سقوط وبعث نمط الخلافة الراشدة فى الحكم والإدارة

في موضوع الحوار بين الحضارات
(دفاعاً عن الإسلام وليس دفاعاً عن المسلمين)

سقوط وبعث نمط الخلافة الراشدة فى الحكم والإدارة

دكتور/ بهاء الدين محمود محمد منصور

مجلة مركز صالح كامل للاقتصاد الإسلامى ، مركز صالح كامل للاقتصاد الإسلامى ، جامعة الأزهر ، السنة التاسعة – العدد الخامس و العشرون ،1426 هجرية – 2005 م

1ـ مقدمة:
الأصل فى البيان الإسلامى هو ما جاء بالقرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة، وفى موضوع السلطة والنفوذ وطرق اكتسابهما وتداولهما والتعامل معهما سواء كان الفرد حاكماً أو محكوماً، وسواء كان فى وسط سلم السلطة فوقه أصحاب سلطة أو كان من أعلى سلم السلطة وتحت حُكمِه من يتلقون أوامره ويستطيع أن يمارس نفوذاً عليهم ، فقد بين القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة أحكاماً لهذه العلاقات، هذه الأحكام واضحة تماماً وضوحاً لا لبس فيه، وذلك فى الإطار العام للمعاملات الإسلامية المشروعة، ثم فى الأحكام المخصوصة فى موضوع السلطة والحكم ، وأخيراً فى البيان العملى فى السنة النبوية الشريفة التى هى نفسها ما اتبع الخلفاء الراشدون فى الحكم والإدارة.
وإذا كان الأمر كذلك، له إطار وأحكامٌ مُفصلة وسنة تبين أصول التطبيق، فلم زهد المسلمون عنه ومن أين وكيف ظهرت الأفكار والنظم السياسية الـمُسماة بالإسلامية من بعد الخلافة الراشدة مزاحمةً لسنة الرسول الكريم ﷺ فى الحكم والإدارة حتى كادت تطمسها فى زحام ما يُعرض فى الساحة السياسية الإسلامية.
موضوع هذه المقالة هو بيان الفاصل بين ما جاء به القرآن الكريم وبيَّنه رسول الله ﷺ فى سنته المشرفة وما يشيع من أفكار هى من إبداعات المسلمين وتسمى فى الأدبيات والعلوم الاجتماعية باسم الفكر السياسى الإسلامى والنظم السياسية الإسلامية، بينما تحتوى فى حقيقة الأمر ضمناً أو صراحةً ما يناقض أساس العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وبين المدير وما يحق له فى استخدام السلطة العامة كما بين الله وأوضح رسوله ﷺ ، وسواءٌ كان ابتداع النظام سابقاً للفكر المبرر له أو كان الفكر هو الذى ولَّد النظام فالتزاوج بين الفكر والنظام السياسى المرافق والمبرر لوجوده لا يسمح بانفصالهما.
بعد هذه المقدمة، تنقسم الدراسة إلى ثلاثة أقسام؛ الأول منها يبين ما جاء فى القرآن والسنة النبوية المشرفة عن موضوع علاقات الحكم والإدارة وإثبات أنها سنة واجبة الاتباع شأنها شأن باقى السنن النبوية التى يحرص المسلمون على اتباعها وهذا القسم يحتوى على ملخص عام لما جاء فى المقال السابق «سنة الرسول الكريم وخلفائه الراشدين فى الحكم والإدارة، بيان لعناصر الحداثة»( )، والثانى الظروف التى أدت إلى انحراف المسلمين عن سنة الرسول الكريم ﷺ وخلفائه الراشدين فى الحكم والإدارة مع بيان أهم ما أفرزه هذا الانحراف من إبداعات وابتداعات فى الفكر السياسى لدى المسلمين، ومدى إمكان إنتسابها لما جاء فى القرآن والسنة النبوية المشرفة فى موضوع الحكم والإدارة، أما الثالث فيمثل تأملاً فى الظروف السياسية المعاصرة ومدى الخير أو الضرر الناتج عن انتساب هذه الابتداعات للإسلام وتأثيرها على سمعته باعتباره دينا عالمياً، وتأثيرها على مستقبل المسلمين أنفسهم نتيجة لاعتناقها بديلاً عن شرع الله الأمثل وسنة رسوله الكريم ﷺ فى الحكم والإدارة، وما هى عناصر الظروف المعاصرة التى يُمكن أن تـُأثـِّــر على مستقبل هذه السنة النبوية الشريفة.

2ـ القرآن والسنة النبوية المشرفة فى موضوع الحكم والإدارة( ):

من الثابت أن الإسلام تتكامل فيه العقيدة مع الشريعة ، والعقيدة تُبنى على توحيد الله سبحانه وتعالى خالق كل شيء بيده الملك وهو على كلِّ شئ قدير، وأن له شريعةً كونية مبنية على العدل المطلق بين مخلوقاته والتكامل المطلق بين أدوارهم لإعمار الكون والحفاظ عليه ، فهو الخالق المهيمن الكبير المتعال وهو السلام الغفور الودود ، وعلى غرار شريعته الكونية جاءت شريعته السماوية فى كل أديانه الكريمة عدلاً مطلقاً ووُدًّا ورحمةً لكل مخلوقاته.
الإسلام هو آخر الشرائع السماوية والمهيمن عليها بمعنى المرجع لكل ما جاء فيها ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾[المائدة: 48].
وقد بين الله سبحانه وتعالى شريعته القيمة فى القرآن الكريم ، وأكمل بيانه بأمثلة عملية واضحة فى السنة النبوية المشرفة وعرفنا أنها وحى يوحى إلى رسوله الكريم ﷺ حتى نتبعها ونعلم موقعها من شريعة الله الكونية فى العدل والرحمة ، ليس فى الإسلام كهانة ولا كهنوت ولا إمامة مستقلة تشرع بما لم يأت به الله ورسوله ﷺ ، وفى ذلك يقول الله سبحانه وتعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾[النساء: 59]، بمعنى أطيعوا الله ، فهو مصدر للتشريع، وأطيعوا الرسول فهو مصدر للتشريع يوحى إليه ، ويكمل هذا المفهوم أنه معصوم من الخطأ ﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى﴾[النجم: 1-5]، لأن هذه العصمة ضرورية طالما له حق التشريع، أما أولى الأمر منكم فأطيعوهم طالما أطاعوا الله ورسوله فهم ليسوا مصدرا للتشريع، وهذا ما حرص على بيانه، أبو بكر وعمر رضى الله عنهما، عندما طلب كل منهما فى بدء حكمه التقويم والنصيحة مبينين أنهما غير معصومين من الخطأ ، فهذا أبوبكر فى خطبته «إن الله اصطفى محمدا على العالمين وعصمه من الآفات؛ وإنما أنا متبع ولست بمبتدع ؛ فإن استقمت فتابعونى، وإن زغت فقومونى»( )، وهذا عمر «أعينونى على نفسى بالأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر، وإحضارى النصيحة فيما ولانى الله من أمركم»( )، هذا على الرغم من أنهما أعف الناس عن السلطة والمال العام ، بل وأكثر الناس علما بالشريعة الإسلامية ، لكنه إعلان للحقوق والواجبات لتعليم من يأتى من بعدهم( ).
وهكذا يتضح أن هناك سنة واضحة ذات خصائص مميزة فى الحكم والإدارة يتبعها كل من أراد أن ينـزه نفسه عن الهوى ، ويتأول معانيها كل من اتبع هواه وانحرف بنفسه عنها، سنة يجب على المسلمين اتباعها وشأنها فى ذلك شأن باقى السنن النبوية الشريفة فى العقائد والمعاملات، وإن كانت تختلف عن باقى السنن الأخرى فى أن مُغريات خرقها هائلة بالمقارنة بغيرها ، فالسلطة هى أقرب الطرق للمُتَعِ كلها بمجرد إصدار الأوامر المباشرة فضلاً عن أنها أقرب الطرق لاقتناء المال والثروة بالتربح منها بطرق مباشرة وغير مباشرة( ).
السنة النبوية المشرفة فى الحكم والإدارة ليست إلا التطبيق الخاص لمبادئ وقواعد المعاملات الإسلامية فى أمور الحكم والإدارة، وبالتالى فهى تلتزم بهذه المبادئ والقواعد ولا تخرج عن الإطار العام للمعاملات الإسلامية، وتلتزم أيضاً بما أمر الله به خاصةً فى موضوع الحكم والإدارة، ثم يأتى البيان العملى فى الحكم والقيادة والإدارة كما أوحى الله به لرسوله الكريم ﷺ لتعليم المسلمين أمور دينهم على مدى ممارسته لهذا الأمر وخاصةً تلك الفترة التى قاد وحكم فيها المسلمين على مدى عشر سنوات فى المدينة المنورة .

2-1- الإطار العام للمعاملات فى الإسلام
السنة النبوية الشريفة فى الحكم والإدارة تستند أول ما تستند على مبادئ وقواعد المعاملات الإسلامية فى العدل والرحمة كما جاءت فى تعاليم القرآن الكريم وعموم السنة النبوية المشرفة ، ولها إطار عام غير مسموح بالتعدى عليه وإلاّ خرجت الأعمال عن حدود الإسلام .
فى موضوع الإطار العام للمعاملات الإسلامية ، يهدف الإسلام إلى العدل فى كافة المعاملات الخاصة بالسلطة وتداولها واستخداماتها، كما يهدف إلى ذلك أيضا فى كافة المعاملات المالية والاقتصادية ؛ حيث يقول الله فى محكم آياته ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾[النحل: 90]، ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾[النساء: 58].
وبخصوص السلطة والنفوذ فقد حرم الله البغى بغير الحق ولم يعط هذا الحق لأحد من الأنبياء وبالتالى لا حق لحاكم أو موظف عام بالبغى على محكوم ممن يمارسون عليهم السلطة ويقول الله فى محكم آياته ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾[الأعراف: 33].
أما بخصوص التعامل فى الأموال والتبادل الاقتصادى فقد حرم الله أكل أموال الناس بالباطل حيث يقول فى محكم آياته ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾[النساء: 29]. أما عن التلاعب فى الكيل والميزان وبخس الناس أشياءهم لأكل حقوقهم فى تبادل السلع الاقتصادية، فأمر الله واضح ﴿وَيَا قَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾[هود: 85] ، ويختص الله سبحانه وهو العليم الخبير بالتحذير للإدلاء بأموال الناس بالباطل للحكام ، ومن الناحية الأخرى فهو تحريم التربح من السلطة حيث يقول فى محكم آياته ﴿وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾[البقرة: 188].
وأوجب أيضاً المحاسبة بين الناس على الأموال حفاظا على حقوق العباد حيث يقول سبحانه وتعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُواْ وَلاَ تَسْأَمُوْاْ أَن تَكْتُبُوْهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللّهِ وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوْاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾[البقرة: 282].
والشيء بالشيء يذكر، فإذا كان الله سبحانه وتعالى قد حرم أكل أموال الناس بالباطل فى تبادل السلع والخدمات المالية والاقتصادية بل يجب أن يتعفف من يستطيع أكل أموال الناس بالباطل عن ذلك ابتغاء وجه الله سبحانه وتعالى وابتغاء شرعه، فإن من باب أولى أن تكون طاعة الله فى موضوعات السلطة وتداولها أشد لأن عدم العدل فيها ينتج عنه اعتداء على حرمات الأبرياء وحرياتهم، أى هو ارتكاب جرائم النفس بوساطة الأقوياء ظلماً وعدواناً على الضعفاء وهى أشد من ارتكابهم جرائم الأموال فى حق الضعفاء ظلماً وعدواناً.
وهكذا وضع الله حدوداً للتعامل لا يتعداها أحدٌ مسلماً أو غير مسلم ، مثل جرائم القتل أو السرقة أو الزنا والاعتداء على الأنساب دون إقامة الحدود التى أوضحها الله سبحانه وتعالى فى شرعه الحنيف ، فضلاً عما هو محرم مما يندرج تحت صور البغى والتعدى على الآخرين، فإذا اختلفوا فإن آساس التقاضى العادل وأركانه يرعاها الله بنفسه فى آيات محكمات ويتوعد الخارج عن هذه الآساس أشد العذاب، حيث تقع كل هذه المعاملات على أسس متين من وجوب القسط فى الشهادة وعدم كتمها وتحريم قول الزور، وتلك أهم آساس إقامة العدل فى جميع المعاملات بين الأفراد وفى ساحات القضاء، بل تكفي وحدها لإقامة مجتمع العدل والاستقامه ، حيث يأمر الله سبحانه من يتكلم أن يعدل فيما يقول، انظر الآية الكريمة ﴿وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾[الأنعام: 152]، وأيضا ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾[المائدة: 8] وأيضا أمر بعدم كتم الشهادة ﴿وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾[البقرة: 283]، وحرّم قول الزور ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأَنْعَامُ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ﴾[الحج: 30] وقوله تعالى ﴿وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا﴾[الفرقان: 72]، أما القصاص فالمبدأ واضح ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ﴾[النحل: 126].
المبادئ العامة للمعاملات الإسلامية كُلٌّ لا يتجزأ ولو أخذنا واحدة منها بصدقٍ لقادتنا لاتباع الآخرين ولو خرقنا إحداها لخرقنا الآخرين، مثالٌ لذلك أنه لو فُرض وأصدق الحكام المنحرفون عن شرع الله الحنيف وسنة رسوله الكريم ﷺ فى الحكم والإدارة شهاداتهم هم وأعوانهم من الوزراء وأعوان الوزراء والخفراء ولم يكتموها ويكتسبوا لعنة الله عليهم باعتبارهم شهود زور أو كاتموا شهادة لما جرءوا على ارتكاب جرائمهم ضد المجتمع وضد الأفراد وما اقترفوه من أموال لا حق لهم فيها ، فهم يعلمون بما لديهم من سطوة أنهم لن يضطروا إلى الإعلان عنها أو الاعتراف بها.

