مكون أساس فى الدولة الاسلامية الشرعية الحديثة
الفكرة الرئيسة فى هذه المقالة هى البيان بأن: “الحكم الرشيد و حقوق الانسان مكون أساس فى الدولة الاسلامية الشرعية، و الديموقراطية ضرورة لإلزام الحكام بهذه الفروض”.
و في هذا الموقع يوجد كتاب: “التأسيس لتحديث الفقه الإسلامي و رده إلى أصوله” (التحميل مجانى) و فيه “نظرية علمية متكاملة” عن الموضوع.
دكتور/ بهاء الدين محمود محمد منصور
نبذة مختصرة عن مضمون الموقع الإلكترونى
“كل ما هو قطعى النص قطعى الدلالة من القرآن و السنة النبوية” هو ثابت من ثوابت الاسلام إلى يوم الدين ، و الاجتهاد فى البحوث الفقهية فى “ما ليس فيه نص أو فيه نص متشابه” أساسه البحث فى الأحكام التى تقع داخل “الإطار المُحكم من المبادئ المُلزِمة” الذى يبينه “مجموع كل ماهو قطعى النص قطعى الدلالة من القرآن و السنة النبوية” و ذلك إعمالاً للبيان فى “سورة آل عمران ، الآية 7” من أن “مجموع الآيات المُحكمات ، لا نُسقط منه آية” هو “أم الكتاب” ، و من خرق آيةً من الآيات المُحكمات سقط فى “الزيغ” (سورة آل عمران ، الآية 8) ، و يكون الترجيح بين الحلول و الأحكام المتشابهة على أساس تحقيق “مقاصد التشريع الاسلامى” و أساسها “الكليات الخمس” التى هى: «حفظ النفس (حق الإنسان في الحياة)، والعقل (حق الإنسان في حرية الفكر)، والدين (الحق في حرية الاعتقاد)، والنسل، والمال» ، حيث تمثل “المقاصد الدستورية”([1]) ، و يكون دور “الأحكام السابقة فى التراث” هو للاسترشاد بما فيها باعتبارها “سوابق قضائية”، وبذلك ينفتح الباب للتشريع في “مستجدات الحياة المعاصرة” بحلول أصولية تستند على “الإطار الذى يبينه مجموع الآيات المٌحكمات (أم الكتاب)” و “المقاصد الكلية” التى لا يختلف عليها أحد.
بناءً على “مرجعية الالتزام بالإطار” الذى يبينه “مجموع الآيات المُحكمات اللاتى هن أم الكتاب” يتم إثبات عدم شرعية “فقه الحكم لمن غلب” الذى هو الأساس لشرعية “الملك العضود” و “الانقلابات العسكرية” و النتيجة هى: “عدم شرعية ممارسة العنف فى السياسية”.
“مجموع الآيات المُحكمات اللاتى هن (أم الكتاب)” يشمل كل “حقوق الانسان الأساسية” و فى القلب منها “الحق فى حرية التعبير العلنى” و أساسه “آيات الشورى” (المُلزِمة) ، و أن الخلفاء الراشدين قد التزموا بهذه الحقوق الأساسية بل و “الخضوع للقانون العام فى الدولة و رد المظالم طواعيةً” ؛ و نتيجةً لهذا الالتزام الذاتى الذى اتبعه الخلفاء الراشدون كان النظام السياسى فى دولة الخلافة الراشدة فى صدر الاسلام شديد البساطة ، و لكن “الحكام غير الراشدين من عامة البشر” الذى تولوا السلطة بعد أحداث “الفتنة الكبرى” عام 40 هجرية لا يقبلون الخضوع للقانون و لا يطيقون النقد و حرية التعبير ، و بالتالى لرد هذه المظالم لابد من الأخذ بنظام “الفصل بين السلطات” (حتى لا ينفرد الحاكم وحده بكل السلطات ، و يمكن عمل توازن و مراجعة بين هذه السلطات المنفصلة) و كتابة قانون (دستورى) ينظِّم حقوق و واجبات الجالس على مقعد الحكم عند ممارسته للسلطة و يٌلزِمه بحقوق الانسان الأساسية (و هذا هو عصب النظام الديموقراطى).
