المجلد الثانى (الأجزاء الخامس و السادس و السابع و الثامن)، الشيخ سيد سابق، دار الريان للتراث ، القاهرة 1987ميلادية، ص 506
(10) “سنة الرسول الكريم و خلفائه الراشدين فى الحكم و الإدارة ، بيان لعناصر الحداثة”، د. بهاء الدين محمود منصور ، مجلة مركز صالح كامل للاقتصاد الإسلامى، مركز صالح كامل للاقتصاد الإسلامى، جامعة الأزهر، السنة السابعة – العدد الثانى و العشرون، 1425 هجرية – 2004.
(11) «الإعلان العالمي لحقوق الإنسان»، اعتمد ونشر على الملأ بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 217 ألف (د-3) المؤرخ في 10 كانون الأول/ديسمبر 1948م.
http://www.huquqalinsan.com/?blog=1&page=1&disp=posts&paged=2
(12) “فقه الخلافة الراشدة و التحول الديموقراطى فى مصر” ؛ مجلة الأزهر الصادرة عن “مجمع البحوث الاسلامية” ؛ عدد جمادى الآخرة 1433؛ مايو 2012