2ـ2- سنة الرسول الكريم وخلفائه الراشدين فى الحكم والإدارة( ):
من داخل الإطار العام للمعاملات الإسلامية ومستنداً عليه، جاء البيان القرآنى عن العدل فى المعاملات عامةً مع التعفف عن السلطة وعدم التربح منها باقتناء النفوذ أو اقتناص الفرص والتربح منها ، وفى موضوع الحكم والإدارة جاءت الإشارة الخاصة بالشورى، وفى ذلك يقول سبحانه ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾[آل عمران: 159] ويؤكد الله عن مجتمع المسلمين ﴿وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾[الشورى: 38]، وأقل ما يعنيه ذلك ألاّ يُضار إنسان يعرض رأيه أمام حاكم طالما لا يُؤذى الآخرين أو يضر الدولة والمجتمع ، حتى لو اختلف فى الرأى مع أصحاب السلطة، هذا فضلاً عن أن كثرة الرأى وتنوعه تؤدى إلى الوصول إلى القرار الأمثل.
وعن عدم التربح من السلطة أو التسيد بها على الآخرين ، كان الرسول الكريم ﷺ وبحق على خلق عظيم ورحمة للعالمين، فقد كان قرآنا يمشى على الأرض فلم يأمر أصحابه بشيء إلا وطبقه على نفسه صغيراً كان أو كبيراً وعلى الرغم من مكانته العالية بين أصحابه إلا أنه لم يختص نفسه ولا أسرته بأبهة سلطة ولا ترف مال، وكما أنه سلك ذلك لكرمه وعظيم خلقه ، فقد سلكه أيضاً امتثالاً لأمر الله حتى تكون واجباً على الحكام من بعده، ففى ذلك يأتى أمر الله ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأًزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً * وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا﴾[الأحزاب: 28-29]، ولم يُذكر أنه سمح لأحدٍ من أسرته بأن يُؤثر نفسه بشئ لم يبيحه لجمهور المسلمين كافةً، وعنه ننقل الأحاديث الشريفة فى تأكيد ذلك لدرء الشفاعة فى الحدود «والله لو سرقت فاطمةُ بنت مُحمدٍ لقطع مُحمدٌ يدها» حيث لا اعتداء على أحد بقول أو عمل حتى أحبه أصحابه.
وفى ذكر الخبر عن مرض رسول الله ﷺ الذى توفى فيه عبرة ودروس للمسلمين عامةً وللحكام وأصحاب السلطة والنفوذ خاصةً ،لم يُذكر عن الرسول الكريم ﷺ موقفٌ ظلم فيه أحداً من الناس مسلماً أو غير مسلم، قبل نزول الوحى عليه أو بعده، وعند استشعاره الوفاة فى مرضه الأخير حرص على وضع سنته الكريمة فى رد المظالم قبل الوفاة ، أو مغادرة المنصب حيث ورد فى تاريخ الطبرى( ) عن الفضل بن عباس، قال: جاءنى رسول الله ﷺ فخرجت إليه فوجدته موعوكاً قد عصب رأسه ، فقال: خذ بيدى يا فضل، فأخذت بيده حتى جلس على المنبر، ثم قال: ناد فى الناس. فاجتمعوا إليه، فقال: أما بعد أيها الناس، فإنى أحمد إليكم الله الذى لا إله إلا هو ؛ وإنه قد دنا منى حقوقٌ من بين أظهركم ، فمن كنت جلدت له ظهراً فهذا ظهرى فليستقد منه، ومن كنت شتمت له عِرضاً فهذا عِرضى فليستقدِ منه ؛ ألا إن الشحناءَ ليست من طبعى ولا من شأنى ، ألا وإن أحبَّكم إلى من أخذ منى حقا إن كان له ، أو حللنى فلقيت الله وأنا طيب النفس ؛ وقد أرى أن هذا غير مُغْنٍ عنى حتى أقوم فيكم مرارا.
قال الفضل ثم قام فصلى الظهر، ثم رجع فجلس على المنبر ، فعاد لمقالته الأولى فى الشحناء وغيرها، فقام رجل فقال يا رسول الله؛ إن لى عندك ثلاثة دراهم، قال أعطه يا فضل، فأمرته فجلس، ثم قال: أيها الناس، من كان عنده شيء فليؤده ولا يقول فضوح الدنيا، ألا وإن فضوح الدنيا أيسر من فضوح الآخرة( ).
ثم كانت الوصية التالية( ) إنى لكم بشير ونذير، لا تعلوا على الله فى عباده وبلاده؛ فإنه قال لى ولكم: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾[القصص: 83]. وقال ﴿أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ﴾[الزمر: 60]. فقلنا متى أجلك؟ قال : قد دنى الفراق والمنقلب إلى الله وإلى سدرة المنتهى.
أما الثانية( ) أنه كان عنده صلى الله عليه وسلم أول ما اشتد به المرض سبعة دنانير خاف أن يقبضه الله إليه وما تزال باقية عنده ، فأمر أهله أن يتصدقوا بها . ولكن اشتغال أهله بتمريضه أنساهم تنفيذ أمره. فلما أفاق يوم الأحد الذى سبق وفاته من إغمائه سألهم: ما فعلوا بها؟ فأجابت عائشة أنها ما زالت عندها . فطلب إليها أن تحضرها، وضعها فى كفه ثم قال: «ما ظن محمد بربه لو لقى الله وعنده هذه». ثم تصدق بها جميعا على فقراء السلمين( ). بل إن رسول الله ﷺ قد أكد( ): «لا نورث ( ويقصد معشر الأنبياء)، ما تركناه فهو صدقة ، إنما يأكل آل محمد فى هذا المال( ).
وهكذا كانت ولايته صلى الله عليه وسلم، لا ظلم ولا تمتع بسلطة ولا مال ؛ يأكل مما يأكل عامة المسلمين ويلبس مما يلبس عامتهم من يدخل عليه فى أصحابه لا يعرفه من بينهم حيث لا يميز نفسه فى مجلسه ولا ملبسه وعند الوفاة تصفية لأى حقوق تخص الغير وتقع لديه سواء من الحقوق الناتجة عن ممارسة السلطه والنفوذ أو الناتجة عن الولاية فى المال العام ، ثم تأكيد لكل ذلك بأن يلقى ربه دون أن يورث شيئا لأهله.
2ـ3: ولاية الخلفاء الراشدين للقيادة فى المجتمع
قد علم الخلفاءُ الراشدون هذه السنة النبوية الكريمة فى الحكم والإدارة واتبعوها بدقة، حيث لم تختلف ولاية الخلفاء الراشدين عن ولاية رسول الله ﷺ من حيث العفة عن الاستفادة من أبهة السلطة أو التمتع بالنفوذ أو التربح من السلطة بأى شكل كان بل كانت أمانة وتكليفاً تحملوه أملا فى الثواب من الله سبحانه وتعالى، كما حرصوا على مبدأ الشورى فى الحكم والإدارة( )، ولكن الإضافة التى حرص على إضافتها صاحبا رسول الله ﷺ ؛ أبو بكر وعمر رضى الله عنهما، خاصة أنهما تعاقبا على الحكم من بعده ولتكون دستوراً لمن يتولى أمر السلمين من بعدهم ؛ هى حق الرعية فى محاسبة الحاكم علـى السلطـة المفوضـة إليـه وتقويمـه والمرجـع فـى ذلـك هو القرآن الكريم وسنة رسول الله ﷺ .
انظر إلى أول ما نطق به سيدنا أبــو بكر الصديــق رضى الله عنه فور توليه الخلافة عن رسول الله ﷺ ( ). حيث قال: «يا أيها الناس إنما أنا مثلكم ؛ وإنى لا أدرى لعلكم ستكلفوننى ما كان رسول الله ﷺ يطيق؛ إن الله اصطفى محمدًا على العالمين وعصمه من الآفات ؛ وإنما أنا متبع ولست بمبـتدع؛ فـإن استقمـت فتابعونـى، وإن زغت فقومونـى؛ وإن رسول الله ﷺ قبض وليس أحد من هذه الأمة يطلبه بمظلمة ضربة سوط فما دونها؛ ألا وإن لى شيطانا يعترينى؛ فإذا أتانى فاجتنبونى؛ لا أؤثر فى أشعاركم وأبشاركم، وأنتم تغدون وتروحون فى أجل قد غيب عنكم علمه ؛ فإن استطعتم ألا يمضى عنكم هذا الأجل إلا وأنتم فى عمل صالح فافعلوا» ثم استمر رضى الله عنه فى موضوعات أخرى من الشئون والنصائح العامة( ).
أنظر أيضاً كيف تعفف عن أموال المسلمين وهو فى الولاية( )، حيث تعفف عن أخذ مقابل لعمله على الشأن العام للمسلمين وهو رئيس الدولة، وعندما نصحة الناس بالتفرغ لعمله فى رئاسة الدولة وترك ما دون ذلك «فترك التجارة واستنفق من مال المسلمين ما يصلحه ويصلح عياله يوماً بيوم، ويحج ويعتمر». وكان الذى فرضوا له ستة آلاف درهم . فلما حضرته الوفاة ، قال: ردوا ما عندنا من مال المسلمين ؛ فإنى لا أصيب من هذا المال شيئا ، وإن أرضي التى بمكان كذا وكذا للمسلمين بما أصبت من أموالهم؛ فدفع ذلك إلى عمر رضى الله عنه ، ولقوحاً وعبداً صيقلاً، وقطيفة ما تساوى خمسة دراهم؛ فقال عمر رضى الله عنه: لقد أتعب من بعده.
وقال عليّ بن محمد – فيما حدثنى أبوزيد عنه فى حديثه عن القوم الذين ذكرت روايته عنهم – قال أبوبكر رضى الله عنه: انظروا كم أنفقت منذ وليت من بيت المال فاقضوه عنى. فوجدوا مبلغه ثمانية آلاف درهم فى ولايته( ).
وهكذا كانت ولايته رضى الله عنه ، تماماً على سنة رسول الله ﷺ ، لا ظلم ولا تمتع بسلطة ولا مال يأكل مما يأكل عامة المسلمين ويلبس مما يلبس عامتهم ، من يدخل عليه فى أصحابه لا يعرفه من بينهم حيث لا يميز نفسه فى مجلسه ولا ملبسه مع التأكيد من لحظة بداية ولايته على الفرق بين الرسول الكريم ﷺ المؤيد بالوحى والمعصوم من الخطأ وذلك الذى يخلفه من البشر، مرجعه اتباع القرآن والسنة ولا يبتدع ؛ فإن استقام فليتبعه المسلمون، وإن زاغ فليقوموه (وهذا يعنى أن من حقهم محاسبته على السلطة العامة المفوضة إليه)، وعند الوفاة تصفية لأى حقوق تخص الغير وتقع لديه سواء من الحقوق الناتجة عن ممارسة السلطه والنفوذ أو الناتجة عن الولاية فى المال العام، ثم تأكيد لكل ذلك بأن يلقى ربه دون أن يورث شيئاً لأهله مما حصل عليه من المال العام.
هذا سيدنا أبوبكر رضى الله عنه ، فماذا عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه ؛ من أراد أن يفهم عمر رضى الله عنه فعليه أن يستحضر الحديث الشريف: «جعل الله الحق على لسان عمر وقلبه»( )، وأيضاً قوله صلى الله عليه وسلم «عمر معِى وأنا مع عمر، والحق بعدى مع عمر حيث كان»( ). فكان شديداً فى الحق على نفسه أولاً وعلى أهل بيته ثانياً ثم على ولاته وكبار دولته، ينتصر للعدل طاعة لله سبحانه وحباً فى العدل جُبل عليه حتى أصبح علماً على ذلك، يلوذ به الضعفاء والمظلومون فينتصر لهم على كل جبار وظالم.
هذا أول خطاب له يخرج به إلى الناس فى المسجد فى ثالث أيام ولايته، يرسم به سياسة دولته( ): «ثم إنى وليت أموركم أيها الناس. فاعلموا أن تلك الشدة قد أضعفت، ولكنها تكون على أهل الظلم والتعدى على المسلمين. فأما أهل السلامة والدين والقصد فأنا ألين لهم من بعضهم لبعض، ولست أدع أحداً يظلم أحداً أو يتعدى عليه حتى أضع خده على الأرض، وأضع قدمى على الخد الآخر حتى يذعن بالحق . وإنى بعد شدتى تلك أضع خدى على الأرض لأهل العفاف وأهل الكفاف. ولكم على أيها الناس خصال أذكرها لكم فخذونى بها:
لكم على ألا أجتبى شيئاً من خراجكم ولا ما أفاء الله عليكم إلا من وجهه. ولكم على إذا وقع فى يدى ألا يخرج منى إلا بحقه ، ولكم على أن أزيد عطاياكم وأرزاقكم إن شاء الله تعالى ، وأسد ثغوركم. ولكم على ألا ألقيكم فى المهالك ، ولا أجمركم فى ثغوركم (أى جمعهم فى الثغور وحبسهم عن العود إلى أهلهم ) ، وإذا غبتم فى البعوث فأنا أبو العيال.
فاتقوا الله ، عباد الله ، وأعينونى على أنفسكم بكفها عنى ، وأعينونى على نفسى بالأمر بالمعروف ، والنهى عن المنكر ، وإحضارى النصيحة فيما ولانى الله من أمركم. أقول قولى هذا وأستغفر الله لى ولكم»( ).
وقد سئل يوماً عما يحل له من مال الله ، فقال: «أنا أخبركم بما استحل منه ؛ يحل لى حلتان: حلة فى الشتاء وحلة فى القيظ، وما أحج عليه وأعتمر من الظهر ، وقوتى وقوت أهلى كقوت رجل من قريش ليس بأغناهم ولا أفقرهم . ثم أنا بعد رجل من المسلمين يصيبنى ما أصابهم». وكان يقول: «إنى أنزلت مال الله منى بمنزلة مال اليتيم ، فإن استغنيت عففت عنه ، وإن افتقرت أكلت بالمعروف»( ). وكان تعففه عما فى بيت المال يبلغ به فى بعض الأحيان حد الحرج. اشتكى يوما فوصف له العسل، وفى بيت المال عكة منه، فلما كان على المنبر قال: «إن أذنتم لى فيها وإلا فإنها علىّ حرام»( )،( ). ورأى المسلمون ما رأوا من شدته على نفسه. فذهبوا إلى ابنته حفصة أم المؤمنين. فقالوا لها: «أبَى عمر إلا شدة على نفسه وحصراً، وقد بسط الله الرزق فليبسط فى هذا الفئ فيما شاء منه ، وهو فى حل من جماعة المسلمين». وكأنما قاربتهم حفصة فى هواهم، فلما دخل عليها عمر أخبرته بالذى قالوا ، فكان جوابه : «يا حفصة بنت عمر ، نصحت قومك وغششت أباك. إنما حق أهلى فى نفسى ومالى، فأما فى دينى وأمانتى فلا»( ).
يستطيع القارئ أن يتأكد من صدق عمر رضى الله عنه فى تطبيق هذا الدستور فى الحكم من مراجعة سيرته( )، والتأكد من عدله ورحمته وأمانته وعفته عن السلطة والمال العام وتطبيقه هذه المبادئ على نفسه أولا ثم أهل بيته ثم كبار رجال دولته ثم عامة الناس . هذا هو عمر رضى الله عنه ، لكن نذكر من كل سيرته العطرة تلك الواقعة كبيان عملى لكل سمات عصره( ):
«جاءت عمر برود من اليمن ففرقها بين المسلمين فخرج فى نصيب كل رجل برد واحد ونصيب عمر كنصيب واحد منهم . قيل: واعتلى عمر المنبر وعليه البرد وقد فصله قميصا ، فندب الناس للجهاد ، فقال له رجل : لا سمعا ولا طاعة . فقال عمر : ولم ذلك؟ قال الرجل لأنك استأثرت علينا ؛ لقد خرج فى نصيبك من الأبراد اليمنية بُردٌ واحد ، وهو لا يكفيك ثوبا ، فكيف فصلته قميصا وأنت رجل طويل ؟ فالتفت عمر رضى الله عنه إلى ابنه قائلاً: أجبه يا عبد الله. فقال عبد الله رضى الله عنه: لقد ناولته من بردى فأتم قميصه منه. قال الرجل: أما الآن فالسمع والطاعة»( ).
تأمل هذه الواقعة وتعجب ، هذا رئيس الدولة يتعامل مع المال العام باعتبار أن له حرمة كحرمة مال اليتيم فلم يأخذ منه إلا ما تشتد حاجته إليه ومثله مثل غيره ، ثم هذا رجل من العامة يحاسبه على المال العام فيجيب عليه ولا يتكبر . رئيس الدولة يسير بين الناس ويتحاور معهم بلا حراسة ولا جند ولا حملة مباخر يُسكتون له الناس بالذوق وبالعافية ، وهذا يعنى أيضاً حرمة السلطة العامة حرمة مساوية لحرمة المال العام ؛ أى لا تُستخدم إلا فيما فوضت له. أما عن قبول مبدأ محاسبة رئيس الدولة (و ما دونه من الموظفين العموميين ) من قبل رعايا الدولة فمبدأ كان ينفذه عمر ببساطة وعفوية وكأن الناس قد جبلت علية.
وعمر رضى الله عنه هو الذى قال لعمرو بن العاص: «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً» وهو يقتص منه لصالح أحد أبناء البلاد التى فتحت فى عهده وهو المصرى الذى ضربه إبن عمرو وهو يظن نفسه ابن الأكرمين، وهو نفسه الذى طلب من المصرى أن يضرب عمرو قائلاً: «أحلها على صلعة عمرو، فوالله ما ضربك ابنه إلا بفضل سلطانه»( ).
ثم هذا عمر رضى الله عنه وأرضاه ، وجازاه عنا كل خير ، هذا عمر يحرم الإعتقال أو الضرب بدعوى تأديب الرعية أو غيره( ):
خطب عمر بن الخطاب رضى الله عنه ، فقال: «يأيها الناس ؛ إنى والله ما أرسل إليكم عمالا ليضربوا أبشاركم ( أى وجوهكم ) ، ولا ليأخذوا أموالكم ؛ ولكنى أرسلهم إليكم ليعلموكم دينكم وسُـنَّـة نبيكم؛ فمن فُعل به شيء سوى ذلك فليرفعه إلى؛ فوالذى نفس عمر بيده لأقصنه منه». فوثب عمرو بن العاص، فقال: يأمير المؤمنين؛ أرأيت إن كان رجل من أمراء المسلمين على رعية، فأدَّب بعض رعيته، إنك لتقصه منه ! قال: «إى والذى نفس عمر بيده إذا لأقصنه، وكيف لا أقصه منه وقد رأيت رسول الله ﷺ يقص من نفسه ! ألا لا تضربوا المسلمين فتذلوهم، ولا تجمروهم فتفتنوهم، ولا تمنعوهم حقوقهم فتكفروهم، ولا تنـزلونهم الغياض فتـضيعوهم».
ثم نؤكد على نفس المبادئ بالتأمل فى واقعة اغتياله من قبل أبو لؤلؤة المجوسى( )،( ):
كان الرسول ﷺ مبجلاً بين أصحابه وكان أبو بكر رضى الله عنه كذلك، أما عمر رضى الله عنه فقد كان إضافة لذلك، وبمقاييس الدنيا، رئيس أكبر دولة فى عصره ومع ذلك عف الجميع عن التمتع بالسلطة على رؤوس الرعية وتعاملوا مع المال العام كأحسن ما يتعامل الوصى مع مال اليتيم وساروا بين الناس يسمعون منهم ويتحاورون ويتشاورون ويتبعون أحسن ما يعلمون مما يصلح شئون الدين والدنيا ويقرر أبوبكر فى أول عبارة عامة يخطبها حق الرعية فى محاسبته كرئيس للدولة تشديداً على أنه ليس معصوماً من الخطأ مثل الرسول الكريم ﷺ ويعيدها عمر رضى الله عنه فى ولايته وينفذها كأحسن ما تنفذ على نفسه وعلى ولاته وكبار رجال دولته(3).
2-4: خصائص سنة الرسول الكريم ﷺ وخلفائه الراشدين فى الحكم والإدارة
لم يُعرِّف الرسول الكريم ﷺ ولا خلفاؤه الراشدون نظاماً سياسياً متقدماً فهذا لا يدخل فى مجال التشريع ، ولكنهم علموا الناس الحقوق والوجبات بين الحكام والمحكومين وهذا هو صميم ما يُؤخذ عن السنة الشريفة لأنه هو مجال التشريع ، وفى هذا الشأن ومما سبق عرضه فى هذه المقالة نستطيع أن نستخلص الخصائص الآتية لسنة الرسول الكريم ﷺ وخلفائه الراشدين فى الحكم والإدارة:
العدل:
العدل والمساواة والرحمة والخلق العظيم مع جمهور المسلمين ، فلم يأمر الرسول الكريم ﷺ أصحابه بشيء من الأوامر والنواهى ولا الحقوق ولا الواجبات إلا وطبقه على نفسه صغيراً كان أو كبيراً وعلى الرغم من مكانته العالية بين أصحابه إلا أنه لم يخـص نفسه ولا أسرته بأبهة سلطة ولا ترف مال ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأِّزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً* وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا﴾[الأحزاب: 28-29]، ولا اعتداء على أحد بقول أو عمل، وذلك ما فعله واتبعه الخلفاء الراشدون وألزموا أنفسهم به ابتغاء وجه الله سبحانه وتعالى.
الشورى :
جاء أمر الله بمبدأ الشورى لشخص الرسول الكريم ﷺ ولكل جمهور المسلمين حكاماً ومحكومين بناءً على الآيتين الكريمتين ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾[ آل عمران: 159] و﴿وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾[الشورى: 38]، وأقل ما يعنيه ذلك ألاّ يُضار إنسان يعرض رأيه أمام حاكم طالما لا يُؤذى الآخرين أو يضر الدولة والمجتمع ، حتى لو اختلف فى الرأى مع أصحاب السلطة.
التعفف عن التمتع بأبهة السلطة أو اكتساب النفوذ الاجتماعي أو التربح منها
كان الرسول الكريم ﷺ وبحق رحمة وعلى خلق عظيم، وقد حرم الله ذلك على أزواجه إن كُنَّ يردن الله ورسوله ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأِّزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً* وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا﴾[الأحزاب: 28، 29]، ولم يُذكر أنه سمح لأحدٍ من أسرته بأن يُؤثر نفسه بشيء لم يبحه لجمهور المسلمين كافةً، وعنه ننقل الأحاديث الشريفة فى تأكيد ذلك لدرء الشفاعة فى الحدود «والله لو سرقت فاطمةُ بنت مُحمدٍ لقطع مُحمدٌ يدها»، وعن سيرته العطرة أيضاً لم يُذكر أنه اعتدى على أحد بقول أو عمل حتى أحبه أصحابه، وكذلك التزم خلفاؤه الراشدون.
السلطة أمانة لا تُستخدم لغير الغرض الذى فُوضت من أجله
قصة محاسبة عمر بن الخطاب رضى الله عنه لعمرو بن العاص وابنه على ضرب المصرى الذى سبق ابن عمرو ، ورفضه لطلب عمرو الإقرار بمبدأ تأديب الرعية .
وقصة عمر بن الخطاب رضى الله عنه بالوصية بعدم إيذاء أو تعذيب أبى لؤلؤة المجوسى بعد ارتكابه جريمة اغتيال عمر رضى الله عنه والتوصية بالانتظار لمعرفة ما ستسفر عنه الجريمة لتحديد حجم القصاص بقدر الضرر كما شرع الله سبحانه وتعالى ، بما يعنى أن جريمة التعذيب للمسجونين السياسيين ، بل والمعارضين السياسيين هى جريمة لا يرتكبها مسلم يتبع شرع الله وسنة رسوله( ).
الاعتراف للرعية بحقها فى محاسبة الحاكم ومراجعته على السلطة العامة وعلى المال العام
خطبتى استهلال الحكم من أبى بكرٍ وعمر رضى الله عنهما بطلب التقويم والنصيحة
قصة المرأة التى راجعت عمر بن الخطاب رضى الله عنه على مهور النساء
وقصة الرجل الذى حاسب عمر رضى الله عنه على طول حُلّته
رد المظالم قبل مغادرة مقعد السلطة بالوفاة أو بغير ذلك
لم يُذكر عن الرسول الكريم ﷺ موقفاً ظلم فيه أحداً من الناس مسلماً أو غير مسلم سواءٌ كان ذلك قبل نزول الوحى أو بعده، وعند استشعاره الوفاة فى مرضه الأخير حرص على وضع سنته الكريمة فى رد المظالم قبل الوفاة ، أو مغادرة المنصب ، وفى ذكر الخبر عن مرض رسول الله ﷺ الذى توفى فيه( ) الدروس والعبر ، وكذلك فعل خلفاؤه الراشدون عند الوفاة ومحاسبة كلٍّ منهم لنفسه وسؤالهم عمن جلد له ظهراً أو شتم له عِرضاً أو كان له درهماً فى ذمته .
هذه المبادئ التى اتبعها الرسول الكريم ﷺ وخلفاؤه الراشدون فى الحكم والإدارة تصلح لأن تكون المبادئ الدستورية لدى أحدث الدول فى عصرنا الحديث فى القرن الواحد والعشرين( )، وقد اتبعها الرسول الكريم ﷺ وخلفاؤه الراشدون فى القرن السابع الميلادى بينما كانت أقوى الدول المعاصرة لهم وأكثرها تحضراً وهما الفرس والروم يحكمهما كسرى وقيصر بسلطات مطلقة لا يجرؤ أحد على مناقشتها ويأخذون من مواطنيهم كل شيء، قريباً مما كان يفعل فرعون وهامان وجنودهما ممن كانوا تحت سلطتهم ، لقد كانت تلك أحدث معطيات الحكم والثقافة والفلسفة والنظم السياسية فى ذلك العصر، قد اتبع الرسول الكريم ﷺ وخلفاؤه الراشدون المبادئ الإسلامية الإلهية فى الحكم والإدارة وأعطوا المحكومين حقوقهم لأنها أوامر إلهية جاءت بالقرآن الكريم وتبينت تفصيلاً فى سنة الرسول الكريم ﷺ التى أوحى الله بها ، لقد تعففوا عن فعل غير ذلك إرضاءً لله سبحانه وتعالى واتباعاً لشرعه الكريم ، هذا على الرغم من أن كلاً منهم كان يستطيع أن يحصل ممن هم تحت حكمه ما يأخذه كل من كسرى وقيصر من مواطنى دولهم ونخص بالذكر منهم الرسول الكريم ﷺ لأنه كان مبجلاً إلى أبعد الحدود من أتباعه وعمر بن الخطاب رضى الله عنه فقد كان رئيس أكبر دولة فى عصره بعد أن هزم كسرى وقيصر ، كل هذا ما كان ليحدث فى ذلك العصر المتخلف حضاريا نتيجة لأى ثقافة بشرية معاصرة لهم، وما نذكر هذا الأمر فى مقامنا هذا إلا لأنه مثَّل فجوةً ثقافيةً وحضاريةً تجعل من استمرار هذا النمط من الحكم والإدارة أمراً غير متوقعٍ لأن البشر المنوط بهم تنفيذه من بعد الخلفاء الراشدين لن يستوعبوا مراميه ولا قيمه ، حكاماً ومحكومين ، مما فتح الطريق إلى أحداث الفتنة الكبرى .