“الشورى”([2]) هى أحد ثوابت “أم الكتاب” و حتى لو كانت غير مُلزِمة فهى على الأقل تعنى “الحق فى حرية التعبير” ، و “مبدأ الحق فى حرية التعبير” هو الركن الأساس فى الديموقراطية و كذلك هو وحده كفيلٌ بالاصلاح السياسى و “خضوع رئيس الدولة للمساءلة الأدبية العلنية” مما يُؤدى فى النهاية إلى “دولة القانون” التى هى الركن الأساس فى “دولة الحكم الرشيد” و هما “الغاية النهائية” من “كتابة الدستور و تنظيم الدولة على آساس الديموقراطية و الفصل بين السلطات”([3]).
مقدمة فى تحديث الفقه الاسلامى و رده إلى أصوله فى القرآن و السنة:
“القرآن الكريم” هو رسالة الله الخاتمة ، و قد تعهد الله بحفظ نصها إلى يوم القيامة([4])، موضوعات الرسالة الإلهية الرئيسة هى فى “العقيدة (الغيب الذى لا يمكن الوصول إلى أحكامٍ قطعيةٍ فيه بالعلم المأخوذ عن الحواس الخمس) ، و الشريعة (قواعد تنظيم السلوك المجتمعى) ، و العبادات (كيفية التواصل مع الله سبحانه و تعالى)” ، “السنة النبوية المشرَّفة” هى ما تم نقله عن الرسول الكريم من أقوالٍ و أفعال تتصل بما جاء ذِكره فى “القرآن الكريم” حيث تقوم السنة بدورها المكمل لما جاء فى القرآن الكريم فى “تفصيل مُجمله وتقييد مُطلقه وتخصيص عامه”.
“القرآن و السنة النبوية المشرَّفة” وحىٌ من الله سبحانه و تعالى إلى رسوله الكريم([5]) ، و بالتالى لا يجوز التدخل فى محتواهما ، “الفقه” هو ما فهمه البشر من “القرآن و السنة” و “علم أصول الفقه” هو “علم مناهج استنباط الفقه من القرآن و السنة النبوية” ، و على ذلك فإن “الفقه” و “علم أصول الفقه” من أعمال البشر و لابد من تحديثهما للاستفادة من المستجدات فى مناهج البحث و العلوم([6]).
“التراث” هو كل ما وصلنا من أعمال و أقوال من سبقنا من المسلمين و هو يشمل “الفقه” و “علم أصول الفقه” ، و لا يمكن أن يشمل “القرآن و السنة” لأنهما خطابٌ مباشر من الله سبحانه و تعالى بغير وساطةٍ من أحد إلى كل إنسان فى كل زمان و مكان منذ نزول الوحى إلى يوم الدين([7]).
ما نتداوله اليوم فى القرن الواحد و العشرين من “الفقه” و “علم أصول الفقه” هو “الفقه المنقول” عن ما تم كتابته فى القرنين الأول و الثانى الهجريين ثم ما أضافه العلماء حتى نهاية عصر الاجتهاد بنهاية القرن الخامس عشر الميلادى، و أساس أحكامِه المذاهب الأربعة (الشافعية والحنفية والمالكية والحنابلة) و ما أضيف إليه فى “عصر الاجتهاد” من “تعليل الأحكام و استخلاص قواعد الاستنباط من فروع المذهب و الترجيح بين الأقوال المنقولة عن الأئمة و التنظيم و التبويب”([8]) ، منهج التعامل فى ما يُستجد من المسائل الفقهية لا يخرج عن المناهج التى عرفها المسلمون حتى القرن الخامس عشر الميلادى (نهاية عصر الاجتهاد) ، حيث يبدأ المنهج بالبحث عن “نص قطعى الثبوت قطعى الدلالة من القرآن أو السنة النبوية المشرَّفة” ، إن وُجِد فلا اجتهاد مع حكم هذا النص و وجب تطبيقه ، و إذا كانت “الحالة لا يوجد فى شأنها نص أصلاً أو نجد نصاًّ متشابهاً” إذن وجب الاجتهاد([9]) ، و منهج الاجتهاد فى “الفقه المنقول” لا يخرج عن تحليل و دراسة ما تم استنباطه من الأحكام و التشريعات للمسائل الفقهية فى تلك الفترة التى انتهت بنهاية القرن الخامس عشر الميلادى”([10]) ، ثم البحث عن “الأشباه و الأمثال” فى ما سبق الحكم فى شأنه فى “التراث المنقول عن السلف الصالح” ، و فى ذلك ينحصر الاجتهاد فى “إثبات التشابه و التماثل بين الواقعة المعاصرة التى نبحث فى شأنها و تلك التى استقر عليها الحكم فى التراث” ، و إذا وجدنا بعض الاختلافات فى الرأى فإن هناك معايير للترجيح و التفضيل بين الأحكام سواءٌ فى تأويل الوقائع السابقة و المعاصرة و من بعد ذلك درجات الحكم فى التراث مثل الاجماع و درجات الصحابة و التابعين و الفقهاء الذين أصدروا الحكم.([11])