3ـ الفتنة الكبرى واضطراب مذاهب المسلمين فى الحكم والإدارة:

برؤية عصرنا الحديث ومعطياته العلمية والثقافية ، لو لم تكن هناك فجوة حضارية بين سنة الرسول الكريم ﷺ وخلفائه الراشدين فى الحكم والإدارة ومعطيات عصرهم فى الثقافة العامة وثقافة السياسة والإدارة وعلومهما وتكنولوجيا التنقل والاتصال وتداول المعلومات بما يسمح بتطبيق مبدأ الشورى بطريقة سليمة وتفهم مراميه وقيمه لكان من الممكن أن نتصور أن تنمو الدولة الإسلامية من بعد عمر بن الخطاب رضى الله عنه بالاتجاه نحو بناء الأطر القانونية والمؤسسية والآليات السياسية فى الدولة الناشئة بما يضمن العلاقة بين الحكام والمحكومين وعدم خروج أحد منهم عن الإطار المسموح به بالخطوات المنطقية الآتية:
– وضع صيغة تبين ما تم استخلاصه من المبادئ الفقهية التى تقوم عليها العلاقة بين الحكام والمحكومين فى الدولة.
– وضع الإطار والصياغة القانونية المحكمة التى تتفق مع هذه المبادئ بما يعنى تطبيقها فى ظل أقل ما يمكن من الاختلاف على المفاهيم والمبادئ .
– وضع البناء المؤسسى للنظام السياسى والإدارى بما يتفق مع هذه المبادئ ويضعها موضع التنفيذ .
– وضع الآلية القانونية والمؤسسية التى تفسر وتفصل فى الخلافات التى تنشأ عند تطبيق هذه المبادئ.
ولكن بالرجوع إلى القرن السابع الميلادى، نجد أن معطيات الثقافة السياسية وعلوم ونظم السياسية والإدارة فى ذلك العصر والتقنيات القانونية، إلى آخر كل تلك المنظومات المتكاملة، ما كانت لتسمح بفهم مرامى ومبادئ الخلافة الراشدة ولا كيفية التعامل معها ولو قَبِل الخليفة بالتعفف عن مكاسب السلطة وأبهتها والتربح منها تقوىً لله وحباً فيه لما فهم معاونوه من الوزراء والمعاونين والخفراء ، وما وجدوا غضاضة فى الالتفاف عليه، أما الشورى فأمر لم تسمح به تقنيات التنقل والاتصال وتداول المعلومات، بما أدى إلى قطع التجربة ومنع نموها القانونى والمؤسسى. لقد استمر حكم الرسول الكريم ﷺ وصاحبيه أبو بكر وعمر حتى عام 24 هجرية ، هى عمر التجربة ، حيث مرت بعد ذلك بعهدين انتقاليين ؛ هما ولاية سيدنا عثمان رضى الله عنه حيث تسلل الأمويون إلى مراكز الدولة العليا ، وانتهى بعهد سيدنا علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه من عام 35 هجرية حتى قتل عام 40 هجرية وكانت كلها فترة المنازعات والفتن على النحو المعلوم فى التاريخ ، والذى انتهى بزوال دولة الخلفاء الراشدين الشرعية الفاضلة وظهور الدول الإسلامية التاريخية ، التى تختلط فيها توازنات القوى مع بعض النزوع إلى الثقافة الإسلامية فى الحكم والإدارة تزيد وتنقص حسب الظروف والأمزجة .
3-1: اغتيال عمر بن الخطاب رضى الله عنه وفتح الباب إلى أحداث الفتنة الكبرى
لقد تم اغتيال عمر بن الخطاب رضى الله عنه بجريمة ارتكبها أبو لؤلؤة المجوسي وهو أحد الوافدين على مجتمع المدينة المنورة مما أذن ببدء عهد جديد يتكاثر فيه الوافدون الجدد من أهل الأمصار والأقطار المفتوحة ومن قبلهم الطلقاء يوم فتح مكة مما جعل من تربوا على يد رسول الله الكريم ﷺ قلة وسط هذا الكم الهائل الذى أسلم ولم يتفقه فى الدين ، ففهم منه بقدر ما استطاع فإذا تعلق الأمر بموضوع يصعب استيعابه بثقافة العصر ويزداد صعوبةً بالتعفف عن الكثير مما تتيحه السلطة، أصبح الطوفان مؤكداً على يد هؤلاء ممن يجهلون ما دق عليهم وصعب فهمه، ولم يبق إلا أن تصل القيادة والأحداث إلى نهايةٍ محتومة.
3-2: بداية الفتنة الكبرى فى ولاية سيدنا عثمان بن عفان رضى الله عنه حتى اغتياله
فى عهد سيدنا عثمان بن عفان رضى الله عنه ، بدأ اقتراب غير من تربوا على يد رسول الله الكريم ﷺ إلى رئاسة الحكم فى الدولة الإسلامية بتقارب بنوا عمومة سيدنا عثمان رضى الله عنه من بنى أمية إليه وتقديمهم أنفسهم باعتبارهم أقدر الناس على مساعدته فى أمور الحكم والإدارة وقد كانوا أهلاً لذلك منذ كانوا سادة مكةٍ لعهودٍ طويلة من قبل فتحها ، وانتهى الأمر بتمكنهم من مناصب الدولة الإسلامية العليا على النحو الثابت فيما كُتِبَ عن تاريخ تلك الحقبة ، وانتشرت مظالمهم ولم يعتادوا العفة فى استخدام السلطة العامة ولا العفة عن المال العام مما أدى إلى تصاعد التذمر من أفعالهم وتصاعد الاحتجاج على أعمالهم من قبل الرعية المشتاقة إلى عدل الإسلام والمطالبة بالعودة إلى ما فى سنة الرسول الكريم ﷺ والشيخين أبى بكرٍ وعمر رضى الله عنهما بينما سيدنا عثمان بن عفان رضى الله عنه يتمزق بين اقتناعه بسنة الرسول الكريم ﷺ وخلفائه الراشدين فى الحكم والإدارة وعدم قدرته على تنفيذ الكثير منها بعد أن تمكن معاونوه من بنى أمية وعلى رأسهم مروان بن الحكم من كل الأمور التنفيذية فى دولته، وقد كانت نشأة مثل هذا الخلاف حتميةً كما يحدث فى أى دولة وأى مجتمع.

إذن فقد نشأ الخلاف كما يحدث فى الأمور اليومية لكل دولة، ولكن عجز الدولة الإسلامية عن إنشاء الإطار القانونى العام للدولة بما يستند على الإطار العام للمعاملات فى الإسلام ويعكس الفقه الناشئ عن السنة النبوية الشريفة والخلفاء الراشدين فى الحكم والإدارة ويضع البناء المؤسسى الذى يتفق مع هذه المبادئ ويطبقها ويكمل ذلك بوضع الآلية القانونية والمؤسسية التى تفسر وتفصل فى الخلافات التى تنشأ عند تطبيق هذه المبادئ بين الحكام والمحكومين، هذا العجز عن إنشاء هذه المنظومة هو الذى أدى إلى اتساع الخلاف بدلاً من إيجاد صيغة للفصل فيه وإخماد الفتنة فى مهدها كما يحدث فى الدول الحديثة اليوم، حيث تنشأ خلافات تماثل ما بدأت به الخلافات فى عهد سيدنا عثمان بن عفان رضى الله عنه ولكن مبدأ الشورى وحرية الرأى مع توفر البناء المؤسسى السياسى والقانونى فى الدول الحديثة بما يحدد اختصاصات رئيس الدول ومعاونيه ، ويحصر الخلافات بينهم وبين المحكومين فى الإطار القانونى والفقهى والسياسى لا تتعداه ويصل بها إلى بر الأمان والحل دون التصاعد إلى صراع مسلح أو اغتيالات كما يحدث عند فشل الشورى والقانون والفقه فى حل هذه الخلافات .

مع بدء أول خلاف حقيقى فى دولة الخلفاء الراشدين على عهد سيدنا عثمان بن عفان رضى الله عنه لم يأت الفشل فى التوصل إلى الحل نتيجة لاختلافه مع المحكومين على شرعية حقوقهم فى الشورى والعفة عن المال العام، ولكن جاء الفشل نتيجة لعدم وجود الآليات القانونية والمؤسسية لتنفيذ هذه المبادئ الشرعية حتى تُحل الخلافات ويُفصل فى الحقوق والواجبات بين الحكام والمحكومين ، وما كانت لتتواجد هذه الآليات القانونية ولا المؤسسية التى يُمكن أن تستوعب خصائص السنة الشريفة فى الحكم والإدارة فى مثل هذا العصر البدائى الذى لم يسبقه ولم يعاصره فى تراث البشرية تطبيق ولا فكر يشبهه أو يُماثله .

3-3: الفتنة الكبرى فى ولاية سيدنا على بن أبى طالب كرم الله وجهه حتى القضاء على الخلافة الراشدة
بدأت ولاية سيدنا علىّ بن أبى طالب كرم الله وجهه وهناك جماعات المصالح صاحبة النفوذ فى الدولة لا يروق لها التعفف عن استخدام السلطة ولا التعفف عن الاعتداء على المال العام، وهناك جموع من حديثى العهد بالإسلام لا يفقهون شيئاً من مرامى سنة الرسول الكريم ﷺ وخلفائه الراشدين فى الحكم والإدارة يفرحون بخدمة جماعات المصالح لقاء فتات الموائد ، وهناك غياب الإطار والآلية القانونية والمؤسسية التى تحل الخلافات وتفصل فيها، كل هذا تصاعد بالخلاف الذى بدأ قابلاً للحل إلى حيث تم اغتيال الخليفة سيدنا عثمان بن عفان رضى الله عنه بعد عشر سنواتٍ من ولايته بما يفتح الباب إلى ما هو أسوأ .
إذن هناك غياب الإطار والآلية القانونية والمؤسسية التى تحل الخلافات وتفصل فيها، بما يؤدى إلى تصاعد الخلافات فى الدولة إلى حد الاقتتال ، حتى ولو كانت الخلافات الناشئة قابلةٍ للحل من حيث المبدأ ، وقد أدى ذلك إلى وقوع القتال من جماعتين ضد الخليفة سيدنا علىّ كرم الله وجهه .
الجماعة الأولى: هى جماعة طلحة والزبير ومعهما السيدة عائشة رضى الله عنها، ونستطيع من حيث المبدأ أن نقول إنها جماعة اختلفت مع الخليفة على موضوع القصاص من قتلة عثمان رضى الله عنه ووجوب تنفيذه فوراً دون أى اعتبارات سياسية أو قانونية أو عملية قد تستوجب التأخير والمناورة ، وقد انتهى الخلاف بموقعة الجمل ، حيث تشتت جمع المعارضين وانهزم بينما سلك علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه سلوك من يقدِّر اختلافهم معه ، يريد أن يتلافى القتال قبل بدئه ويحصره فى أقل القليل للدفاع عن النفس فقط ولا يطاردهم بعد هزيمتهم ، بل ويداوى جرحاهم ويدفن موتاهم ، ثم يبعث مع السيدة عائشة رضى الله عنها من يصحبها معززة مكرمة إلى المدينة المنورة وتلك نهاية أحداث هذا الاختلاف ، إذن هو خلاف من داخل دولة الخلافة الراشدة لم يحدث إلا بسبب غياب آليات حل الخلافات فى إطار من مؤسسات الدولة السياسية والقانونية ، ولكن خلاف هذه الجماعة ، حتى لو التمسنا له حسن النية وسلامة القصد إلا أنه نال من هيبة الدولة وسمعة رئيسها .
الجماعة الثانية: هى جماعة من جماعات المصالح شديدة الخطورة اتجهت إلى قيادة حديثى العهد بالإسلام وجهلاء الأمة إلى حيث قوضت دعائم دولة الخلافة الراشدة وقضت عليها نهائيا. لقد تقدم هذه الجماعة معاوية بن أبى سفيان بن حرب رضى الله عنهما وساعده عمرو بن العاص رضى الله عنه ، وقد كان لكل منهما إرهاصات واشتياق للسلطة وأبهتها منذ أيام عمر بن الخطاب رضى الله عنه ولكن جرى تحجيمها فى مهدها فمما يُروى عن عمر رضى الله عنه أنه قدم إلى الشام راكباً على حمار فتلقاه عامله معاوية فى موكب عظيم فانتقده عمر رضى الله عنه فرد بأن أهل هذه البلاد بينهم جواسيس للعدو كثيرون فإن لم نتخذ مظهر القوى القادر استخف بنا العدو، وكذلك الأمر بالنسبة للمحكومين فقد اعتادوا على أن يكون حكامهم ظاهرى القوة والمنعة والثراء وإلا طمع المحكومون فى الخروج عليهم فما كان من عمر رضى الله عنه إلا أن قال له «لإن كنت صادقاً فإنه رأىٌ لبيب ، وإن كنت كاذباً فإنها خدعة أريب، لا آمرك ولا أنهاك»( )، وعمرو بن العاص رضى الله عنه هو الذى قال له عمر رضى الله عنه: «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً» وهو يقتص منه لصالح أحد أبناء البلاد التى فتحت فى عهده وهو المصرى الذى ضربه إبن عمرو وهو يظن نفسه ابن الأكرمين، وهو نفسه الذى طلب من المصرى أن يضرب عمرو قائلا: «أحلها على صلعة عمرو ، فوالله ما ضربك ابنه إلا بفضل سلطانه»( ).
ثم هذا عمرو بن العاص رضى الله عنه ثانيةً يطلب من عمر بن الخطاب رضى الله عنه حقاً لأمراء المسلمين فى تأديب الرعية، فرد عليه عمر رضى الله عنه: «إى والذى نفس عمر بيده إذا لأقصنه، وكيف لا أقصه منه وقد رأيت رسول الله ﷺ يقص من نفسه ! ألا لا تضربوا المسلمين فتذلوهم، ولا تجمروهم فتفتنوهم ، ولا تمنعوهم حقوقهم فتكفروهم ، ولا تنـزلوهم الغياض فتـضيعوهم»( ).
يستطيع كل باحث أن يتابع أحداث الفتنة الكبرى من مصادر كثير ، نسوق منها على سبيل المثال ما جاء بالمراجع( ) ولا يهمنا من أمرها اليوم إلا آثارها التى لم تبارح حياة المسلمين حتى اليوم فكل صور الفكر السياسى الذى نتداوله اليوم فى القرن الواحد والعشرين تحت مسمى الفكر السياسى الإسلامى نجد جذورة فيما نتج عن الفتنة الكبرى وأحداثها وظروف نشأتها ، ولا يهمنا أن ننتقد أحداً من أطراف تلك الأحداث فكل منهم قد وفاه الله حسابه فور قيامته الصغرى بالوفاة فعرف ما له وما عليه مما قدّم وما صرّح وما أخفى ، ولكن نحلل ما يلزمنا فى مقامنا اليوم لنعلم أين اختفى الشرع الإسلامى الحنيف وسنة رسوله الكريم ﷺ فى موضوع الحكم والإدارة، ولماذا لم يتبوأ موقعه الرفيع ويتسيد فى الفقة والفكر والنظم ذات الطابع السياسي وهل هناك احتمال لأن يظهر ثانية بطبيعة تداعى الأيام والأحداث أم أنه ذهب إلى غير رجعة.
لقد قامت الأحداث مع هذه الجماعة فى بدايتها فى صورة خلاف شكلى على قتلة عثمان رضى الله عنه ووجوب القصاص منهم، وكأنها امتدادٌ للأحداث التى انتهت مع جماعة طلحة والزبير، حيث تلكأ معاوية بن أبى سفيان بن حرب رضى الله عنهما وهو رأس الأمويين وأمير الشام عن مبايعة علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه خليفة للمسلمين حتى أرسل له عليّ رضى الله عنه مندوبه جرير بن عبد الله البجلى يطلب منه البيعة فلم يعطه ما أراد وتلكأ فى الرد( )، ثم أرسل إلى عليّ بن أبى طالب رضى الله عنه كتاباً يتهمه فيه بحسد السابقين من الخلفاء والبغى عليهم والتلكؤ فى البيعة لهم حتى يضطر إليها اضطراراً ويُقادُ إليها كارهاً ثم أنهى كتابه بعبارات قاطعة «وقد بلغنى أنك تنْتفى من دم عثمان رضى الله عنه وتتبرأ منه . فإن كنت صادقاً فادفع إلينا قتلته نقتلْهم به، ثم نحن أسرع الناس إليك. وإلا فليكن بيننا وبينك السيفُ. ووالذى لا إله غيره لنطلبن قتلة عثمان رضى الله عنه فى الجبال والرمال والبر والبحر حتى نقتلهم أو تلحق أرواحنا بالله. والسلام»( ).

لم يترك معاوية رضى الله عنه أى مساحة للتسامح مع خطابه هذا فقد اتهم علياً رضى الله عنه بحسد الخلفاء والبغى عليهم والتلكؤ فى البيعة لهم حتى يُقاد إليها كارهاً ، وعليه أن يدفع إليه بقتلة عثمان رضى الله عنه وإلا فبينهما السيف ، وجاء الرد من عليّ بن أبى طالب رضى الله عنه ليذكر معاوية رضى الله عنه بمآثر آبائه وأسرته فى محاربة الإسلام حتى اضطروا إليه يوم فتح مكة ، وذكره بما كان من أبيه أبى سفيان رضى الله عنه حين قُبض رسول الله ﷺ وبايع الناس أبا بكرٍ رضى الله عنه ، حيث قال لعلىّ رضى الله عنه «أنت أحق الناس بهذا الأمر ، فابسط يدك أبايعك»، ولكن علياً رضى الله عنه أبى ذلك مخافة الفرُقة( ).
وهكذا استبان للجانبين أن ليس من الحرب بُد، فكانت موقعة صفين بأحداثها( )، وأهم ما فيها مبارزة عليّ رضى الله عنه لعمرو بن العاص( )، وقتل عمار بن ياسر وهو من أنصار علىّ رضى الله عنه ( )، واقتراب النصر من عليّ بن أبى طالب رضى الله عنه وتهرَّب أنصار معاوية رضى الله عنه من الهزيمة برفع المصاحف طلباً لتحكيم ما فى القرآن على موضوع الخلاف بين الجانبين، ثم واقعة التحكيم المفجعة ، وهكذا دخل فى الواقع السياسى للمسلمين سلوكياتٍ لم يألفوها، أدخلها إليهم معاوية رضى الله عنه وعمرو بن العاص وبلغت أوجها فى واقعة التحكيم وإعلان عمرو نتائج للتحكيم غير التى اتفق عليها مع أبو موسى الأشعرى( )،( )،(#).
لقد سلك سيدنا عليّ بن أبى طالب رضى الله عنه سلوك الوَرَع والزهد فى الدنيا وفى المنصب، واثقاً من صواب علمه وصحة عمله فلم يكن يهمه استرضاء أحدٍ مادام قد أرضى الله الذي كان وراء كل قصدٍ من أعماله وأقواله ، ولا شك أن رجلاً كهذا فى عصرٍ ضعُفَت فيه التقوى وتمكنت من النفوسِ الأطماع وحب الدنيا لم يكن ليمر عليه الزمن إلا ليَضْـعُف موقفه بخسارة الأنصار الذين يهربون منه إلى حيث الصفقات والمآرب وتقسيم الغنائم مع معاوية رضى الله عنه ، وهكذا تجنب معاوية رضى الله عنه الهزيمة بطلب الهدنة من خلال التحكيم واستفاد من عامل الوقت الذى كان لصالحة فقد كان هذا عصر معاوية رضى الله عنه وعمرو ولم يكن عصر عليّ رضى الله عنه وأمثاله.
لقد ضـعُف معسكر عليّ رضى الله عنه وازدادت الانشقاقات بداخله وكان أخطرها انشقاق الخوارج، وقوِىَ معسكر معاوية رضى الله عنه وازداد ضغطه على معسكر عَلِىّ رضى الله عنه وانتهى الأمر نهائياً بقتل عليّ بن أبى طالب رضى الله عنه على يد الخوارج واستتباب الأمر لمعاوية رضى الله عنه والقضاء نهائياً على دولة الخلافة الراشدة وظهور نمطٍ جديد فى الحكم والإدارة .
لقد جاءت أحداث الفتنة الكبرى التى قادها معاوية بن أبى سفيان بن حرب رضى الله عنهما وزملاؤه بنتائج خطيرة فى مسيرة الدين الإسلامى، ولا يختلف مؤلف هذه المقالة مع القائلين بحتمية حدوثها انقلاباً على سنة الرسول الكريم ﷺ وخلفائه الراشدين فى الحكم والإدارة ، فلم يكن لهذه السنة من سند فى ذلك العصر إلا تقوى الله وطاعته، التى كان من المتوقـّع أن تضعف مع بُعد العهد عن رسول الله ﷺ وخلفائه الراشدين أمام توازنات القوى السياسية وضغوط جماعات المصالح التى لا يتوفر لديها كل هذا المطلوب من كم التقوى لاتباع سنة الرسول الكريم ﷺ فى الحكم والإدارة كاملة ، بل هم رجال دولة وسياسة يأخذون من المنصب ومن المحكومين كل ما تطوله أيديهم ، وكذلك يفعل كل رجل دولة وكل رجل حكم فى كل زمان ومكان ، يحترف مهنة السياسة ويتكسب منها، ويتلون سياسيًّا بما يخدم قيادته للشعب ويعطيهم بقدر ما يستطيعون أخذه منه ، وليس بقدر حقوقهم كما كان يفعل الرسول الكريم ﷺ وخلفاؤه الراشدون فى الحكم والإدارة .
وحيث إن موضوع هذه المقالة هو نمط الحكم السنى الذى بينه الرسول الكريم ﷺ واتبعه خلفاؤه الراشدون وخصائصه فى الحكم والإدارة وأين ذهبت واختفت من الدولة الإسلامية ولماذا ، فإنه تمييزاً بينه وبين ذلك النظام الذى استحدثه معاوية بن أبى سفيان بن حرب رضي الله عنهما، فإن مؤلف هذه المقالة سوف يطلق على نظام معاوية المستحدث هذا إسم «النظام الأموى فى الحكم والإدارة» ويتابع بيان ملامحه واختلافاته عن تلك التى تميز الخلافة الراشدة .