منهج الاجتهاد بإثبات التشابه و التماثل مع أحكام “الفقه المنقول” لا يمكن أن يكون ناجحاً إلا فى “العقائد و العبادات” و “مسائل الأحوال الشخصية و المواريث” حيث “أكثر أحكام هذا النوع تعبدى ولا مجال للعقل فيه ولا يتطوِّر بتطوُّر البيئات”([12]) ، و لكن القياس و التقليد فى “المسائل الفقهية المعاصرة فى موضوعات المعاملات و الأحكام المدنية والجنائية والدستورية والدولية والاقتصادية” بعد أن اختلفت البيئات والمصالح ، بل تغير الإدراك العلمى للظاهرة الاجتماعية بجوانبها الاقتصادية و السياسية و التشريعية عما كان عليه الحال حتى نهاية “عصر الاجتهاد الفقهى” مما أدى إلى مواجهة الكثير من الصعوبات فى التأويل و إثبات صحة القياس، و هذا أساس المشكلة التى اشتهرت تحت إسم “التراث و المعاصرة” ، و هذا ما أدى إلى المشاكل الفقهية المعاصرة حيث لا يجد المسلمون أحكاماً يطمئنون إلى صحتها فى “كثيرٍ من المعاملات المعاصرة” خاصةً فى مجالات “السياسة و الاقتصاد و الاجتماع”.
يعيب كل “الفقه المنقول عن المذاهب الأربعة” و ما انبثق عنه من اجتهادات أن “يغيب عنهم جميعاً وجود إطار من المبادئ المرجعية تفصل بين كل ما هو حلال و كل ما هو حرام” ، و على ذلك كان من المنطقى أن لا يوجد سبيل لتقليل احتمالات الخطأ فى الاجتهاد فى “ما ليس فيه نصٌّ قطعى ، أو فيه نصٌّ متشابه” إلا محاولة الاقتراب من مرجعية السابقين من فتاوى و أحكام و القياس عليها ، و هكذا فإن “علم أصول الفقه المنقول إلينا من التراث” هو “السند الأساس لكل المذاهب السلفية المعاصرة”.
“السلفية” القائمة على “التقليد و الاتباع لفقه المذاهب” و ما “تفرع عنه من شروح و تفصيل و إعادة تبويب” ليست هى المنهج الأصولى لأن “الأصولية الحقيقية” هى فى الاتباع الدقيق للمنهج الذى بيَّنه “القرآن الكريم” للبحث فى آياته ، فى “سورة آل عمران ، الآية 7”([13]) ، و هى نفسها “آيةٌ مُحكمة” أى “قطعية النص قطعية الدلالة” يبين الله سبحانه و تعالى فى نصها أن “آيات القرآن الكريم” تنقسم إلى “آيات محكمات و أُخر متشابهات” و أن “مجموع الآيات المُحكمات” هو “أم الكتاب” و يجب التعامل معه باعتباره كتلة واحدة لا تتجزأ “تمنع القلوب من الزيغ عند التعامل مع المسائل الفقهية المتشابهة” (سورة آل عمران ، الآية 8).([14])
بناءً على هذا المفهوم عن وجود “أم الكتاب” و دوره الأساس تم كتابة المقالة: “التأسيس لدستورية القرآن الكريم” ، و قد تم نشرها فى “مجلةٍ علميةٍ مُحكَّمة”([15]) ، فى هذه المقالة تم الإثبات بأن “كل ما هو قطعى النص قطعى الدلالة من السنة النبوية المُشرَّفة” يلحق بأم الكتاب لسببين: الأول هو أن السنة النبوية وحىٌ من الله سبحانه و تعالى إلى الرسول الكريم([16])، و الثانى لأن للسنة دورها المكمِّل لما جاء فى القرآن الكريم فى “تفصيل مُجمله وتقييد مُطلقه وتخصيص عامه” ، و على ذلك تم الإثبات بأن: “مجموع كل ما هو قطعى النص قطعى الدلالة من القرآن و السنة النبوية المشرَّفة” يبين “إطاراً مُحكماً من المبادئ الدستورية” يقع “بداخله كل ما هو شرعى و يقع بخارجه كل ما هو غير شرعى” ، و على ذلك فإن “مجموع الآيات المُحكمات اللاتى هن أم الكتاب” يضبط استنباط الفقه فى “كل ما فيه نص متشابه و كذلك ما ليس فى شأنه نص”.