3-1: النظام الأموى فى الحكم والإدارة
كما تبين سقطت دولة الخلافة الراشدة لسببين؛ الأول هو الفارق الكبير بين ثقافة العصر ونظمه السياسية وتقنياته مقابل المبادئ التى تقوم عليها الخلافة الراشدة والثانى هو عدم استطاعة دولة الخلافة الراشدة تطوير إطارٍ قانونى ونظامٍ سياسى من بعد استقرار مبادئها فى سنة الرسول الكريم ﷺ ومعاملات أبى بكرٍ وعمر رضى الله عنهما استقراراً يبين الأحكام بغير لبسٍ ، ولم يكن مصدر عدم الاستطاعة إلا هو نفسه السبب الأول لأن مثل هذا النمط من الخصائص فى الحكم والإدارة لم يكن له سابقة فى الفكر السياسى ولا النظم السياسية .
وهكذا مع الحاجة الملحة لتطوير النظام السياسى فى الدولة المترامية الأطراف تقدم معاوية بن أبى سفيان رضى الله عنهما بابتداع نظامٍ فى الحكم يتفق مع الظروف السائدة فى دولته وبما يحقق طموحاته الشخصية ، لقد وعى تماماً بأنه يقود شعباً يتعلق قلبه بالإسلام بينما لا يسعفه من الثقافة ولا الأطر القانونية ولا النظم السياسية المعاصرة له إلا ما يماثل تلك التى قام عليها ملك كسرى وقيصر باعتبارهما أكثر ما فى ذلك العصر من حداثة وتحضر وتقنية إدارية.
وبذلك ومع سيادة الأغلبية من حديثى العهد بالإسلام ونقصٍ من الصحابة وتقادمٍ فى العهد بما أدّى إلى سيادة حب الدنيا على حب الآخرة فى المعاملات بين البشر، وبالتالى أصبح استمرار الحكم بسنة الخلفاء الراشدين وما فيها من بساطة وعفوية أمراً غير مؤكد، حيث قام النظام الجديد فى الحكم على تقديس أركان الإسلام الخمسة كما هى فى سنة الرسول الكريم ﷺ ولكن أنشأ فوقها دولة يحكمها رجال ينعمون بقيادة دولة ذات نظام يماثل نظامى كسرى وقيصر ويتمتعون بسلطات تماثل ما كان لهما وهى سلطات ونعم لم يسمح بها الله لرسوله ﷺ ولا لخلفائه الراشدين، فهم ملتزمون بالإطار العام للمعاملات الإسلامية الذى يأمر بالعدل والإحسان والتكافؤ بين البشر جميعاً فى الحقوق والواجبات والأقدار حتى ولو كانوا حكاما من أصحاب السلطة ومحكومين تسرى عليهم أوامرهم( ).
وهكذا كان هذا هو المذهب الرئيس الذى حل محل سنة الرسول الكريم ﷺ وخلفائه الراشدين فى الحكم والإدارة، وقد أشاع عليه منشئوه ومن أعجبهم اتِّباعه اسم المذهب السنى فى الحكم ، بينما هو يختلف اختلافاً جذريا عن سنة الرسول الكريم ﷺ وخلفائه الراشدين فى علاقات الحكم والإدارة مع المحكومين فى الخصائص والأمور الآتية( ):
منع الشورى، سواء بمعنى حرية إبداء الرأى لكل فردٍ من أفراد الرعية ، وهذا أقل ما فى الأمر الإلهى بالشورى ، أو بمعنى محاسبة أولى السلطة على ما يُمارسونه من أوامر السلطة العامة كما بيَّن أبوبكر وعمر رضى الله عنهما.
التحول إلى الملكية بتوريث الحكم، وهو أمر لم يعرفه الإسلام على الإطلاق لا فى عهد الرسول الكريم ﷺ ولا فى سنة حكمه ولا فى سنة خلفائه الراشدين .
التمتع بالسلطة ببعض صور البغى والتكبر على الرعية والضعفاء فى الدولة ، وهو الأسلوب الظاهر مثل سكنى القصور من المال العام واتخاذ المواكب ، وما منع الشورى والانفراد بسلطة الحكم والبطش بمن يتجرأ من الخصوم السياسيين إلا قمة البغى والتكبر بغير الحق.
التربح من السلطة، عدم وضع حدود لاستحقاقات رئيس الدولة نظير أعباء الوظيفة كما فعل أبوبكر وعمر رضى الله عنهما ، مما أدى إلى انعدام التفرقة بين ما يمتلكه بشخصه وما تمتلكه الدولة ، ثم انتقال العدوى إلى الموظفين العموميين بعدم التفرقة بين ما يجوز وما لا يجوز فى موضوعات المال العام .
عدم رد المظالم لا عند الوفاة ولا غيره ، بما فتح الباب أمام الموظفين العموميين، كما يفعل ملوكهم ، إلى التوغل فى المظالم ، فلا رد لها لا الآن ولا غداً والحساب مؤجل لدى الغفور الرحيم الذى يغفر الذنوب جميعاً إلا الشرك به.
بهذه الاختلافات الجذرية ، تم إفراغ الاتباع لسنة الرسول الكريم ﷺ فى الحكم والإدارة من المضمون، ومن أهم ما فى الأمر من حقوق للرعية ولله ولرسوله ﷺ من حدود بما يحفظ للدولة الإسلامية وما للإسلام وللسنة من تميز دينى وإنسانى ، وإذا كان هذا الابتداع على شرع الله وسنة رسوله ﷺ فى الحكم والإدارة يجد بعض المبرر تحت دعوى الضرورات التى تبيح المحظورات قديماً، إلا أنها اليوم ، فى القرن الواحد والعشرين تعتبر سُبة فى جبين الشرع الإسلامى لو تم انتسابها إليه وتقوُّلٌ على رسول الله ﷺ بأن مثل هذه الممارسات تنتمى بأى صورة من الصور إلى السنة ، بما يستوجب التصحيح.
لم ينكر أتباع هذا المذهب فى الحكم والإدارة شيئاً على مذهب الرسول الكريم ﷺ وخلفائه الراشدين فى الحكم والإدارة، ولم يزيدوا عليه شيئاً ولم ينكروا منه شيئاً، ولكنهم اختلفوا فى تطبيقه من الداخل، حيث طلبوا من المحكومين الصبر على مظالم الحكام والتغاضى عن منعهم الشورى ورفضهم المحاسبة أو رد المظالم فى الممارسة، أو الانحراف فى جباية الضرائب وإصدار التشريعات ، كل ذلك حرصاً على سلامة الدولة الإسلامية ووحدة الصف فى مواجهة الأعداء والمتربصين فى الداخل والخارج، باعتبار أن ذلك من الضرورات التى تبيح المحظورات طالما لم ينكر الحكام شيئاً من العقيدة أو الشريعة الإسلامية جهراً وصراحةً، ولذلك سمّوا أنفسهم مذهباً سنياً، ولو من الناحية النظرية.
ونستطيع أن نلخص الموقف فى كونه ممارسات حكام وتأويلات فقهاء لكى يتسع الشرع الإسلامى السنى لهذه الممارسات ، أو هى الحاكم يفعل ما يشاء والفقيه يسعى وراءه يبرر أفعاله .
والسؤال الذى يفرض نفسه ، هل يُمثِّل منع الشورى والتحول إلى الملكية بتوريث الحكم وعدم وجود حدود بين اقتناء المال عن طريق السلطة أو بالطرق الشرعية الإسلامية وعدم رد المظالم لا عند الوفاة ولا غيره تحوُّلاً يخرج عن الإطار العام للمعاملات والحدود الإسلامية ، أم أنه صورة من صور التطبيق لسنة الرسول الكريم ﷺ فى الحكم والإدارة ولا تؤدى إلى تناقضٍ رئيس مع ثوابت الشرع والحدود الإسلامية.
لم يمر عهد طويل على خروج من حكموا بهذا المذهب عن سنة الرسول الكريم ﷺ وخلفائه الراشدين فى الحكم والإدارة إلا واضطروا إلى خرق الإطار العام للمعاملات الإسلامية، وكان ذلك بقتل حُجر بن عدى فى السنة الحادية والخمسين من الهجرة على يد معاوية بن أبى سفيان بن حرب رضى الله عنهما نفسه وبعد توليته الحكم بإحدى عشرة سنة( )،( ).
لم يختلف معاوية رضى الله عنه ، ولا من استحسن مستحدثاته فى الحكم والإدارة من بعده حتى يومنا هذا، مع شيء مما جاء بالإسلام والسنة عقيدةً وشريعةً واعترفوا بكل ما جاء فى سنة الرسول الكريم ﷺ وخلفائه الراشدين فى الحكم والإدارة وأبقوا عليها كلها مخلصين أشد الإخلاص إلا ما تعلق بالحكم والإدارة فقد تم نقض خصائصه ومبادئه واحدةً تلو الأخرى عند التطبيق وفى صمت تحت دعاوى مختلفة، حتى وجد الناس أنفسهم أمام هذا النظام فى الحكم والإدارة متسربلاً بعباءة السنة مراوغاً فى تطبيقها عند الحكم والإدارة تخصيصاً، حتى لو أدى هذا التطبيق إلى خرق الإطار العام للمعاملات الإسلامية.
مؤلف هذه المقالة لا يريد أن يشغل أحداً بأمثلةٍ ممن سبقوا من حكام المسلمين ، ولكن فى العصر الحديث، لا يوجد حاكم يتبع هذا المذهب فى الحكم والإدارة ويمارسه يمكن أن يستمر فى السلطة دون قمع معارضيه بالضرب والاعتقال والتعذيب فى السجون، ثم إنكار ذلك بالكذب وشهادة الزور منه ومن مناصريه لأنه لا يستطيع المجاهرة بما يفعله ويمارسه. وبالتالى يتحول السؤال ليكون هل الكذب وشهادة الزور تخرج عن الإطار العام للمعاملات الإسلامية أم لا، فى العصر الحديث لا يوجد رئيس دولة ولا موظف عام يستطيع أن يعترف بممارسة السلطة للتعذيب فى السجون للمعارضين. والاعتقال دون جريمة ولمجرد الاختلاف فى الرأى هو حقيقة صورة من صور التعذيب والحرابة، مع ملاحظة أن من المفهوم بداهة أنه لو كان يستطيع أن يُقنع مواطنيه بحكمه طواعية منهم لما احتاج إلى منع الشورى وحرية الرأى، أيضاً لن يقمع حاكم مواطنيه ما لم يكن لديه ما يُخفيه من أموره ، وأول ما يُخفيه هو أسراره المالية ، وبالتالى فإن الحاكم مانع الشورى ، هو فى حقيقة الأمر متعدٍّ على حدود الله، وإلاًّ ما فعلها وكمم الأفواه التى كانت ستشكره لو كان صالحاً حقيقةً ، وباستعادة الذاكرة فى موضوع مقتل حجر بن عدى نستطيع أن نقول بأن الشرع الإسلامى متكامل ولا يُمكن الأخذ ببعضه وترك البعض الآخر وسنة الرسول الكريم ﷺ وخلفائه الراشدين فى الحكم والإدارة هى التطبيق الخاص للقواعد الإسلامية العامة فى المجال الخاص بالحكم والإدارة ونقض شيء من هذه المبادئ يقود بالضرورة إلى خرق الإطار العام للمعاملات الإسلامية.
والسؤال الثانى الذى يفرض نفسه عن الإسلام الذى هو كما يعلم الجميع عقيدةً وشريعة، فما أثر الاستمرار فى اتباع هذا المذهب على مدى قابلية الشريعة الإسلامية نفسها على الإستمرار فى المستقبل من الناحية العملية طالما يقدم المسلمون هذا المذهب إلى العالم باعتباره سنة عن الرسول الكريم ﷺ على الرغم مما يحتويه هذا المذهب من مظالم وتجاوزات تصبغ القيادة السياسية ، وتشريعات الدولة ومؤسساتها بصبغتها، وبالتالى الإعلام ونظام التعليم، مع ملاحظة أنه نظام لا يسمح بطبيعته بالشورى (حرية الرأى)، ولا محاسبة أصحاب السلطة ، وهى كلها أمور لم تعد مقبولة على الإطلاق فى عصرنا هذا، وترفضها جملة وتفصيلاً علوم السياسة والإدارة الحديثة، ولا توجد دولة محترمة فى العصر الحديث يُمكن أن تُدار بهذه الطريقة ، ولا يوجد فكر سياسي محترم يُمكن أن يُقدَّم للناس وفيه مثل هذه التجاوزات، وبالتالى فإن تقديم هذا المذهب فى الحكم والإدارة باعتباره من السنة ، هو إهانة لسنة الرسول الكريم ﷺ وخلفائه الراشدين وتعدٍ عليهم بالقول، وصد عن سبيل الله فى عصرنا وفيما سيأتى من بعده.
بعد القضاء على الخلافة الراشدة وإنشاء هذا المذهب فى الحكم والإدارة، ظهرت مجموعة من المذاهب والجماعات ذات التوجهات السياسية المختلفة ، تماماً مثل الزلزال وتوابعه الرئيسة والفرعية، حيث تخفُت أغلب التوابع ولا يبقى إلا أقل القليل من ردود الأفعال التى تملك القدرة على الصمود مع الزمن ، لقد كان تخفى هذا المذهب فى الغلاف السنى هو سبب بقائه حتى اليوم ، أما توابع الزلزال فأكبرها شأناً هو المذهب الشيعى المعارض، ومن بعده توابع اختفت جميعها بعد ظهورها بزمن قليل كان أكبرها فكر الخوارج، ولذلك لن نذكر هنا إلا الفكر الشيعى باعتباره الباقى من توابع الزلزال الذى أودى بالخلافة الراشدة وجعلها تاريخاً بلا حاضر.
3-2: المذهب الشيعى فى الحكم والإدارة
الشيعة الأوائل هم المناصرون لسيدنا على بن أبى طالب رضى الله عنه المدافعون عن الخلافة الراشدة المحبون لعلىّ رضى الله عنه بكل ما يمثله من الزهد والورع والتقوى والعفة عن عرض الدنيا الزائل ، ولو بقى الحال على ذلك لوجدنا جذوة الخلافة الراشدة على حالها تجد من يرعاها حتى يُظهرها الله ، ولكن أتباع المذاهب الشيعية فى عصرنا هذا يختلفون فى كثيرٍ من فكرهم عن أُولئك المناصرين الأوائل فما الذى حدث وكيف.
الكثير من المراجع( ) يعرض تاريخ هذه الجماعة وتطور فكرها والأحداث التى مرت بها، ولكنا فى مقالنا هذا لن نتعرض إلا لما يمس موضوع الحكم والإدارة ، لقد جاءت مكيدة التحكيم من معسكر معاوية بأول الانشقاقات فى معسكر على فخرج منه من خطـَّـأَ علـيًّا رضى الله عنه فى قبول التحكيم وسُمى هذا الفريق بالخوارج ، وبعد واقعة إعلان التحكيم المأساوية(#)، اتضح أن علـيًّا بن أبى طالب رضى الله عنه وسنة الخلفاء الراشدين يواجهون زمناً لا يؤازر مثل هذا النمط فى الحكم والإدارة ولا يستوعبه ، ووسط كل متاعب علىٍّ رضى الله عنه هذه من خارج معسكره بأعمال معاوية وداخل معسكره الذى أصبح لكل من فيه فكرٌ ومقال جاء قتله على يد أحد الخوارج بينما فشل الخارجى الذى ذهب لقتل معاوية لأن علياً رضى الله عنه يسير بغير حراسةٍ على سنة الخلفاء الراشدين ومعاوية يسير فى حراسة كافية كما يفعل الحكام فى كل زمانٍ ومكان .
بقتل علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه أصبح المدافعون عن الخلافة الراشدة والمشتاقون لعدلـها بلا قيادة تجمعهم، لم يتفرق المناصرون لسيدنا عليّ بن أبى طالب رضى الله عنه ولكن شعورهم بالاضطهاد وحبهم لعلىّ رضى الله عنه وأهل بيته حوّل ولاءهم من مناصرين للحق وللخلافة الراشدة إلى مناصرين لأفرادٍ هم أهل بيت علىّ رضى الله عنه يلتفوم حولهم وينقلون ولاءهم من وريث إلى وريث وذلك فى مواجهة توريث الحكم بين الأمويين ومن بعدهم العباسيين الذين تبوؤا الحكم بعد أن انتقموا من الأمويين لأنفسهم ولكن نمط الحكم لم يتغير عما أقامه معاوية، فاستمرت معاناة مواطنى الدولة وأتباع شيعة علىّ رضى الله عنه دون اختلاف.
لا يهمنا من أمر الشيعة إلا ما يخص متابعة خصائص الخلافة الراشدة فى الحكم والإدارة، أين ذهبت وكيف؟، وقد علمنا ما استحدث معاوية وأتباعه من فى الأمر إلى يومنا هذا، فهل حافظ الشيعة على ولائهم لمبادئ الخلافة الراشدة أم استحدثوا فيها التغيرات كما فعل الآخرين؟، أول التغيرات هو التحول الخطير من الانتصار للخلافة الراشدة وإحياء خصائصها فى الحكم والإدارة إلى ولاء لأشخاص علىّ رضى الله عنه وأهل بيته، وتبرير أحقيتهم فى الحكم بالأسانيد المختلفة، وهذا هو الرد على توريث الأمويين للحكم لأبنائهم، وهو أيضاً من معطيات ذلك العصر (القرن السابع الميلادى) الذى يصعب فيه الدعوة للولاء للأفكار لأنها تتطلب قدراً من الثقافة بينما يسهل فيه الدعوة للولاء لأشخاص معلومين من ذوى القبول ، وما أسهل الدعوة لأهل البيت ، وأصبح هذا هو محور أفكار المذاهب الشيعية، حب أهل بيت علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه واتِّباعهم واتِّباع أتباعهم.
ومع طول العهد وشدة الاضطهاد وممارسة الفكر فى السر والخفاء ، تشعّب أصحاب هذا المذهب من المتمسكين بالسنة الحقيقية عقيدة وشريعة وخلافة راشدة إلى فرق كثيرة تختلف عن ذلك أشد الاختلاف، حيث أدى طول انغلاقهم على أنفسهم إلى الغلُو فى حب على وأهل بيته مع تولد أفكار دخيلةٍ على جماعتهم ، لم يعرفها الأوائل مثل الوصاية، والرجعة، والمهدية، والتقية، ونظرية الوراثة إلى آخره وكلها مبادئ لحفظ تماسك الجماعة واستمرار عملها فى ظروف العمل السياسى السرى تحت الخوف من اضطهاد الدولة ، فضلاً عن أن إخفاء الفكر والانغلاق عليه لمدة طويله وعدم مناقشته علنا يؤدى إلى الحرمان من فرص تصويبه وتعميقه وإثرائه .
الإمامة الدينية فى المذهب الشيعى هى الرد المقابل للزعامة السياسية لدى أتباع المذهب الذى تسيد نظم الحكم فى الدول الإسلامية بعد هدم الخلافة الراشدة، أما العصمة لدى الإمام الدينى حسب المذهب الشيعى فهى الرد على حصانة الزعيم السياسى من المحاسبة والذى يدعوا له أتباعه من رجال الدين فى كل مجلسٍ ومسجد ، وتلك كلها نظرات فطرية من رؤى القرن السابع الميلادى وتوارثتها الأجيال( ).
من الثابت أن أئمة أهل البيت الأوائل ؛ علىّ بن أبى طالب وإبنيه الحسن والحسين رضى الله عنهم لم يؤمنوا إلا بصحيح مبدأ الشورى وأن المسلمين وحدهم أصحاب الحق فى مبايعة من يرونه إماماً لهم وخليفةً سياسيا عليهم ، وهذا ما كانوا يعلِّمُونَه للناس فى المدينة المنورة وفى العراق وعلى رؤوس الأشهاد وكان علىٌّ وأبناؤه رضى الله عنهم ينكرون مبدأ النص والوصية سواءٌ فى الإمامة وقيادة الأمة أو فى الخلافة وتولى السلطة، وهذا ما سار عليه واتبعه الشيعة الأوائل( )،( ).
وأخيراً كان من نتائج الفتنة الكبرى ذلك الفريق الصغير الذى اختفى بسرعة بعد نشأته ويكاد ألا يوجد له أثر اليوم وهم الخوارج ، تلك الفئة التى انشقت من معسكر علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه احتجاجاً على قبوله التحكيم يوم موقعة صفين ، لقد اختلفوا مع غيرهم من الفرق على الفكرة فقد رأوا أن الخلافة يجب أن تكون باختيارٍ حرٍ من المسلمين وأصلح الناس أولاهم للناس حتى ولو كان غير عربى وعلى ضوء هذا حاربوا أعداءهم من (أمويين وشيعة وعباسيين ) لأنهم حكموا الناس بالسيف وجعلوها وراثة ، وهى آراء شرعية ولكنهم أسرفوا وبالغوا فى حمل الآخرين على تنفيذ ما اعتنقوه وتميزوا بالقسوة فى ذلك فهم قتلة علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه حتى كرههم الناس وانتهت دعوتهم .
إذن فقد أدت أحداث الفتنة الكبرى وهدم دولة الخلافة الراشدة إلى تفرق حول أشخاص من يتولى الخلافة فهم القرشيون كما قال الأمويون ، أم أهل بيت رسول الله ﷺ عامةً كما قال العباسيون ، أم على وأهله كما قال شيعة على حتى ذهب فريق منهم إلى تأثر نظام التوريث فى عرفهم لإثبات حق عليّ وفاطمة رضى الله عنهما فى الخلافة( )، وهكذا لم يبق من زلزال الفتنة الكبرى إلا نظم هذا الحكم، ونظم الحكم الشيعية وفكر المذهبين، أما خصائص نظام الخلافة الراشدة فهى فى وجدان الناس جميعاً يتوقون إلى مثالياتها ولا سبيل إلى الوصول إليها .
3-3: الخروج عن النص وتداعياته
هذه هى التداعيات التى أعقبت أحداث الفتنة الكبرى وما بعدها ، وبالنظر للموضوع اليوم نستطيع أن نقول أن نظام الخلافة الراشدة قد اندثر منذ إسقاطه على النحو والأسباب التى ذكرناها، وحل محله فكر سياسى ونظم سياسية تتبع أحد النهجين السابقين، ولم يشذ عن الحكام المسلمين فى ذلك إلا سيدنا عمر بن عبد العزيز رضى الله عنه ، فقد أحيى سنة الرسول الكريم ﷺ وخلفائه الراشدين فى الحكم والإدارة ويُعتبر فى ذلك خامس الخلفاء الراشدين ليكون حُجة على كل من يستمرئ منع الشورى ويبطش بمن يخالفونه فى الرأى ويستبيح السلطة العامة والمال العام للأغراض الشخصية ويدعى أن هذا لأسباب الضرورة والواقع.
درج الناس على تسمية الدول التى تتبع النهج الأموى فى الحكم والإدارة بأنها تتبع أحد المذاهب السنية ، ويعلم الفاهمون أن المقصود هنا هو اتباع العقائد والعبادات السنية ، وهذا صحيح ولكنه لا يندرج على العلاقة بين الحكام والمحكومين فقد تم نقض خصائص الخلافة الراشدة من فكرٍ ونظم حكم ، إنها قبول لكل الشكل ونقض أجزاءٍ منه تخص موضوع الحكم ، وفى استخدام وصف السنة على هذه النظم دون توضيح ، خلط للمفاهيم لدى من لا يعلمون من المسلمين وغير المسلمين ، خاصةً أن هذه الممارسات يفعلها الحاكم وأعوانه وهم قطاع كبير من نسيج المجتمع وطبقاته طولاً وعرضاً ، بل ويرى الناس رجال الدين يحتفون بهم أشد الحفاوة مما يجعل غير الفاهمين يظنون أن عدم التعفف عن السلطة وعن المال العام لاكتساب منافع خاصة ليس فيه حرج من وجهة نظر السنة.
أما بخصوص الشيعة فيسمون فكرهم ونظمهم السياسية بإسمها ، إنهم شيعة ويحملون فى ذلك المسئولية الأدبية عما يفعلون ، ولا تداخل بينهم وبين غيرهم فى التعريف .
وأما فلول الخوارج ، إن شعر بهم أحد ، فهم أفرادٌ ينتشر بعض أجزاءٍ من فكرهم ويتداخل مع الغاضبين بإسرافٍ على حال المسلمين .
ومن الغريب أن الجميع يستندون فى التدليل على صحة فكرهم بتأويلاتٍ قد تكون لنفس النصوص من القرآن والسنة ، فمثلاً الآية الكريمة ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ﴾[النساء: 59] ، يستخدمها الأمويين فى التدليل على وجوب طاعة الحكام ورجال الدولة ، بينما يقول علماء الشيعة أن المقصود من أولى الأمر فى الآية الكريمة إنما هو الخليفة أو الإمام الشرعى الذى هو الإمام عليّ رضى الله عنه ومن بعده أولاده حتى الإمام المهدى ، وفى غيبة الإمام المهدى تكون الولاية للفقهاء المجتهدين الذين يحلون محل الإمام وهم النواب العامون( ).
وهكذا بينما كان الأوْلَى بالمسلمين أن يتبعوا سنة الرسول الكريم ﷺ ويحيوا خصائص الخلافة الراشدة فى الحكم والإدارة تشريعاً بين الحكام والمحكومين وممارسةً ، أدى الابتعاد عنها إلى كثير من الخلط فى المفاهيم والتأويلات لدى المسلمين ولو أخلصوا النية لفسروا الجزء ثم قاسوا النتائج النهائية للتفسيرات والتأويلات ، فإن أدت إلى تثبيت صحيح خصائص السنة النبوية الشريفة عن الرسول الكريم ﷺ وخلفائه الراشدين فى الحكم والإدارة ، فهو وحده الذى يُؤخذ عنه صحيح السنة، فهى صحيحة، وإن لم يحدث وجب التصحيح، وبالتالى يكون لدينا المعيار لاكتشاف المغالطات والوصول إلى صحيح التأويلات والتفسيرات، أى أن المعيار هو اتساق الجزء مع الكل ولا ندع الكثير من الجزئيات المتراكمة تسحبنا إلى بعيد فنفاجأ بضياع الكل ونحن نظن أن كل جزء صحيح.
وهكذا انساق كثيرٌ من المسلمين ، سواءٌ بحسن نية أو بسوء نية ، وراء التفسيرات الجزئية بدون معيار النظر إلى تداعياتها وآثارها على النسق الكلى والقياس عليه باعتباره معيارا أساساً لصحة التأويل والتفسير ، وقد رأينا كيف أدى ذلك ببعض الفرق إلى الخروج الفكرى عن صحيح أصل العقائد والعبادات الإسلامية كما أمر بها الله وبينها رسوله ﷺ ، ومن لم يخرج عن صحيح أصل العقائد والعبادات وجد نفسه خارجاً عن الإطار العام للمعاملات الإسلامية كما حدث لمعاوية بن أبى سفيان بن حرب رضى الله عنهما عندما وجد نفسه منزلقاً إلى قتل حُجر بن عدى لمجرد أنه يعارض سياساته ، ويثق مؤلف هذه المقالة أن النظم التى لا تقيم خصائص الخلافة الراشدة فى الحكم والإدارة تجد نفسها منزلقة إلى الكثير من هذه الخروقات لصحيح الإطار العام للمعاملات الإسلامية ، يفعلها الصغار والكبار فى الدولة وبالنظر إلى أنهم هم أفراد من نسيج المجتمع ، نجد عدم مراعاة الأمانة فى استخدام السلطة والتعامل معها وبها داءً منتشراً فى نسيج المجتمع كله دون أن يتعارض مع صحيح إخلاص الناس لله عقيدة وعبادة، بل ومعاملات عدا ما يخص موضوع السلطة وملحقاته.
كل هذا يقودنا إلى ما ذكرناه فى هذه المقالة من قبل من أن الإسلام عقيدة وشريعة هو كلٌ متكامل ونقض جزءٍ منه يقود إلى نقضٍ وتشوهاتٍ فى الكل .