“مجموع كل ما هو قطعى النص قطعى الدلالة من القرآن و السنة” يبين “إطاراً مُحكماً من المبادئ الدستورية” التى هى “أم الكتاب” حيث يقع “بداخله كل ما هو شرعى و يقع بخارجه كل ما هو غير شرعى” فى كل موضوعات الفقه و فروعه من “العقيدة و الشريعة و العبادات” ، و من داخله يوجد “الإطار العام للمعاملات الاسلامية”([17]) الذى يضبط السلوك الفردى و المجتمعى و التشريعات التى تصدرها الدولة لتنظيم السلوك الاجتماعى لكل درجات القانون بدايةً من القانون الدستورى الذى يهيمن على القوانين فى الدولة نزولا حتى اللوائح و الأوامر الإدارية.
لا يوجد فى “فقه المذاهب الأربعة” (الشافعية والحنفية والمالكية والحنابلة) و لا فى “فقه التراث” أى بحث عن “أم الكتاب” أو عن “مجموع الآيات المُحكمات” للنظر فى شأنه ، و آخر ما وصل إليه “الفقهاء المقلدون” هو البحث الذى تقدَّم به الدكتور محمد عبد الله دراز إلى جامعة السوربون عام 1949 لنيل درجة الدكتوراة تحت عنوان “دستور الأخلاق في القرآن”([18]) حيث كان القصد من هذا البحث هو “بيان مجموعات آيات القرآن التى تبين أحكاماً في حُسن الأخلاق” ، ولم يبين هذا البحث أن هناك إطاراً يحيط بكل هذه المجموعات وبالتالى فإن مفهوم “بيان أو صناعة الإطار الجامع المانع الفاصل بين الشرعى وغير الشرعى” كما هو في “وثائق الدساتير الحديثة” لم يكن ضمن مقاصد هذا البحث ولا من أولوياته أو بياناته أو مُخرجاته ، و نأخذ عليه أيضاً أن اتباع “المبادئ الأخلاقية” وحسن الخلق هو فضل واختيار للمحسنين أما “مبادئ التشريع الدستورى” فهى تقنين مُلزِم للدولة وللقائمين على “سلطة الحكم والتشريع” ، و هذ استوجب علينا كتابة المقالة العلمية المُحكَّمة: “الآيات الدستورية المُلزِمة فى القرآن الكريم”([19]) ، فى هذه المقالة يتم الإثبات بأن: “نص القرآن الكريم” يبين مستويين للتشريع هما:
المستوى القانونى: و فيه تحتوى النصوص على “خصائص القاعدة القانونية الثلاثة”: “أنها قاعدة عامة، تنظِّم السلوك الاجتماعى ، أنها قاعدة مُلزِمة حيث يتم النص على جزاء مادى يتم توقيعة على المخالفين”، و “آيات الحدود” مثالٌ مكتمل الأركان لنصوص التشريع على “المستوى القانونى” حيث توجد فى كل “آية” منه “الخصائص الثلاثة”.
المستوى الدستورى: و فيه تحتوى النصوص على “إثنين فقط” من “خصائص القاعدة القانونية” و هما: “أنها قاعدة عامة، تنظِّم السلوك الاجتماعى” ، بينما “لا يوجد فى النص أى جزاء مادى على المخالفين” و على هذه الشاكلة يتم صياغة نصوص “المبادئ الدستورية” فى التشريعات الحديثة، لم يفطن “الفقهاء القدامى و المقلدون إلى أن “الآيات المُحكمات المماثلة فى الصياغة لهذا النمط من قواعد تنظيم السلوك الاجتماعى” هى “مواد تشريع دستورى” و اعتبروها “مبادئ أخلاقية” و ذلك لخلوها من النص المباشر على الجزاء المادى، و هذا أمر مقبول منهم لأن أول دستور مكتوب فى تاريخ البشرية هو الدستور الأمريكى (عام 1776م) بينما عصر الاجتهاد الفقهى قد انتهى قبل ذلك بقرنين (بنهاية القرن الخامس عشر الميلادى) ، و كما هو فى “التشريع الدستورى القانونى” يتم استبدال العقوبة المباشرة التى فى “قواعد المستوى القانونى” بشكلٍ آخر و هو أن تقوم “الرقابة الدستورية المختصة” بتوقيع “عقوبة الإلغاء أو الإيقاف” على “النص المخالف من القوانين أو القرارات الرئاسية” ، كذلك فى “الفقه الاسلامى” فإن الخروج عن الإطار المبيَّن فى “أم الكتاب” يستوجب “الاستبعاد من صحيح الفقه (عقيدة و شريعة و عبادات)” لأن “هذا هو الزيغ” ، و لكى تتمكن الرقابة الدستورية من القيام بدورها فإنه يجب التعامل مع “إجمالى مجموع مبادئ القانون الدستورى باعتبارها كتله واحدة” على أن يبين هذا المجموع “إطاراً دستورياً مُحكماً” يؤدى إلى “تعريفٍ جامعٍ مانعٍ” يفصل بين كل ما هو “شرعى و قانونى” و ما هو “مخالف” بحيث يؤدى “الإخلال بمادة واحدة منه أو إسقاطها” إلى إفـقاد باقى “القواعد التنظيمية” المعنى و القيمة العملية و بذلك تكون هذه المخالفة الدستورية مؤثرة و يمكن رصدها ، و هذا ما تنص علية “الآية 7 من سورة آل عمران” بخصوص “مجموع الآيات المُحكمات لا تسقط منه آيةٌ واحد” فهو “أم الكتاب” حيث يبين “إطاراً من المبادئ العامة” ، و من خرق “آيةً مُحكمةً” سقط فى الزيغ.