4ـ الفجوة الحضارية الحالية وأثرها المحرك فى موضوع الحكم والإدارة

يرث المسلمون اليوم ثلاثة مناهج رئيسة فى الحكم والإدارة يتصف كل منها بأنه إسلامى، أولهم وهو الأصل هو السنة النبوية الشريفة فى الحكم والإدارة، وهى صحيح ما اتبع الخلفاءُ الراشدون فى الحكم والإدارة وتتميز باحترام مبدأ الشورى وحرية الرأى والعدل والمساواة والرحمة والشورى وحرية الرأى والتعفف عن التمتع بأبهة السلطة أو اكتساب النفوذ الاجتماعي أو التربح منها ، والسلطة أمانة لا تُستخدم لغير الغرض الذى فُوضت من أجله مع الاعتراف للرعية بحقها فى محاسبة الحاكم ومراجعته على السلطة العامة وعلى المال العام وأخيراً رد المظالم قبل مغادرة مقعد السلطة بالوفاة أو بغير ذلك، وهى نفسها المبادئ الدستورية لدى أحدث الدول فى عصرنا الحديث فى القرن الواحد والعشرين( ).
وثانيهم هو من أهم إفرازات أحداث الفتنة الكبرى ، تلك الأحداث التى نتجت عن الضغوط التى أحدثها قصور ثقافة ومفاهيم وتقنيات ذلك العصر فى القرن السابع الميلادى عن التجاوب مع صحيح مبادئ الخلافة الراشدة وإدراك معانيها ، وهذا المنهج هو أكثر المناهج انتشاراً وتطبيقاً فى بلاد المسلمين ؛ وهو النهج القائم على صحيح الإسلام كما جاء بالقرآن والسنة النبوية الشريفة ولكنه مختلفٌ أشد الاختلاف فى موضوع العلاقة بين الحكام والمحكومين حيث يمنع الشورى ويورث الحكم ويمنع حرية الرأى ولا يوجد فيه حدود بين استخدام المال العام والمال الخاص ، ولا فى استخدام السلطة والتكبر بها والتربح منها وفوق ذلك لا حساب على السلطة ولا على المال العام ولا رد للمظالم عند مغادرة المنصب بالترك أو الوفاة ، دون تعفف فى شيء من كل ذلك ، وهذا المذهب لا يزيد عن كونه المفهوم البشرى بثقافة وعلوم القرن السابع الميلادى لموضوع الحكم والإدارة عند تفاعله مع المعطيات الإسلامية .
أما ثالثهم فهو المذهب الشيعى الذى استحدثه ورثة شيعة علىّ بن أبى طالب كرم الله وجهه ، لقد كان علي والحسن والحسين رضى الله عنهم وشيعتهم المعاصرين هم أهل السنة الحقيقيون والمدافعون عن الخلافة الراشدة ، ولكن طول العهد بورثة هذا المذهب أدى بهم إلى التماسك حول اتباع على وأبنائه أكثر من التماسك حول الخلافة الراشدة والشوق إلى عدلها ، لأن الدعوة إلى التماسك حول أشخاصٍ لهم الحب والقبول أسهل فى الفهم ولا يحتاج إلى ثقافة مثل الدعوة إلى التماسك حول أفكار تحتاج إلى فهم وثقافة تساندها، وهكذا أصبح حب على وأهل بيته واتباعهم هو محور الفكر الشيعى لأسباب عاطفية وأسباب منطقية ذات طابع سياسى، أيضاً استحدث ورثة شيعة على فكرة عصمة أئمة الشيعة فى مواجهة حصانة الزعيم السياسى من المحاسبة والذى يدعوا له أتباعه من رجال الدين فى كل مجلسٍ ومسجد، وتلك كلها نظرات فطرية من رؤى القرن السابع الميلادى وتوارثتها الأجيال( ).
لقد سقطت دولة الخلافة الراشدة لأن علوم وتقنيات وثقافة ذلك العصر الذى نشأت فيه لم تسعفها بما يلزم لبناء الأطر القانونية والمؤسسية والآليات السياسية لوضع خصائص العلاقة بين الحكام والمحكومين بما يتفق وتلك التى بينها الرسول الكريم واتبع خلفاؤه الراشدون، وكيف أدى غياب آليات التنفيذ والتفسير وحل الإشكاليات لما يختلف عليه الناس فى تطبيق هذه المبادئ وتفسيراتها إلى تصاعد خلافات من داخل دولة الخلافة الراشدة نفسها، ذلك الخلاف الذى نشأ بين سيدنا على بن أبى طالب رضى الله عنه وطلحة والزبير ولم توجد فى الدولة الناشئة آلية للتفسير وحل المشاكل حتى تصاعد إلى القتال، بل وعجز أغلب المسلمين ممن لم يتربوا على الإسلام مع رسول الله ﷺ ولم يمارسه عن قرب فى مجتمع المدينة المنورة عن فهم خصائص الخلافة الراشدة ومراميها بما جعلهم ينقادون وراء جماعات المصالح التى قادت أحداث الفتنة الكبرى حتى هدمت دولة الخلافة الراشدة نهائياً ليحل محلها فى ديار المسلمين وفى فكرهم نهج الفكر والتأويل لنصوص القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة مناقضين لصحيح فكر وخصائص السنة النبوية الشريفة وخلفائها الراشدين فى الحكم والإدارة .
لقد كانت هناك فجوة حضارية حقيقية بين واقع ذلك العصر ( القرن السابع الميلادى بمعطياته الثقافية والعلمية والتقنية) وسنة الرسول الكريم ﷺ وخلفائه الراشدين فى الحكم والإدارة، وكانت هذه الفجوة نفسها هى المحرك والدافع إلى هدم دولة الخلافة الراشدة فى ذلك الوقت، وأدى استمرار هذه الفجوة لقرونٍ بعد ذلك إلى إعطاء الحصانة والقبول والثبات للنظم والأفكار السياسية والإدارية التى نشأت على أنقاض دولة الخلافة الراشدة وخصائصها .
ولكننا فى عصرنا الحديث هذا ، فى القرن الواحد والعشرين ، نجد أن الفجوة الحضارية فى فكر ونظم الحكم والإدارة هى لصالح التوافق والفبول للمعطيات الثقافية والعلمية والتقنية لسنة الرسول الكريم ﷺ وخلفائه الراشدين فى الحكم والإدارة مقارنة بالموروث من الفكر والنظم السياسية ذات النهج المخالف، بينما تمد معطيات هذا العصر دولة الخلافة الراشدة بما يلزمها من علوم وتقنيات وآليات حديثة فى الحكم والإدارة لكى تقيم ما عجزت عنه قبل أحداث الفتنة الكبرى ، إذن دولة الخلافة الراشدة جاهزة لأن تُبعث الآن بفعل هذه الفجوة القائمة فى عصرنا الحالي.
منذ بدأ احتكاك المسلمين بالدول الأوروبية الحديثة فى القرن التاسع عشر وما بعده ونحن نشهد انقسام المسلمين إلى قطاعات، ينكر إحداها صلاحية الشرع الإسلامى فى موضوع الحكم والإدارة وذلك لسوء تجربتهم مع نظم المسلمين الموروثة ويدعون إلى النقل عن النظم الغربية كاملة فى ذلك الموضوع، بينما يتشدد قطاعٌ آخر ويطلب العودة الكاملة لأحد النظم الموروثة عن أى دولة إسلامية سابقة ولا يفرق فى طلبه هذا بين صحيح سنة الرسول الكريم ﷺ وخلفائه الراشدين فى الحكم والإدارة والنظم الموروثة عن المنهجين اللذين طبقا تاريخيا، وتزداد الأمور تعقيداً واختلاطاً عندما لا يفرق بين النسق الفكرى وخصائص النظام ومبادئه من جانب وهى كلها متكاملة، وآلياته ومؤسساته على الجانب الآخر، وعلى الأغلب لا يدرك أن الخلط بين بعض ما فى السنة النبوية الشريفة وخلافتها الراشدة فى الحكم والإدارة مع بعض مبادئ النظم السابقة لن يقود إلى نظام متسق مع نفسه وسيقود مؤسسيه إلى حيث الانزلاق إلى غير صحيح الإطار العام للمعاملات الإسلامية على نحو ما تبين لنا فى مقالنا هذا من معاوية رضى الله عنه مع حجر بن عدى ، وتابعيه مع المحكومين .
والذى يراه مؤلف هذه المقالة هو أن يتم الاستفادة بكل معطيات عصرنا الحديث هذا من علوم وتقنيات تخدم موضوع الحكم والإدارة مفرقين فى ذلك بين موضوع العلوم الإنسانية والاجتماعية وفلسفاتها وهو المخصص لكشف طبائع البشر وطبائع مجتمعاتهم وهذا نستفيد مما فيه من موضوعيةٍ وعلم ، وما هو مخصص لدعم رؤى جماعاتٍ بعينها لخدمة توجهاتها ، وفى ذلك نستطيع أن نبدأ من حيث انتهت دولة الخلافة الراشدة ، وبلغة العصر يتم إحياء هذه الدولة بوضع الإطار القانونى والدستورى الذى يشتمل على كل خصائصها ولا يتم إهدار إحداها وهى الشورى وحرية الرأى ومحاسبة الحكام على كامل السلطة المفوضة إليهم سواءٌ كانت سلطة سياسية أو إدارية أو مالية عامة مع التشدد فى رد المظالم عند ترك المنصب بانتهاء المدة أو الوفاة ، مع وضع النظام المؤسسى والقانونى والآليات المناسبة لصحيح تنفيذ كل ذلك ، وفوقه نظام فعال بفكره الواضح ونظامه وآلياته للتفسير وحل المنازعات سلمياً ومن داخل النظام ، لن يجد المسلمون صعوبة فى إنشاء هذه الدولة لأن خصائص دولة الخلافة الراشدة هى نفسها المبادئ الدستورية للدولة الحديثة فى القرن الواحد والعشرين ، والعلوم والنظم والآليات التى تقوم عليها هذه الدول الحديثة هى نفسها التى تستطيع أن تسعف دولة الخلفاء الراشدين إذا قدر الله لها أن تُبعث فى القرن الواحد والعشرين فما استقر فى الفكر السياسى الحديث بدءًا من عصر التنوير (القرن السابع عشر حتى الثورة الصناعية فى القرن الثامن عشر) وتطور عن سيادة الدولة (القرن السادس عشر، بودان( ) والفصل بين السلطات (القرن الثامن عشر، منتسكيو( )، والعقد الاجتماعى والإرادة العامة ( القرن الثامن عشر ، جان جاك روسو( )، ونظرية المنفعة لجون ستيوارت ميل( )، مما أدى إلى تطور الدساتير الحديثة والنظم السياسية لتشمل المساواة وحرية إبداء الرأى ، إلى آخر ما هو متعارف عليه من حقوقٍ للإنسان الطبيعى الذى خلقه الله حرًّا ولا يناقض طبائعه الشخصية ، وتم تحصين هذه الحقوق فى مواجهة طغيان الدولة أو القائمين عليها بآليات المراجعة والتوازن Checks and balances المستقرة فى الدول الحديثة التى تمارس الديموقراطية وغير ذلك من العلوم والتقنيات الحديثة ، كلها تساند ما تحتاجه دولة الخلفاء الراشدين من علوم وتقنيات لمساندة مبادئ الشورى وحرية الرأى والتعفف عن الاستفادة من السلطة والنفوذ والتربح منهما وأخيراً إجبار الحكام على رد المظالم والقصاص من الظالم منهم ، وهى كلها أمور مطبقة بنجاحٍ فى الدول الحديثة ويتعطش المسلمون لرؤيتها فى دولهم بعد أن فقدوها منذ القضاء على دولة الخلافة الراشدة .
وفى هذا الشأن نستطيع أن نتبين من مصطلحات العصر الحديث أن الديموقراطية تعنى حكم الشعب بالشعب ولصالح الشعب، وهى فى ذلك تضع الأطر السياسية والتنظيمية والآليات لتجعل القائمين على الدولة يديرونها تبعاً للإرادة العامة للشعب (بآليات صناديق الانتخاب على الأغلب) ومن خلال تنظيمات للدولة تكفل لها السيادة على أرضها وشعبها ولكن دون طغيان أو تجاوزٍ لدورها بالفصل بين السلطات وآليات المراجعة والتوازن ، أى أن الديموقراطية تهدف إلى تحديد سلطة رئيس الدولة ليقوم بدور الوكيل عن الأمة لتنفيذ ما تهدف إليه الإرادة العامة للشعب، ولو كان الشعب مسلماً حسن الإسلام لكان هذا الرئيس هو الرئيس الشرعى للدولة الإسلامية، حيث يقرر الشيخ السيد سابق «إن الحاكم فرد من أفراد الأمة ، لا يتميز عن غيره إلا كما يتميز الوصى أو الوكيل ، ويجرى عليه ما يجرى على سائر الأفراد»( ).
أيضاً يجب أن نفرق بين الديموقراطية والليبرالية التى تعنى إعلاء حرية الفرد إلى أقصى الحدود الممكنة حتى لو وصل بها الغلو فى الحرية الشخصية إلى درجة الشذوذ ، تاريخياً نشأت الديموقراطية فى أحضان الفكر الليبرالى ولكن الفرق بين الاثنين كبير، ففى شأن المرجعية عموماً والإسلامية خصوصاً ، نجد أن المرجعية الديموقراطية تقبل أن تكون لدكتاتورية الأغلبية، ولو كانت الأغلبية حسنة الإسلام لكان رد المرجعية إلى الأسس الإسلامية بطبيعة الأمر، أما الليبرالية فلها مرجعيتها الخاصة، وهى عدم وضع أى قيود على الحرية الشخصية للفرد، وهكذا نستطيع أن نقول إن الإسلام يتفق مع الديموقراطية فكراً وفلسفة وتقنية ويستفيد من كثيرٍ من تجاربها حيث يتفق الإسلام والديموقراطية فى وجوب الشورى بمعنى حق المواطن فى حرية إبداء الرأى والمشاركة السياسية ومحاسبة الحكام ، ولكنه لا يتفق مع الليبرالية فى كل شيء بل يتفق بتحفظ، فالإسلام من حيث المبدأ هو دين الفطرة والإنسان حر ومسئول، طالما لم يناقض فطرته، وهذه نقطة تحتاج إلى من يتناولها بالبحث لبيان تفصيلات ما هو صحيح وما هو مغالطة من وجهة نظر حقوق الإنسان ولماذا، ولا نريد أن نذهب بعيداً فى هذا الأمر لأن موضوع بحثنا هو العلاقة بين الحكام والمحكومين .
وهكذا ، بين الإسلام فى القرآن وسنة الرسول الكريم ﷺ وخلفائه الراشدين حدود الحقوق والواجبات بين الحكام وأصحاب السلطة والنفوذ والمحكومين ومن لا يملكون سلطةً ولا نفوذاً ، ولكن الدولة كانت شديدة البدائية بحكم ذلك العصر فاعتمدت العلاقة على ورع الحكام لكى يتعففوا عما تتيحه لهم السلطة والنفوذ، وليأخذوا من المحكومين ما سمح لهم به الشرع الإسلامى فقط ، إتباع السنة عن دولة الخلافة الراشدة يكون فى الالتزام بالحقوق والواجبات الشرعية فى موضوع الحكم والإدارة، وليس فى تنظيم الدولة ولا آلياتها ، وقد سقط نمط العلاقة بين الحكام والمحكومين الذى اتبعه الخلفاءُ الراشدون بعد أن اتسعت الدولة وضعف الورع فى نفوس الحكام والمحكومين .
لن يمر وقت طويل حتى تتنبه الأمة الإسلامية إلى أهمية إحياء سنة الرسول الكريم ﷺ وسنة خلفائه الراشدين فى الحكم والإدارة وإحياء الشورى وحرية الرأى والمساواة، والتعفف عن التكبر بالسلطة والتربح منها، ووضع محاسبة الحكام على السلطة والمال العام موضع التنفيذ، ورد المظالم ، ببناء الأطر القانونية والمؤسسية والآليات السياسية لوضع خصائص العلاقة بين الحكام والمحكومين بما يتفق وهذه المبادئ مستفيدةً من معطيات العصر الحديث فى موضوع الديموقراطية، ومتوافقةً مع ثقافة القرن الواحد والعشرين السياسية ومعطياتها، خاصةً أنها مُطبقة بنجاح منذ قرون وعقود فى الدول الحديثة لحماية الحقوق والواجبات فى الحكم والإدارة .
وتطبيق المجموعة القياسية المتكاملة من المبادئ والخصائص التى تشكل سنة الرسول الكريم ﷺ وسنة خلفائه الراشدين فى الحكم والإدارة مع ما يساندها من الإطار العام للمعاملات الإسلامية دون التطرق إلى كل ما يشمله الشرع الإسلامى من مجموعاتٍ قياسية أخرى مثل مجموعةِ الحدود كمثالٍ يثير الجدل ، هذا التطبيق بهذه الصورة جائز وممكن بدليل تطبيق نظام المواريث الإسلامى كمجموعة قياسية واحدة دون مشاكل التداخل مع غيره من المجموعات الأخرى ، وفى ذلك يستطيع غير المسلمين أن يستفيدوا أيضاً من هذه التجربة إن أراد الله.
إذن هناك فجوة حضارية تدفع الدول الإسلامية للتحديث بالانتقال من النظم الموروثة إلى تطبيق سنة الرسول الكريم ﷺ وسنة خلفائه الراشدين فى الحكم والإدارة ، وهذه السنة فى الحكم والإدارة مستندةً على الإطار العام للمعاملات الإسلامية يكونان معاً مجموعةً قياسيةً واحدةً قابلةً للتطبيق دون انتظار للجدل حول المجموعات القياسية الأخرى مثل إقامة الحدود وخلافه .