و الخلاصة من ما سبق هى أن كل آيةٍ من “الآيات المُحكمات” تقوم “بذاتها منفردةً” ببيان “أحد الثوابت الاسلامية” ، و لكن “سورة آل عمران ، الآية 7” التى هى نفسها “آيةٌ مُحكمة” تبين أن “مجموع الآيات المُحكمات” له دلالته الخاصة بالاضافة إلى الدلالة التى تبينها كل “آيةٍ مُحكمةٍ منفردة” حيث يقوم “مجموع الآيات المُحكمات” بدور “أم الكتاب” الذى يقدِّم “إطاراً مرجعياً مُحكماً من المبادئ المُلزِمة لتفسير الآيات المتشابهات” يضبط كل ما هو فى “العقيدة و الشريعة و العبادات” سواء يوجد فى حكمها “نص قطعى أو لا يوجد” ، و كذلك يبين “إطاراً دستورياً قانونياً لضبط التشريع القانونى المُلزِم” فى “مجالات الاجتهاد” التى هى: “ما لا نص فيه أصلاً ، و ما فيه نصٌّ غير قطعى”.([20])
و المنهج الذى نستنبطه بناءً على ما تبينه الفقرة السابقة هو أن: “كل ما هو قطعى النص قطعى الدلالة من القرآن و السنة النبوية” هو ثابت من ثوابت الاسلام إلى يوم الدين ، و الاجتهاد فى البحوث الفقهية فى “ما ليس فيه نص أو فيه نص متشابه” أساسه البحث فى الأحكام التى تقع داخل “الإطار المُحكم من المبادئ المُلزِمة” الذى يبينه “مجموع كل ما هو قطعى النص قطعى الدلالة من القرآن و السنة النبوية” و يكون الترجيح بين الحلول و الأحكام المتشابهة على أساس تحقيق “مقاصد التشريع الاسلامى” و أساسها “الكليات الخمس” التى هى: «حفظ النفس (حق الإنسان في الحياة)، والعقل (حق الإنسان في حرية الفكر)، والدين (الحق في حرية الاعتقاد)، والنسل، والمال» ، حيث تمثل “المقاصد الدستورية”([21]) ، و يكون دور “الأحكام السابقة فى التراث” هو للاسترشاد بما فيها باعتبارها “سوابق قضائية”، وبذلك ينفتح الباب للتشريع في “مستجدات الحياة المعاصرة” بحلول أصولية تستند على “الإطار الذى يبينه مجموع الآيات المٌحكمات (أم الكتاب)” و “المقاصد الكلية” التى لا يختلف عليها أحد.
و بإثبات أصولية عدم الخروج على “الإطار الذى يبينه مجموع الآيات المُحكمات” اللاتى هن “أم الكتاب” يُصبح من الواجب علينا مراجعة “فقه التراث” لإعادة تقويم “كل الموضوعات التى ليس فى شأنها نصٌّ قطعى أو فى شأنها نصوص متشابهات” لأن هذا الفقه ينقله إلينا “فقهاء التقليد و التمذهب الفكرى” دون أى إدراك لأهمية “الدور القطعى لمجموع الآيات المُحكمات” اللاتى هن “أم الكتاب” ، و بينما تكون غاية الأصولية لدى “الفقهاء المقلدين” هو الالتزام بما فى “فقه المذاهب التراثية” ، فإنه بالمقابل يكون منهج الالتزام بالإطار الذى يبينه “أم الكتاب” يجعل الأصولية أساسها عدم خرق أى ثابت من ثوابت “القرآن و السنة النبوية المشرَّفة” بينما يتراجع دور “المذاهب التراثية” ليكون هو “سوابق الأعمال العلمية و القضائية” ، و على ذلك يصبح من الواجب مراجعة كل نظريات “الفقه السياسى الاسلامى” حيث لا يتسق مع “أم الكتاب” إلا “سنة الرسول الكريم و خلفائه الراشدين فى الحكم و الادارة”([22]) ، و هذا يعيد “الفقه السياسى الاسلامى” لما كان عليه الحال قبل أن يتفرَّق المسلمون بين “الشيعة و السنة و غيرهم من الفرق” ، أما الممارسات التى أنتجتها “أحداث الفتنة الكبرى” عام 40 هجرية و ما بعدها إلى يومنا هذا فإنها كلها لا تخلو من الشوائب بدرجاتٍ متفاوتة ، و نخص بالذِّكر “نظرية الإمام المتغلب” التى تكاد أن تكون “الأساس لنظرية الأمير المتغلب” لمكيافيلى”conquering-prince”([23]) ، و التى يمكن إثبات خروجها عن “الشرعية الاسلامية” لخرقها “الإطار العام للمعاملات الاسلامية” الذى يبينه “مجموع الآيات المُحكمات اللاتى هن أم الكتاب”([24]) ، هذه النظرية هى السند لكل “صور الفساد و الاستبداد السياسى” الناتج عن “الاستيلاء على الحكم بالقوة” ، فهى أساس “المُلك العضود” و “الانقلابات العسكرية” و “كل صور الاستبداد السياسى” ، بل هى “السند لكل من يحاول تغيير الحكم فى الدولة بالقوة” سواء كان من “جماعات المصالح” الساعية إلى اختطاف السلطة و الثروة أو من “جماعات المعارضين الذين يطالبون بالإصلاح السياسى” و “لا يعرفون متى يجب إيقاف القتال ضد الفئة الباغية”.
“الآيات الدستورية المُلزِمة” كلها آيات مُحكمات تحتوى على “القواعد الآمرة” باحترام “حقوق الانسان الأساسية” و هى فى ذلك تخاطب “الحكام” و “القائمين على السلطات العامة فى الدولة” ، هذه “الآيات الدستورية” هى من “أصول الدين” لأنها “آيات محكمات” ، أما النظام السياسى فإنه من الفروع التى تتغير مع الزمان و المكان ، و على ذلك يكون مجال “الإسلام السياسي” هو البحث فى المبادئ التشريعية المنظِّمة للعلاقة بين الحكام و المحكومين و عليها يتم استنباط شكل النظام السياسى الذى يحقق هذه المبادئ ، قامت “الخلافة الراشدة فى صدر الاسلام” على أساس ” وجود قانون في الدولة يتم تطبيقه على الكافة بما فيهم الحاكم” ، و استند التطبيق على توفر “الورع” لدى الخلفاء الراشدين (بحيث ألزموا أنفسهم طواعيةً بكل ثوابت الشريعة الاسلامية بالمستوى الدستورى و القانونى) ثم جاء من بعدهم “حكام للدول الاسلامية من عامة البشر” ممن يفتقدون “الوازع الدينى” حيث وضعوا أنفسهم فوق القانون([25]) الذى يتم تطبيقه على العامة حتى يتمكنوا من “التمتع بالسلطة و المال العام” دون محاسبة و لا مساءلة ، و بالتالى أصبح من الضرورى البحث عن “نظام سياسى” يفرض على الحكام فى الدولة الاسلامية الامتثال لأحكام القانون ، و هذا لا يمكن أن يتوفر إلا فى “الدولة الدستورية”([26]) كما عرفتها البشرية فى العصر الحديث ، إنها الدولة التى فيها: “دستور مكتوب” يحتوى على “حقوق الانسان الأساسية” ، و ينص على “نظام سياسى يفصل بين سلطات الدولة الرئيسة” التى هى “التنفيذية ، و التشريعية ، و القضائية” و “يمنع اجتماعها فى يد رئيس الدولة” و ينظم العلاقة بين هذه السلطات الثلاث و يصنع الاتزان بينها بحيث تقوم بدور “المراجعة و التوازن المتبادل” (checks and balances) وبذلك يمكن إخضاع رئيس الدولة للمساءلة القانونية و عزله إذا لم يلتزم بمصالح الدولة و ثوابتها و الخضوع للقانون (الذى لا يخرج عن ثوابت “أم الكتاب”).
لقد علِمَ “الخلفاءُ الراشدون” أن “الالتزام بكل الآيات المُحكمات اللاتى هن أم الكتاب” و منها “خضوع الحكام للمساءلة القانونية و رد المظالم” هو من “الفروض الإسلامية”([27]) ، و لكن جاءت “أحداث الفتنة الكبرى عام 40 هجرية” بحكام “المُلك العضود” الذين “يضعون أنفسهم فوق المساءلة القانونية و يعتدون على المال العام و يبطشون بمن يُطالب بمحاسبتهم و يورثون الحكم لأبنائهم” و هؤلاء هم “الحكام من عامة البشر” الذين لا يتورَّعون عن ارتكاب الكبائر للاحتفاظ بسلطاتهم المخالفة ، لمثل هؤلاء “الحكام الذين هم من عامة البشر” نستدعى: “الفصل بين السلطات و آليات الديموقراطية” و هما “الأدوات الضرورية التى لا تعرف البشرية غيرها” لكى ندفعهم إلى “الإلتزام بقواعد الحكم الرشيد و حقوق الانسان و أن يقبلوا الخضوع للقانون العام فى الدولة كما يخضع أى مواطن” و ذلك لتحقيق “الالتزام بكل الآيات المُحكمات اللاتى هن أم الكتاب” ، وبذلك تصبح الديموقراطية ضرورة شرعية على مبدأ “ما لا يكتمل الواجب إلا به فهو واجب”.
ملحوظات فى شأن المقالات المنشورة بهذا الموقع:
- المقالتين الرئيستين فى هذا الموقع الإلكترونى هما:
“التأسيس لدستورية القرآن الكريم” ، و “الآيات الدستورية المُلزِمة فى القرآن الكريم”
- باقى المقالات كلٌ منها يغطى جانباً من الموضوع
#) p.o. Box 109 Helwan, Zip code 11421 Cairo, Egypt,
e-mail : bmansour2003@yahoo.com.
المراجع بترتيب الظهور فى هذه الصفحة
[1] “الآيات الدستورية المُلزِمة فى القرآن الكريم” ، دكتور/ بهاء الدين محمود محمد منصور ، مجلة الشيخ صالح للاقتصاد الاسلامى ، جامعة الأزهر ، القاهرة ، السنة الحادية و العشرون – العدد الثانى و الستون ، 1438 هجرية – 2017 ميلادية.
[2] (سورة آل عمران ، آية 159) ، (سورة الشورى ، آية 38)
[3] د.يحيى الجمل «لماذا توضع الدساتير؟»، جريدة المصرى اليوم القاهرية، عدد 1030، القاهرة، 9 أبريل 2007، ص 13.
[4] {إِنّا نَحْنُ نَزّلْنَا الذّكْرَ وَإِنّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (سورة الحجر ، آية 9).
[5] (سورة الكهف ، آية 1) ، (سورة البقرة ، آية 79) ، (سورة الحجر ، آية 9) ، (سورة البقرة ، آية 85) ، (سورة النجم ، آية 1- 5) ، حيث تقوم السنة بدورها المكمل لما جاء فى القرآن الكريم فى “تفصيل مُجمله وتقييد مُطلقه وتخصيص عامه”.
[6] {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الاَفَاقِ وَفِيَ أَنفُسِهِمْ حَتّىَ يَتَبَيّنَ لَهُمْ أَنّهُ الْحَقّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبّكَ أَنّهُ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}(سورة فصلت، آية 53)
[7] ) {وَلَقَدْ يَسّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذّكْرِ فَهَلْ مِن مّدّكِرٍ}(سورة القمر ، آية 17)
[8] «المدخل إلى دراسة المذاهب الفقهية»، فضيلة الأستاذ الدكتور على جمعة، دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة، القاهرة، 1428 هجرية – 2007 م، (ص 349 ، 356).
[9] «علم أصول الفقه، وخلاصة التشريع الإسلامى» للشيخ عبد الوهاب خلاف، دار الفكر العربى، القاهرة، 1416 هجرية – 1995 م ، ( ص 202 ، 203).
[10] «علم أصول الفقه، وخلاصة التشريع الإسلامى» للشيخ عبد الوهاب خلاف، دار الفكر العربى، القاهرة، 1416 هجرية – 1995 م ص 243.
[11] «أصول التشريع الإسلامى»، الشيخ على حسب الله، دار المعارف، القاهرة، 1985.
[12] “علم أصول الفقه، وخلاصة التشريع الإسلامى” للشيخ عبد الوهاب خلاف، دار الفكر العربى، القاهرة، 1416 هجرية – 1995 م (ص 35).
[13] {هُوَ الّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مّحْكَمَاتٌ هُنّ أُمّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمّا الّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاّ اللّهُ وَالرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ كُلّ مّنْ عِندِ رَبّنَا وَمَا يَذّكّرُ إِلاّ أُوْلُواْ الألْبَابِ}(7) {رَبّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لّدُنْكَ رَحْمَةً إِنّكَ أَنْتَ الْوَهّابُ}(8) (سورة آل عمران ، آية 7 – 8)
[14] انظر: “تفسير الشيخ الشعراوى للقرآن”، سورة آل عمران (الصفحة 1277)،
http://www.elsharawy.com/books.aspx?mstart=1003007&mend=1003013
[15] “التأسيس لدستورية القرآن الكريم“، د. بهاء الدين محمود منصور، مجلة مركز صالح كامل للاقتصاد الإسلامى، جامعة الأزهر، السنة الحادية عشرة – العدد الثالث والثلاثون، 1428 هجرية – 2007 م.
[16] (سورة النجم ، آية 1- 5)
[17] انظر المقالات (و كلها مقالات علمية محكمة) في الموقع: http://democracyinislam.com
[18] “دستور الأخلاق في القرآن”، دكتور محمد بن عبد الله دراز، الناشر: مؤسسة الرسالة، القاهرة، 1418هـ / 1998م (الطبعة: العاشرة)
http://shamela.ws/index.php/book/8665
[19] “الآيات الدستورية المُلزِمة فى القرآن الكريم”، التى تم نشرها مجلة الشيخ صالح للاقتصاد الاسلامى – جامعة الأزهر ، العدد الثانى و الستون ، 1438 هجرية – 2017 ميلادية ، انظر الموقع:
[20] “علم أصول الفقه ، و خلاصة التشريع الإسلامى” للشيخ عبد الوهاب خلاف ، دار الفكر العربى ، القاهرة ، 1416 هجرية – 1995 م ص 203.
[21] “الآيات الدستورية المُلزِمة فى القرآن الكريم” ، دكتور/ بهاء الدين محمود محمد منصور ، مجلة الشيخ صالح للاقتصاد الاسلامى ، جامعة الأزهر ، القاهرة ، السنة الحادية و العشرون – العدد الثانى و الستون ، 1438 هجرية – 2017 ميلادية.
[22] “سنة الرسول الكريم و خلفائه الراشدين فى الحكم و الإدارة ، بيان لعناصر الحداثة” ، د. بهاء الدين محمود منصور ، مجلة مركز صالح كامل للاقتصاد الإسلامى ، مركز صالح كامل للاقتصاد الإسلامى ، جامعة الأزهر ، السنة السابعة – العدد الثانى و العشرون ،1425 هجرية – 2004.
[23] «Political thought from Plato to the present», M. Judd Harmon, McGraw-Hill, Inc. New York, 1994, Machiavelli p. (152 – 173), (conquering-prince) p 160
[24] “سنة الرسول الكريم و خلفائه الراشدين فى الحكم و الإدارة ، بيان لعناصر الحداثة” ، د. بهاء الدين محمود منصور ، مجلة مركز صالح كامل للاقتصاد الإسلامى ، مركز صالح كامل للاقتصاد الإسلامى ، جامعة الأزهر ، السنة السابعة – العدد الثانى و العشرون ،1425 هجرية – 2004.
[25] دكتورة/ حورية توفيق مجاهد، «الفكر السياسى من أفلاطون إلى محمد عبده »، مكتبة الأنجلوالمصرية، القاهرة، الطبعة الثالثة، 1999م ، ص281، 282، 287.
[26] د.يحيى الجمل «لماذا توضع الدساتير؟»، جريدة المصرى اليوم القاهرية، عدد 1030، القاهرة، 9 أبريل 2007، ص 13.
[27] “الآيات الدستورية المُلزِمة فى القرآن الكريم” ، دكتور/ بهاء الدين محمود محمد منصور ، مجلة الشيخ صالح للاقتصاد الاسلامى ، جامعة الأزهر ، القاهرة ، السنة الحادية و العشرون – العدد الثانى و الستون ، 1438 هجرية – 2017 ميلادية.