5- الخلاصة:

الإسلام لا نعرفه إلا مما عرفنا به الرسول الكريم ﷺ نقلاً عن الله سبحانه وتعالى من القرآن الكريم وبياناً فى سنَّته النبوية الشريفة ، والقرآن والسنة هما وحدهما المرجعية الفاصلة لكل ما يختلف عليه المسلمون ، وموضوع مقالنا هذا هو سنة الرسول الكريم وخلفائه الراشدين فى الحكم والإدارة ، ملامحها وخصائصها ومن أى شيء نبعت وإلى أى شيء تستند ، ثم ظروف سقوطها وأسبابه ، وماذا حل محلها فى بلاد المسلمين ومن أين وكيف ولماذا اكتسب هذا الاستبدال هذه الحصانة والثبات والاستقرار فى بلاد المسلمين، وهل هناك احتمال لبعث نمط سنة الرسول الكريم ﷺ وخلفائه الراشدين فى الحكم والإدارة وكيف ولماذا؟.
الإسلام عقيدة وشريعة هكذا علمنا رسول الله ﷺ ، وقد عاش سيدنا محمد ﷺ بين الناس بعد البعثة من سن الأربعين إلى أن توفاه الله يمارس الحياة بين الناس فرداً منهم وقائداً لجماعتهم، ثم تحول إلى قائدٍ لدولتهم فى مجتمع المدينة، كى يتعلم الناس شريعة العلاقة بين الحكام والمحكومين فى السنة النبوية الشريفة ، وهذا ما استوعبه وأحسن فهمه الخلفاءُ الراشدون فاتبعوه ، وليس هناك اختلافٌ حقيقةً بين معايير وخصائص نظام الخلافة الراشدة والإطار العام للمعاملات الإسلامية ، بل هى التطبيق الخاص للإطار العام للمعاملات الإسلامية فى مجال العلاقة بين الحكام والمحكومين.
فالإطار العام للمعاملات الإسلامية أساساته هى العدل والرحمة والإحسان وتأدية الأمانات ﴿ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾[النحل: 90]، ﴿ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾[النساء: 58]. وبخصوص السلطة والنفوذ فقد حرم الله البغى بغير الحق ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾[الأعراف: 33]، أما بخصوص التعامل فى الأموال والتبادل الاقتصادى فقد حرم الله أكل أموال الناس بالباطل ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾[ النساء: 29] ، وحرم التلاعب فى الكيل والميزان وبخس الناس أشياءهم لأكل حقوقهم فى تبادل السلع الاقتصادية ﴿وَيَا قَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾[ هود: 85]، وحرم الإدلاء بأموال الناس بالباطل للحكام ﴿وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾[ البقرة:188] ، وأوجب أيضا المحاسبة بين الناس على الأموال حفاظاً على حقوق العباد ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ وَلاَ تَسْأَمُوْاْ أَن تَكْتُبُوْهُ صَغِيرًا أَو كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللّهِ وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوْاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾[البقرة: 282].
أما آداب التقاضى وواجباته فهى القسط فى الشهادة ﴿ وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾[الأنعام: 152]، ﴿ يَا أَيُّهَآ الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾[ المائدة:8]، وعدم كتمانها، وتحريم قول الزور ﴿ وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾[البقرة: 283]، ﴿ ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأَنْعَامُ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ﴾[ الحج: 30]، ﴿ وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا﴾[ الفرقان: 72]، وفى القصاص عاقبوا بمثل ما عوقبتم به ﴿ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ﴾[ النحل: 126].
وهكذا وضع الله حدوداً للتعامل لا يتعداها أحدٌ مسلماً أو غير مسلم ، مثل جرائم القتل أو السرقة أو الزنا والاعتداء على الأنساب دون إقامة الحدود التى أوضحها الله سبحانه وتعالى فى شرعه الحنيف ، فضلاً عما هو محرم مما يندرج تحت صور البغى والتعدى على الآخرين ، فإذا اختلفوا فإن أساس التقاضى العادل وأركانه يرعاها الله بنفسه فى آيات محكمات، ويتوعد الخارج عليها أشد العذاب ، حيث تقع كل هذه المعاملات على أساس متين من وجوب القسط فى الشهادة وعدم كتمها وتحريم قول الزور ، وتلك أهم أسس إقامة العدل فى جميع المعاملات بين الأفرد وفى ساحات القضاء، بل تكفي وحدها لإقامة مجتمع العدل والاستقامه .
المبادئ العامة للمعاملات الإسلامية كُلٌّ لا يتجزأ ولو أخذنا واحدة منها بصدقٍ لقادتنا لاتباع باقى قواعدها ولو خرقنا إحداها لخرقنا الآخرين ، ولو طبقناها على معايير وخصائص ومؤشرات العلاقة بين الحكام والمحكومين فى السنة النبوية الشريفة نجد أنها هى نفسها التى اتبعها الخلفاء الراشدون فى الحكم والإدارة ، ونجد أن خصائصها وأسسها هى:
العدل: والمساواة والرحمة فعلى الرغم من مكانة الرسول الكريم ﷺ العالية بين أصحابه إلا أنه لم يختص نفسه ولا أسرته بأبهة سلطة ولا ترف مال﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأِّزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً* وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا﴾[الأحزاب: 28، 29].
الشورى: أمر الله سبحانه وتعالى بالشورى كما جاء فى الآيتين الكريمتين ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾[آل عمران: 159] و﴿وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾[الشورى: 38]، وأقل ما يعنيه ذلك هو حرية الرأى.
لتعفف عن التمتع بأبهة السلطة أو اكتساب النفوذ الاجتماعي أو التربح منها كان الرسول الكريم صلى الله عليه و سلم عفيفاً عن السلطة والمال العام وكذلك حرم الله على أزواجه إن كُنّ يردن الله ورسوله والدار الآخرة أن يكن مثله ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأِّزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً* وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا﴾[الأحزاب: 28، 29].
السلطة أمانة لا تُستخدم لغير الغرض التى فُوضت من أجله.
الاعتراف للرعية بحقها فى محاسبة الحاكم ومراجعته على السلطة العامة وعلى المال العام وهذا واضحٌ من خطبتى استهلال الحكم من أبى بكرٍ وعمر رضى الله عنهما بطلب التقويم والنصيحة، وقصة المرأة التى راجعت عمر بن الخطاب رضى الله عنه على مهور النساء، وقصة الرجل الذى حاسب عمر رضى الله عنه على طول حُلّته.
وأخيراً رد المظالم قبل مغادرة مقعد السلطة بالوفاة أو بغير ذلك وهذا واضحٌ من ذكر الخبر عن مرض رسول الله صلى الله عليه و سلم الذى توفى فيه( )، وكذلك فعل خلفاؤه الراشدون وعلى رأسهم أبوبكر وعمر رضى الله عنهما عند الوفاة ومحاسبة كلٍّ منهم لنفسه وسؤالهم عمن جلد له ظهراً أو شتم له عِرضاً أو كان له درهماً فى ذمته .
هذه المعايير والخصائص والمؤشرات لنظام الخلافة الراشدة تصلح هى نفسها لأن تكون المبادئ الدستورية لأى دولة حديثة فى القرن الواحد والعشرين ، مما خلق فجوة حضارية بين دولة الخلافة الراشدة هذه وثقافة ومعايير ذلك العصر الذى نشأت فيه (القرن السابع الميلادى)، مما أدى إلى أحداث الفتنة الكبرى حيث انتهت بالقضاء على دولة الخلافة الراشدة، وقام على أنقاضها نهجان رئيسان فى الحكم والإدارة اكتسبا ثباتاً مع الزمن واستمرَّا فى بلاد المسلمين حتى اليوم ، وهما النهج الذى أنشأه معاوية فى دولته الأموية واتبعه العباسيون وأغلب دول المسلمين حتى اليوم ويُلقب بالسنة، والآخر هو الذى أنشأه ورثة أصحاب علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه حيث تحول هؤلاء الورثة عما كان عليه الأوائل، من مناصرين لدولة الخلافة الراشدة إلى مناصرين لحق أبناء علىّ رضى الله عنه وورثته فى الحكم ويُلقب بالشيعة ، ثم وبعد ذلك جماعاتٍ صغيرة ظهرت مؤقتة وانتهت بلا عمق مثل توابع الزلزال وأهمها جماعة الخوارج .
أما النهج الذى استحدثه معاوية رضى الله عنه ومن تبعه فقد أعلن اتِّباع صحيح السنة فى العقائد والعبادات والشريعة الإسلامية فى كل أمور الدين الإسلامى عدا ما يخص العلاقة بين الحكام والمحكومين ، فقد تم نقض صحيح سنة الرسول الكريم صلى الله عليه و سلم وخلفائه الراشدين فى الحكم والإدارة جزءاً وراء جزء دون إعلان صريح وبتأويلات للنصوص القرآنية والأحاديث والسيرة حتى وجد المسلمون أنفسهم تحت حكم نظامٍ يتميز بمنع الشورى وتوريث الحكم وعدم وجود حدودٍ بين استخدام المال العام والمال الخاص دون تعفف فى ذلك ولا فى استخدام السلطة والتكبر بها والتربح منها وفوق ذلك لا حساب على السلطة ولا على المال العام ولا رد للمظالم. وهكذا وجد المسلمون أنفسهم يُحكمون بنظامٍ ذو خصائص مناقضةٍ لنظام الخلفاء الراشدين ولكنه اكتسب ثباتاً وقوة كنموذج للحكم ويلقبه الناس بأنه نظامٌ سُنى ، وساعد على قبول الناس له واستمراره وثباته أن الفجوة الحضارية بين نظام الخلافة الراشدة وما هو متوفر لدى البشر من علم ونظم سياسية قد استمرت قروناً بعد إنشاء معاوية لنظامه .
وفى هذا الشأن نشير إلى أن خصائص النظام السنى الصحيح كما بين الرسول الكريم صلى الله عليه و سلم وخلفاؤه الراشدون تستند على الإطار العام للمعاملات الإسلامية فى تكاملٍ واحد وأن نقض أحدهما يُؤدى إلى نقض الآخر وهذا ما حدث لنظام الحكم الذى اضطر إلى التصاعد فى إجراءاته لإسكات حُجر بن عدى وإيقافه عن الجهر بمعارضته حتى وجد نفسه منزلقاً إلى قتله على النحو الثابت فى كتب التاريخ ، وكذلك يضطر كل من يتبع هذا النظام بخصائصه فى الحكم والإدارة فى كل زمانٍ ومكان.
وبحثنا هذا ، وحتى لا يلتبس الأمر على المسلمين وغير المسلمين نتيجة استخدام نفس اللقب لنظامين متناقضين فى موضوعاتٍ جوهرية فى الحكم والإدارة، وتؤدى بالضرورة إلى المساس بالإطار العام للمعاملات الإسلامية ، فقد تم نسبة النظام الذى استحدث إلى صاحبه تمييزاً له عن النظام الذى عُرف عن الرسول الكريم صلى الله عليه و سلم وسنته الشريفة واتبعه الخلفاء الراشدون فى الحكم والإدارة ، وتنـزيهاً للرسول الكريم صلى الله عليه و سلم عما ينزلق إليه مُتبعوا ذلك النظام فى الحكم والإدارة .
من بقايا الرجال الأفاضل الذين ناصروا علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه ودافعوا معه عن الخلافة الراشدة ورفضوا أن ينشقوا عليه حتى سقط شهيداً وسقطوا هم فى براثن الدولة الأموية تذيقهم ألواناً من الاضطهاد حتى يُسلموا لها القياد، هؤلاء الرجال الأفاضل كانوا هم السنة الحقيقيون فى ذلك العصر، ولكن بانقضاء زمانهم جاء ورثتهم بالولاء لشخص علىّ رضى الله عنه وورثته، وهكذا تحول الولاء من ولاءٍ لفكرة الخلافة الراشدة إلى ولاءٍ لأشخاص علىّ رضى الله عنه وورثته وهذا اختلافٌ جوهرى عن أصل ما كانوا عليه.
ورثة أتباع عليّ رضى الله عنه هم مؤسسوا وأتباع المذهب الشيعى فى الحكم والإدارة ، وأساس مذهبهم هو أحقية عليّ رضى الله عنه وأهل بيته فى وراثة الخلافة والإمامة عن الرسول الكريم صلى الله عليه و سلم ، يتوارثون الخلافة والإمامة إماماً بعد آخر حتى انقضى نسلهم الذى يعرفونه باختفاء الإمام الثانى عشر فيما يُعرف بالغيبة الكبرى فتحولت الإمامة وتفرقت خارج أهل البيت ليعهدوا بها إلى أناسٍ من غير أهل البيت ، ولا يهمنا من سيرة الشيعة إلا ما يخص الحكم والإدارة ، حيث بدأت ولاية دينية وفقهية وأحياناً قيادةً ثورية غيرةً على أهل البيت وحباً لهم ، ولكنهم بالمقابل ولمواجهة الحكومات الباطشة بهم فرض الأئمة حقوقاً كثيرةً على أوليائهم ، لكى يستطيع الشيعة القيام بأعباء الاستمرار كحزب خارج الدولة ومناوئٍ لها بغير رضائها وأحياناً تحت سيف بطشها وقَبِل أتباع المذهب الشيعى تفويض الأئمة سلطات إدارية ومالية على من تولونهم للإدارة وللقيام بأعباء مسئولياتهم.
وهكذا أدت الفجوة الحضارية إلى سقوط نظام الخلافة الراشدة وفقد المواطن العادى فى الدولة حرية الرأى والشورى ومحاسبة الآخرين على مساهماته العامة من الجهد أو المال إلى آخر ما يتبع ذلك من تبعات سواءٌ لأنه يرزح تحت سلطة الدولة أو لأنه معارضٌ لها وعليه أن يمارس معارضته فى الخفاء ، وما يحصل عليه الحاكم هو وأعوانه من المحكومين مالاً ونفوذاً بغير محاسبة ، كذلك يمكن أن يحصل الأئمة على مثيله من الأتباع ، واستمر هذا الوضع إلى اليوم.
وإذا تذكرنا أن معايير وخصائص ومؤشرات نظام الخلافة الراشدة تصلح هى نفسها لأن تكون المبادئ الدستورية لأى دولة حديثة فى القرن الواحد والعشرين ، وإذا لاحظنا أن تطبيقها يجعل الحاكم يحصل على القليل من وظيفته فى الحكم والسلطة أدركنا أن هناك طريقان لتحجيم ما يحصل عليه الحكام ليتقارب من ذلك المستحق لهم فى دولة الخلافة الراشدة؛ إما بسيادة الورع والتقوى فى سلوك ومعاملات الناس حكاماً وكذلك المحكومين كما فعل الخلفاء الراشدون وألزموا أنفسهم بالحقوق الشرعية للرعية ورد المظالم، وإما بآليات النظم الحديثة فى الانتخاب لأصحاب السلطة ومراقبة أدائهم ومحاسبتهم على السلطة العامة والمال العام والطريق إلى ذلك يكون بتضمين مبادئ وخصائص الخلافة الراشدة نفسها فى المبادئ الدستورية لتحديث الدولة واللحاق بالقرن الواحد والعشرين بهدف المحافظة على حقوق الرعية حيث تمنع تجاوزات الحكام بآليات النظام السياسى فى الانتخابات وفصل السلطات وإقامة نظم المراجعة والتوازن بين القوى داخل المجتمع ، كل ذلك مستندٌ على علوم وثقافة العصر الحديثة.
وهكذا انقلب اتجاه الفجوة الحضارية ، إن ثقافة العصر الآن وتقنياته والمناخ العام يتآزرون لدعم حصول المحكومين على كامل حقوقهم كما شرعها الله فى سنة الرسول الكريم صلى الله عليه و سلم واتبع الخلفاء الراشدون فى الحكم والإدارة ، إن لم يكن ورعاً وتقوى من الحكام فهو تجاوباً مع العصر الحديث وضغوطه فى الداخل والخارج .
وبذلك نلخص النتائج فى أن تدنى الثقافة والعلوم والتقنيات فى القرن السابع الميلادى قد أعاق نمو دولة الخلافة الراشدة وتسبب فى فجوة ثقافية أدت إلى سقوطها فيما يُعرف بأحداث الفتنة الكبرى التى قادتها جماعات المصالح ، واليوم فى القرن الواحد والعشرين تتسبب ثقافة العصر وعلومه وتقنياته فى فجوةٍ ثقافيةٍ معاكسة الاتجاه تشد الأحداث داخل بلاد المسلمين فى اتجاه إزالة أصحاب المصالح من السلطة لتمكن المحكومين من استعادة حقوقهم قريباً مما شرع لهم الله فى السنة النبوية الشريفة وتفتح الطريق لاحتمالات بعث دولة الخلافة الراشدة وسبحان الله إذ يقول ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾[فصلت: 53].

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *