التأسيس لدستورية القرآن الكريم

فى موضوع التراث والمعاصرة (فى أصول التشريع الإسلامى)

التأسيس لدستورية القرآن الكريم

دكتور/ بهاء الدين محمود محمد منصور

مجلة مركز صالح كامل للاقتصاد الإسلامى ، جامعة الأزهر ، السنة الحادية عشرة – العدد الثالث و الثلاثون ، 1428 هجرية – 2007 م

1– مقدمة
فى بحثنا هذا لا نستطيع أن نتحدث عن صياغة المبادئ الإسلامية فى صورة مبادئ دستورية، فإن لهذه الصياغة مبادئ وفنون، ولكن يسبقها الاتفاق على الثوابت فى العقيدة والشريعة الإسلامية، التى إذا تم الاتفاق عليها أصبحت الاستفادة من التقدم الحديث فى فقه القانون الدستورى ممكنة لنرتقى بأسلوب تناولنا نحن المسلمين لأمور ديننا وأحكامه، وأن نضع لأنفسنا قاعدة صلبة من المبادئ الإسلامية ذات الجذور الممتدة فى أصول التشريع الإسلامى نحكم بها ونسير عليها فى أمور الحياة الحديثة بمستجداتها من المواقف والأمور التى لا نستطيع تجنب ضـرورة التعامـل معـها مـما لا نجد له ما يسعفنا من الأشباه والأمثال على عصر رسول الله ﷺ حتى نقيس عليه، وأهم ما ننوه إليه فى هذا الصدد هو الأمور الفقهية المتصلة بالرقابة الدستورية (رقابة الامتناع أو رقابة الإلغاء) حيث يتم الحكم بعدم الدستورية على أي نص قانونى يخالف أيًّا من نصوص الدستور فكلها مبادئ واجبة على جميع التصرفات القانونية فى الدولة (مبدأ تدرج القوانين وسمو الدساتير) فنهذب كل هذا التشتت والاختلاف، فنفصل ما هو ثابت من الدين الإسلامى بالضرورة، وما هو مكمِّل لمبادئه فيجوز الاختلاف فيه ولكن بما لا يخل بمقاصد التشريع واتزان مُجمله .
هناك أحكام قطعية مبنية على نصوص قطعية الثبوت قطعية الدلالة على سمو القرآن الكريم والثابت من السنة النبوية الشريفة المأخوذة عــن شخــص رسول الله ﷺ دون غيره من البشر باعتباره نبى الله يوحى إليه بالرسالة وبالبيان لأحكامها من لدن الله سبحانه وتعالى ولا وحى لأحدٍ من بعده ولو كان من الصحابة المقربين.

الهدف من هذا البحث هو التوصل إلى ما هو ثابت بالضرورة فى أمور العقيدة والشريعة والعبادات الإسلامية، ثم تطبيق أحدث ما يعلمه البشر من الفقه التشريعى الحديث للحفاظ على تلك الأحكام والمبادئ، حيث يمارس البشر ظروفاً مماثلةً تستوجب منهم الحفاظ على المبادئ الدستورية فى المجال القانونى بالدولة بما يُكمٍل الاتساق فى الصياغات والتصرفات القانونية فى الدولة الحديثة مع أحكام ومبادئ الدستور، وقد نجح البشر فى العصر الحديث فى التوصل إلى حلٍّ، وذلك من خلال فقه القانون الدستورى الحديث، وكذلك الأمر فيما يخص الأمور الإسلامية، نحن المسلمون نحتاج إلى ممارسة مثل هذا النجاح، وفى هذا الأمر نبين أن هناك ثوابت فى الدين الإسلامى لا يجوز الاختلاف عليها، وتلك هى التى نحتاج إلى أن نتعرف عليها حتى يمكن البناء عليها فى الأمور التى جاءت الرسالة السماوية لتعريف البشر بأمورها، وهى فى الأساس موضوعات العقيدة والشريعة والعبادات الإسلامية التى هى أم الأمر كله.

تهذيب المتداول اليوم مع المسلمين من أفكار وأحكام بعد أن طال معهم الأمد منذ البعثة المحمدية فى القرن السابع الميلادى حتى اليوم فى القرن الواحد والعشرين قرأ فيها المسلمون ووعى كلٌّ منهم الأمر بطريقته على اختلاف ألوانهم ومشاربهم وثقافاتهم وما عايشوه من عصورٍ تراوحت بين القرون الوسطى وظروف الحداثة ومعايشة البشرية لعصر التصنيع والنظرة العلمية للأمور ثم عصر ما بعد الحداثة الذى يتشكل هذه الأيام بملامحه حيث ثورة الاتصالات والمعلومات والعلوم بما يُنبئ بصراع الحضارات الذى نرجو من الله أن يكون سلمياً وتنافسياً فى سبيل كرامة الإنسان التى نحن المسلمون أولى ببيانها بنص القرآن الكريم على تكريم الله له، هذا التشتت فى الأفكار والمذاهب والمشارب والأهواء لدى المسلمين الذى يصل فى بعض الأحيان إلى التناقض وحمل السلاح يحتاج إلى وقفة لبيان ما هو ثابت من أمور العقيدة والشريعة فلا يجوز الاختلاف فيه فيقل التشتت وخاصةً عندما تكون هناك مصالح فتشتد الأهواء وتنعدم الرؤية والحيدة فيكون لرقابة الامتناع ورقابة الإلغاء دورٌ عظيم.
إذا استطعنا أن نُحكم الاتساق بين كل الأمور والتصرفات والأحكام والصياغات الإسلامية مع ما هو ثابت بالضرورة فى أمور العقيدة والشريعة الإسلامية، فإننا نكون قد حققنا الآتى:
تسهيل التوصل إلى أحكامٍ منطقية تتسق مع المبادئ الإسلامية الثابتة لتسرى على ما يستجد على حياة المسلمين العملية فى القرن الواحد والعشرين، ولم تكن لها سوابق على عهد رسول الله ﷺ ، وهذا هو الشأن مع الدساتير الجيدة .
المحافظة على الثوابت فى العقيدة والشريعة دون خرق حدودها تخلق مسلماً، وبعد ذلك الخلاف فيما يجوز الاختلاف فيه بين المسلمين يخلق مذهباً وعلى المسلمين جميعاً أن يتقبلوا تلك الخلافات المذهبية فهى تثرى الرؤى والأفكار والحلول، وبذلك نخلق أرضية مشتركة لتقليل أسباب البغى والاقتتال بين المسلمين خاصةً أنه وصل فى بعض الأحيان إلى حد التكفير، وأن هناك من يريد أن يغذى هذه التناقضات ويعمقها سواءٌ بالداخل أو بالخارج .
توضيح الحدود الشرعية لاستخدام العنف المتبادل بين المسلمين حكاماً أو محكومين خاصةً فى الأمور السياسية والاقتصادية لأن شكل الدولة الحديثة وهياكلها وشكل الممارسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية فيها لن يسعفه الأسلوب التقليدى بالاجتهاد فى البحث عن الأمثال والأشباه لما كان على عهد رسول الله ﷺ ولكن يجب الاجتهاد فيه على آساسٍ من المبادئ والثوابت الإسلامية مع مراعات الاقتراب بقدر الاستطاعة وبالشكل الأمثل من المعايير والمقاصد التشريعية الإسلامية تقارباً لما يرجوه الله من المسلم الصالح .
عدم التشتت وهروب المسلمين من بحث الأمور الآساس بإثارة أمور هى بطبيعتها خارج ما تحدث عنه القرآن الكريم من الموضوعات، مما يُمكن أن نسمى إثارتها والفتوى فيها من اللغو المباح، ولعل السكوت عن هذه الموضوعات أفضل من إثارتها درءاً للبلبة .

2 – فقه القانون الدستورى الحديث والقرآن الكريم، والسنة النبوية المشرفة

فى القرن الثامن عشر الميلادى، وعندما أُعلن قيام دولة الولايات المتحدة الأمريكية، دولةً مترامية الأطراف مواطنوها من المهاجرين من كل أرجاء المعمورة من أعراقٍ وثقافاتٍ متعددة، ظهرت الحاجة إلى وضع إطارٍ مُحكم للتشريعات فى الدولة الناشئة بحيث تتسق كلها على فكرٍ واحدٍ ومقاصد واحدة، وإلا تشتت التشريعات والقوانين وتفككت أوصال الدولة، وكان الحل فى ظهور أول دستور مكتوب فى تاريخ البشرية وهو الدستور الأمريكى عام 1776 ميلادية ليضع إطاراً عاماً لا يُسمح لأحدٍ أيّاً كان موقعه بأن يتجاوزه بما يعنى إقامة دولة القانون، مكملاً لهذا الدستور المكتوب ظهر فقه الرقابة الدستورية على التشريعات والآليات المصاحبة له، واليوم فى القرن فى القرن الواحد والعشرين استقر بناء النظرية العامة للقانون الدستورى على القواعد الآتية( ):
1ـ مبدأ تدرج التشريعات وسمو الدساتير
2ـ ينبع من مبدأ سمو الدساتير «أن يكون للدستور السمو على ما عده من تشريعات وأن تكون له مكانة الصدارة عليها، ومن ثم تلتزم جميع السلطات فى النظام السياسى فى الدولة بوجوب التقيد بنصوصه واحترامه وعدم الخروج على حدوده والالتزام به».
وهذا يعنى أن يكون الدستور مهيمناً على كل التشريعات التى يجب ألا تصدر إلا «فى إطاره وطبقاً لنصوصه وروحه، أياًّ كان مضمونها أو نصوصها أو طبيعتها فهى كلها يجب وبالتعريف وبالتحديد الدقيق أن تصدر وتدور فى فلك الدستور»( ).
3 – منذ بداية القرن التاسع عشر مارست البشرية مشكلة الرقابة الدستورية على التشريعات( ) وكيفية تنفيذها ووضع فقه الرقابة وآليات تنفيذها ومن داخل ذلك تفسير النصوص الدستورية نفسها عند التنازع على مفهومها، ونستطيع اليوم فى القرن الواحد والعشرين بعد أن استقرت السوابق القضائية فى هذا الموضوع أن نبين أن الرقابة على دستورية القوانين تأخذ أحد قرارين بخصوص القانون المطعون فيه بعدم الدستورية وذلك عند معارضته لنص من نصوص الدستور أو مبادئه المستقرة؛ الأول رقابة الامتناع بمعنى امتناع القاضى عن تطبيقه وتعطيل الاعتبار به فى القضية المطروحة أمامه، وهذا القضاء لا يُنهى حياة القانون الدستورى فى غير حالة هذا القاضى وهذه القضية، وإنما يستمر هذا القانون المعيب دستورياً، والثانى رقابة الإلغاء وهذا معناه إنهاء وجود هذا القانون المطعون عليه بعدم الدستورية ومن ثم اعتباره كأن لم يكن( ).
إذن هناك مبادئ ثلاثة لوضع إطار تشريعى فى الدولة بهدف خلق الاتساق فى التشريعات وعدم خروج الأحكام لما هو مُنكر شرعاً، تلك المبادئ هى: تدرج القوانين وسمو الدساتير، هيمنة الدستور على كل التشريعات (و القرارات القانونية فى الدولة)، وإلغاء أى قانون أو قرار يتعارض مع الدستور ومبادئه.
هذه المبادئ الثلاثة، المسلمون أولى بتطبيقها احتراماً للقرآن الكريم خاصةً أن لدى المسلمين من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة نصوصاً محكماتٍ عن تدرج التشريعات وسمو القرآن الكريم عليها جميعاً، وهيمنته على التشريعات السماوية جميعاً، والتشريعات الإسلامية أَوْلَى، ولم يبق إلا أن يتطور المسلمون فى تمكين القرآن الكريم من تشريعاتهم وأحكامهم مستفيدين من فقه القانون الدستورى الحديث فى موضوع الرقابة الدستورية على القوانين والتشريعات.

3 – النصوص الآمرة بدستورية القرآن الكريم، والسنة النبوية المشرفة

يقول الله سبحانه وتعالى(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً )(النساء – 59) بمعنى أطيعوا الله، فهو مصدر للتشريع، وأطيعوا الرسول، فهو مصدر للتشريع يوحى إليه، ويكمل هذا المفهوم أنه معصوم من الخطأ (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ) ( سورة النجم 1-5) لأن هذه العصمة ضرورية طالما له حق التشريع، على أن نلاحظ أن الرسول الكريم لم يكن له أن يخرج عما أراد الله منه أن يبلغه (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) (سورة المائدة – آية 67)،

أما أولى الأمر منكم فأطيعوهم طالما أطاعوا الله ورسوله فهم ليسوا مصدرا للتشريع، وفى الشق الثانى من الآية فالأمر شديد الصراحة ولا مجال للالتفاف عليه ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً( (النساء – 59) أى أن المرجعية فيما يأتينا من أولى الأمر من الفقهاء أو ذوى السلطان أو البشر من ذوى المرجعية من أى درجةٍ أو نوعٍ كانوا هى أن يُردُّ الأمر إلى الله ورسوله، وهذا ما حرص على بيانه، أبو بكر وعمر رضى الله عنهما، عندما طلب كل منهما فى بدء حكمه التقويم والنصيحة مبينين أنهما غير معصومين من الخطأ، فهذا أبوبكر فى خطبته «إن الله اصطفى محمدا على العالمين وعصمه من الآفات ؛ وإنما أنا متبع ولست بمبتدع ؛ فإن استقمت فتابعونى، وإن زغت فقومونى»( )، وهذا عمر «أعينونى على نفسى بالأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر، وإحضارى النصيحة فيما ولانى الله من أمركم»( )، وهما أعف الناس عن السلطة والمال العام، بل وأكثر الناس علما بالشريعة الإسلامية، لكنه إعلان للحقوق والواجبات لتعليم من يأت من بعدهم .

مبدأ سمو الدساتير وتدرج القوانين يقابلها هنا مبدأ سمو وهيمنة القرآن الكريم على كل الرسالات السماوية وعلى كل مصادر التشريع الإسلامية، أيضاً هناك أساس مُحكم لتدرج مصادر التشريع الإسلامى
هيمنة القرآن الكريم وشموليته على غيره من الكتب السماوية، وهيمنته على الأحكام الإسلامية وكل ما يصدر فى الشأن الإسلامى أولى، وصدق الله العظيم إذ يقول:
(وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنْ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (سورة المائدة – آية 48)،
أما عن تدرج مصادر التشريع الإسلامى فأساسه حديث رسول الله ﷺ مع معاذ بن جبل عندما أرسله عاملاً على اليمن، حيث أوضح أسس التشريع الإسلامى وتسلسلها وكيفية القضاء بما ليس فى القرآن الكريم ولا السنة النبوية المشرفة، حيث سأله الرسول قائلاً : كيف تقضى إذا عرض عليك قضاء ؟، قال أقض بكتاب الله، قال: فإن لم تجد فى كتاب الله ؟، قال : فبسنة رسول الله، قال: فإن لم تجد فى سنة رسول الله ؟ قال: أجتهد برأى ولا آلو، قال : فضرب رسول الله ﷺ على صدره وقال : الحمد لله الذى وفق رسول رسول الله لما يرضى به رسول الله( ).
ويؤخذ من هذا الحديث أن أصول التشريع ثلاثة، هى على الترتيب : الكتاب، فالسنة، فالاجتهاد بالرأى( ).
كلية القرآن الكريم وشموليته، هى الأساس لصحة وشرعية قيامه بدوره الدستورى، ونجاحه كإطار تشريعى، وبالتالى شرعية تطبيق رقابة الإلغاء ورقابة الامتناع على أساس مبادئه، شمولية الكتاب (القرآن الكريم) وعدم جواز تجزئته منصوصٌ عليهما من الله سبحانه وتعالى، حيث يقول فى محكم آياته:
) وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ( (سورة الأنعام – 38) .
(ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَتَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (سورة البقرة – 85)، وهكذا فإن تجزئة الكتاب الذى هو القرآن والأخذ ببعضه وصرف النظر عن بعضه هو نوعٌ من التحريف والكفر بنص هذه الآية الكريمة.
منزلة السنة من القرآن الكريم( ):
السنة فى اللغة هى الطريقة، فإذا أضيفت إلى الرسول ﷺ لفظاً أو دلالة كان المراد بها ما أُثر عنه من قولٍ أو فعلٍ أو تقريرٍ( ).
«السنة هى الأصل الثانى من أصول الأحكام الشرعية، فالكتاب مقدمٌ وهى تالية له لأن القرآن كلام الله تعالى الموحى به إلى رسوله، والمتعبد بتلاوته، والمنقول إلينا بالتواتر، فهو وحىٌ بلفظه ومعناه، ومقطوعٌ به جملةً وتفصيلاً، وهو عمدة الملة، وكلى الشريعة، وأصل أصولها . أما السنة فلفظها غير متعبد به، والمقطوع به جملتها لا تفصيلها، وإليه مرجع الاعتداد بها، ثم هى بيانٌ للكتاب ولاشك فى أن البيان مؤخرٌ من المبين»( ).
وللسنة أثرٌ عظيمٌ فى إظهار المراد من الكتاب، وفى إزالة ما قد يقع فى فهمه من خلافٍ أو شبهةٍ، ويكون بيانها للكتاب على ثلاثة أنواع( ):
1 – تفصيل مُجمله
2 – تقييد مُطلقه
3 – تخصيص عامه

وما ورد فى السنة بالإضافة إلى ما ورد فى الكتاب ثلاثة أنواع( ):
النوع الأول: ما كان مطابقاً لما فيه، فيكون مؤكداً له، ويكون الحكم مستمداً من مصدرين: القرآن مثبتاً له، والسنة مؤيدة .
النوع الثانى: ما كان بياناً للكتاب ) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (*) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (النحل – 34-44)
النوع الثالث: ما كان مشتملاً على حكمٍ جديد، غير مؤكدٍ لما فى القرآن، ولا مُبينٍ له، وقد اختلف العلماءُ فى هذا( ):
1ـ قال بعض العلماء بأنه قد تأتى السنة بما ليس فى الكتاب، «والرسول لا يأتى ـ فى هذا الباب ـ بما يناقض القرآن، لأنه أعرف الخلق بما يُبلغ عن ربه، وأخبرهم بمقاصد الشريعة، لعناية الله تعالى به، وعصمته من الزيغ، وتوفيقه إلى الحق، وتسديده إلى الصواب»( ).
2ـ وقيل: إن السنة لا تأتى إلا بما له أصلٌ فى الكتاب، فإذا كانت مفصِّلةً لمجمله، أو مقيِّدةً لمطلقه، أو مخصِّصةً لعامه – فهى مُوضِّحة للمراد منه، وإذا جاءت بغير ذلك فالمقصود منها إما إلحاق فرعٍ بأصله الذى خفى إلحاقه به، وإما إلحاقه بأحدِ أصلين واضحين يتجاذبانه( ).
مارس الرسول الكريم حياة البشر (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً ) (سورة الكهف – 110) ، فهل كل ما يصدر عنه قد أوحى الله به إليه، أم ترك الله له أن يمارس حياة البشر فيما يخصه من أمورٍ بشرية بينما يوحى الله له ما يشاء فيما يخص أمور العقيدة والشريعة والعبادات، وهل أحاط الله رسوله بكل علوم الظواهر الطبيعية والاجتماعية، نذكر فى هذا الشأن ما حدث فى غزوة بدر فقد أجمع المسلمون على أن يثبتوا للعدو إذا أجمع على محاربتهم، لذلك بادروا إلى ماء بدر، ويسر لهم مطرٌ أرسلته السماء مسيرتهم إليه . فلما جاءوا أدنى ماءٍ منها نزل محمدٌ به . وكان الحُبَاب بن المنذر بن الجموح عليماً بالمكان ؛ فلما رأى حيث نزل النبى، قال يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل أمنزلاً أنزلكه الله فليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه، أم هو الرأى والحرب والمكيدة؟ قال محمد: بل هو الرأى والحرب والمكيدة . فقال يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنزلٍ ؛ فانهض بالناس حتى تأتى أدنى ماءٍ من القوم فتنـزل ثم نُغَوِّر ما وراءها من القُلُب، ثم نبنى عليه حوضاً فنملأُه ماءً ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون، ولم يلبث محمد حين رأى صواب ما أشار به الحُباب أن قام ومن معه واتبع رأى صاحبه، معلناً إلى قومه أنه بشرٌ مثلهم، وأن الرأى شورى بينهم، وأنه لا يقطع برأى دونهم، وأنه فى حاجةٍ إلى حسن مشورة صاحب المشورة الحسنة منهم( ).
هذه الواقعة وغيرها تدل على أن الوحى فى السنة النبوية المشرفة قد اختص فى الأساس بأمور الدين بعينها، أما غير ذلك فأمورٌ للمسلمين أن يختاروا منها ما يتبعوه إذا أرادوا، ولعل الرسول الكريم بما حدث ببدرٍ هذا قد أراد أن يعلم المسلمين بأن يأخذوا عنه فى الأساس أمور دينهم، أما التقليد لممارساته للأمور البشرية فلا إلزام فيها، ولا شأن للوحى بها.
الأمور التى يتناولها القرآن الكريم كلها من أنباء الغيب يوحى بها الله إلى رسوله، فالعقيدة والعبادات كلها مما هو من وراء الطبيعة ولا يُمكن للعلوم الفيزيقية الواردة من الحواس الخمسة أن تقطع بحقائق ما ورد عن الغيب، قد تشير حقائق العلوم الفيزيقية إلى وجود إله خالق له صفاتٌ تتفق وأسماء الله الحسنى، ولكن لا يُمكن الوصول لأبعد من ذلك بالحواس الخمسة، أما الشريعة وما يتفق معها من قيم وممارسات وتشريعات المعاملات العادلة فأساس ارتباطها بالغيب هو التزكية للحياة فى ملكوت الله بين مخلوقاته الفاضلة حيث العدل المطلق والسلام المطلق، ويجب أن نلاحظ أيضاً أن تطبيق الشريعة الإسلامية ينطوى على جانبين؛ الأول يختص بالتشريع للحقوق والواجبات والمقاصد من التشريع والآخر هو مجال التطبيق والحكم على الواقع بما يجب أن ينطوى عليه من إدراكٍ علمى بالظواهر الطبيعية والاجتماعية التى نطبق عليها هذا التشريع، فالسنة النبوية المشرفة تبين مبادئ التعامل مع الظاهرة الطبيعية والاجتماعية حتى يتعلم البشر كيف ينصرون العدل والسلام فى الدنيا (فيتزكوا بهذا العلم)، أما التطبيق الصحيح لهذه المبادئ التشريعية فيتصل اتصالاً عضوياً بمُدركات وجوانب الظاهرة الفيزيقية والاجتماعية، ونذكر فى هذا الشأن ما ذكره الشيخ السيد سابق «أما التشريع الذى يتصل بالأمور الدنيوية، من قضائية وسياسية وحربية، فقد أُمِرَ الرسول ﷺ بالمشاورة فيها، فكان يرى الرأى فيرجع عنه لرأى الصحابة، كما وقع فى غزوة بدرٍ وأُحد»( )، أى أن المبدأ فى التعامل الشرعى، الرسول أعلم الناس به، وأما كيفية وضعه موضع التطبيق فالعلم بجوانب الظاهرة الفيزيقية والاجتماعية، الناس جميعاً شركاء فى هذا العلم.

وفى هذا السياق نبين أنه فى علم الحديث، توجد ضوابط لما ورد صحيحاً عن رسول الله ﷺ ، وذلك حتى لا يُنقل عنه لا فى الحديث ولا فى السنة ما لم يحدث، وهناك درجات لمن يُنقل عنهم من الرواة، وسنفترض هنا أن كل هذه الأمور قد تم تغطيتها بنجاح، كيف يتم التعامل مع ما هو منقول عن الرسول الكريم ويقع فى نفس الوقت فى فئة النوع الثالث «وهو السنة التى ليس لها أصلٌ من الكتاب»، هذا النوع تحديداً يحتاج منا إلى الأخذ بمبدأ دستورية القرآن الكريم ؛ بجمع كل الآيات المحكمات – وتطبيق مبدأ الرقابة الدستورية على تلك الفئة (التى هى من النوع الثالث)، لأنه وبكل تأكيد:
«لا تأتى السنة بحكمٍ إلا وله فى الكتاب أصلٌ يُرجع إليه، فهى خادمةٌ له بتبيين مقاصده، والإعانة على تطبيق أصوله وقواعده»( ).

4 – المبادئ الآمرة فى القرآن الكريم، والسنة النبوية المشرفة

نستعين فى إقامة وإنشاء دستورية القرآن الكريم بما ورد عن الفقيه الدستورى د.يحيى الجمل عند كتابته عن المادة الثانية من الدستور المصرى بعد تعديلها، حيث تم عرض أمرها علي المحكمة الدستورية العليا فحكمت بأن «تلك المادة تخاطب المشرع ولا تخاطب القاضي، بمعني أن السلطة التشريعية هي التي عليها عند التشريع أن تراعي مبادئ الشريعة الإسلامية، وفي تعريف هذه المبادئ قالت المحكمة الدستورية: إنها المبادئ قطعية الثبوت قطعية الدلالة، والحقيقة أن المبادئ التي ينطبق عليها الوصف ـ عدا العبادات ـ نادرة جداً، ذلك أن المذاهب الفقهية متعددة والاجتهادات كثيرة والقطعي الثبوت والدلالة أندر من الندرة»( ).
وهكذا فإن المبدأ الذى سنسير عليه فى بحثنا هذا لإقامة دستورية القرآن الكريم هو الاستناد على «المبادئ والنصوص قطعية الثبوت قطعية الدلالة».
نبأُ السماء يتمثل فى القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة، أما نصوص القرآن الكريم فقطعية الثبوت كما هو ثابت تاريخياً وعمليا حيث لا تبديل لكلمات القرآن الكريم فى أى نصٍّ من نصوصه على مر التاريخ منذ أن جمعه الرسول الكريم (شفوياًّ) وكتبه كتاب الوحى على عهد سيدنا أبى بكرٍ رضى الله عنه بعد قضاء عدد من حفاظ الوحى نحبهم فى حروب الردة، وذلك بنصيحة من سيدنا عمر بن الخطاب t( )، فضلاً عن تعهد الله سبحانه وتعالى بحفظه (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (سورة الحجر – 9)، (لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (سورة يونس – 64)، وأما قطعية الدلالة فقد بين الله سبحانه وتعالى أن القرآن الكريم فيه آياتٌ محكماتٌ هن أم الكتاب وأخر متشابهات (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ) (سورة آل عمران – 7)، وبالتالى فإن الآيات المحكمات تنبع منها المبادئ والأحكام الآساس فى الدين الإسلامى عقيدةٌ وشريعة وعبادات، هذا بينما تشير الآيات المتشابهات لما يُمكن أن يختلف فيه الناس باختلاف الزمان والمكان والعلوم والمفاهيم، ولكن من المفترض بأن يكون الاختلاف بما لا يناقض ثوابت الدين المعرَّفة من خلال الآيات المحكمات، والتى من المفترض أن تعرِّف فئةً مقفلةً من الأحكام الشرعية فى العقيدة والشريعة والعبادات، وبالتالى فإن الآيات المحكمات اللاتى هن أم الكتاب فضلاً عن أنها قطعية الثبوت، فهى أيضاً قطعية الدلالة .
وفى موضوع قطعية النصوص للسنة النبوية المشرفة فنذكر الوقائع التاريخية الثابتة المتواترة فى هذا الشأن، حيث نذكر ما جاء فى كتاب «حياة محمد» للدكتور/ محمد حسين هيكل: «لم يكن الحديث قد دُوِّن إلى عهدٍ متأخر من عصر الأمويين، وقد أمر عمر بن عبد العزيز بجمعه، ثم لم يُجمع إلا فى عهد المأمون»( ).
«و لعل الحديث لم يُجمع فى الصدر الأول من الإسلام لِماَ كان يُروى عن النبى أنه قال: «لا تكتبوا عنى شيئاً غير القرآن. ومن كتب شيئاً غير القرآن فليمحه»، على أن أحاديث النبى كانت متداولة على الألسن يومئذ، وكانت الروايات يُختلف فيها. ولقد أراد عمر بن الخطاب أثناء خلافته أن يتدارك الحال فى ذلك بأن يكتب السنن؛ فاستفتى أصحاب النبى فى ذلك فأشاروا عليه بأن يكتبها، فطفق عمر يستخير الله شهراً، ثم أصبح يوماً وقد عزم الله له فقال: إنى كنت أريد أن أكتب السنن وإنى والله لا أشوب كتاب الله بشئٍ أبداً، وعدل عن كتابتها، وكتب فى الأمصار عنها: «من كان عنده شئٍ فليمحه». وظلت الأحاديث بعد ذلك تتوالد وتتداول، حتى جُمع ما صح لدى الجامعين منها فى عهد المأمون( ).

وهكذا فإن أصل الأصول فى الدستور الإسلامى هو القرآن الكريم قطعى النص وفيه الآيات المحكمات اللاتى هن أم الكتاب، أما السنة النبوية المشرفة فنصوصها ليست قطعية وقد يُذكر الحديث على أكثر من رواية، ولكن هذا لايُعيبه فلعلم الحديث ضوابطه بحيث يتم تنقية الأحاديث والروايات والتأكد من صحة الحديث وصحة أصوله بحيث تقوم السنة بدورها المكمل لما جاء فى القرآن الكريم فى تفصيل مُجمله، وتقييد مُطلقه، وتخصيص عامه، ولا تتطرق لما لا يتفق مع وقار الدين الإسلامى ورسوله ويخرج عن هدف الرسالة السماوية فى بيان العقيدة والشريعة والعبادات فتتشتت العقول والمفاهيم، وتنصرف الأفكار عما كان يجب أن تذهب إليه.

من حيث الموضوع، ينقسم الثابت عن السنة النبوية الشريفة إلى قسمين رئيسين؛ الأول يخص الموضوعات الإسلامية فى العقيدة والشريعة والعبادات، وهذه قد بين الله سبحانه وتعالى أنها وحىٌ يوحى من عند الله (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ) ( سورة النجم 1-5) ، والقسم الثانى يخص الجانب البشرى من شخصية الرسول الكريم مثل الملبس والمأكل والمظهر وغيره مما قد يسجل عن الرسول ﷺ ، والرسول معصومٌ من الخطأ فيه، ولكنها من الأمور المسكوت عنها فى الشأن الإسلامى لأنها ليست من موضوعات الرسالة السماوية وإلا تطرق لذكرها القرآن الكريم الذى لم يفرط فى شىء ( وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ( (سورة الأنعام – 38) ، من أراد أن يأخذ بها فهذا شأنه ومن لم يرد فلا غبار عليه، وبالتالى ونحن نبحث عما هو قطعى النص قطعى الدلالة ليؤخذ وجوبيا عن رسول الله ﷺ ، فإننا نأخذ ما ثبت من وقائع السنة النبوية الشريفة ويقع فى موضوعات العقيدة والشريعة والعبادات الإسلامية .
وهكذا فإن الدستور الإسلامى المأخوذ عن نبأ السماء وحدة ليكون مرجعاً نقيس عليه صحة ما يأتينا من تراث المسلمين وما يُستجد من أمور اليوم يستند على، وبالأولوية الآتية :
1- الآيات المحكمات اللاتى هن أم الكتاب
2- الثابت من وقائع السنة النبوية الشريفة ويقع فى موضوعات العقيدة والشريعة والعبادات الإسلامية، ويتوافق مع القرآن الكريم، حيث تقوم السنة بدورها المكمل لما جاء فى القرآن الكريم فى تفصيل مُجمله، وتقييد مُطلقه، وتخصيص عامه.
الصياغة الدستورية والآيات المحكمات
تتميز الصياغة الخاصة بمواد الدستور بالعبارات القصيرة الواضحة محكمة الصياغة قطعية الدلالة، بحيث تكمل كل مواد الدستور مع بعضها كُلاَّ متكاملاً لا يُسمح بنقض إحداها وإلا تم نقض البناء التشريعى المتكامل المتوافق، ونظراً لسمو الدستور على كل البناء التشريعى فى الدولة فهى عبارات لا تحتوى على أى إجراءات تنفيذية ولا تفاصيل تطبيقية، حيث تُترك هذه الأمور للتشريعات الأقل مستوى وهذا يعطيها الثبات والوضوح ويقلل من حولها الجدل .
وهكذا تعمل مبادئ الدستور الواحد فى تكامل وشمول وتوافق داخلى بحيث تعين ما هو شرعى وما هو غير شرعى تبعاً لهذا الدستور والقوانين الطبيعية المستند عليها، وهناك مبدأ سمو الدساتير وتدرج التشريعات، وبالتالى لا يُسمح لأى تشريع أو قانون أو لائحة أن يصدر وفى أى منها ما يُناقض أى نصٍّ فى الدستور، والأمر أولى إذا أردنا الأخذ بدستورية القرآن الكريم، وكما هو من الأصول فى كتابة الدساتير أن تُصاغ مواده فى عبارات قصيرة قاطعة لا تحتوى التفاصيل، حيث تترك التفاصيل لما دون الدستور من التشريعات، كذلك جاء القرآن الكريم فى آياته المحكمات .
لكل ذلك فإن من أصول الرقابة القضائية على دستورية القوانين والتشريعات عند عرض أحد التشريعات على المحكمة الدستورية فى أى دولة أنه إذا ثبت أى انحرافٍ فى القانون مخالفاً لأى مادة منصوصٍ عليها فى الدستور فإن القرار إما الامتناع عن تطبيق القانون أو إلغائه، وكذلك يجب أن يكون الأمر فى دستورية القرآن الكريم .
نبأ السماء المتمثل فى القرآن الكريم والسنة النبوية ينقسم إلى عقيدة وعبادات وشريعة، وقد بينا أن العقيدة والعبادات هما من أمور التعامل مع الغيب والتعريف به ولا تحتاج إلا إلى الفهم اللغوى للقرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، والنقل عن الرسول الكريم عبادةً وعقيدة ولا يختلفان باختلاف الزمان ولا المكان ولكن الذى يتغير هو الفهم والتأويل، وإن كان مغزاهما قد يتطور مع الأيام إعمالاً لقول الله سبحانه وتعالى ( سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾( سورة فصلت – 53)، وبالتالى فإن فإن النقل عن السلف الصالح فى أمور العقيدة والعبادات لا تتغير أحكامهما فى جوهرها بتغير الزمان والمكان.
يبقى أمر الشريعة، حيث يؤثر على تطبيقاتها وليس مبادئها الزمان والمكان والثقافة العامة ومدى فهم الناس وعلمهم بجوانب الظاهرة التى يتناولها التشريع (الفيزيقية والاجتماعية)، فضلاً عن تنظيم الشريعة للحقوق والواجبات بما يمس مصالح البشر وأهوائهم فى أساساتها، ولا توجد شريعة تنظم مجتمعاً ويُمكن لها أن تتجاهل علاقات السلطة والثروة، فهما المصدر الأساس للقوة فى المجتمع وهما الأداة الرئيسة للحصول على الأمان وإشباع الحاجات لأعضائه، وبالتالى لا يُمكن إلا أن نضعهما فى بؤرة التشريع لتأثيرهما الممتد على كل أنواع العلاقات فى المجتمع إلى درجةٍ لا يمكن تجاهلها، وبالتالى لابد من أن يتم تنظيم العلاقات المرتبطة بهما بالتشريع القاطع لهما وإلا فسد المجتمع بفساد التعامل فيهما، وضبطهما يضبط المجتمع كله، وهذا ما سنركز عليه فى الصفحات التالية من البحث.

5- مفهوم القاعدة القانونية، الحقوق الطبيعية، ودستورية القرآن الكريم

فى بداية نزوله إلى الأرض خارجاً من الجنة، واجه آدم عليه السلام وذريته حالة الطبيعة «state of nature»، وهى حالة مواجهة كل فرد للطبيعة، ولغيره من الأفراد والمخلوقات الأخرى لا يحده فى المواجهة إلا قدراته وتوازنات القوى ( القدرة على الفعل والقدرة على التأثير)، وكان من التصرف العقلانى والطبعى أن يتحد الأفراد من البشر فى مجموعات، تطورت فيما بعد إلى قبائل ثم دول بحثا عن الأمن المشترك وتبادل المنافع، وما لم توجد قواعد عامة تنظم العلاقة بين الأفراد داخل المجتمع، وبينهم وبين المجتمع ككيانٍ عام لفقدت الفكرة جدواها، ولأصبح التقارب داخل المجتمع مدعاةً لأسباب الصراع بدلاً من تقليلها، ومدعاةً للتنافر بدلاً من التعاون لتنمية الموارد والمنافع، إذن وجود نظام عام (قواعد قانونية) هو من الأمور الآساس للخروج من حالة الطبيعة بسوآتها( ).
«خصائص القاعدة القانونية: القانون هو قاعدة عامة مجردة تنظم السلوك الاجتماعى، تكفل السلطة العامة احترامها بتوقيع جزاء مادى على من يخالفها، ويُستخلص من هذا التعريف أن للقاعدة القانونية ثلاث خصائص( ):
• قاعدة عامة مجردة
• تنظيم للسلوك الاجتماعى
• اقترانها بجزاء مادى».
هذه الخصائص تستوجب وجود السلطة المركزية (الدولة) التى ترعى هذه القواعد القانونية بمراقبة التنفيذ وتوقيع الجزاء المادى على المخالفين، هذه السلطة المركزية لابد من أن يديرها رئيس (للدولة) يعاونه نخبة مقربة منه، فإذا كان رئيس الدولة وأعوانه المقربين يقيمون القواعد القانونية على المواطنين ممن هم تحت سلطة الدولة بالعدل والتساوى، فمن يقيم الجزاء على رئيس الدولة المخالف للقواعد القانونية العامة فى الدولة، وكذلك الأمر بالنسبة لأعوانه المقربين، بهذه العبارات نكون قد وصلنا إلى المبدأ الأساس الذى لا تتحقق إلا به «دستورية القرآن الكريم»، فالدستور فى الأساس هو القاعدة القانونية العامة المهيمنة فى الدولة والمجتمع وبغير تحقق كل شروط وجودها تصبح ورقة بغير مضمون .
إذن لابد من وجود نص مستقل مكتوب ملزم لرئيس الدولة وأعوانه والمواطنين يضع الآساس لتطبيق القانون على رئيس الدولة وأعوانه المقربين تحديداً (الدستور) لأنهم وبطبيعة الأمر يستحيل أن يعاقبوا أنفسهم إذا خرقوا القوانين فى الدولة، وفى هذا الأمر كتب بن خلدون، حيث ذكر ثلاثة أطوار لنظام الحكم فى الدولة، وهى( ):
«الأول: ملك طبيعى، ويعنى حسب تعبيره: «حمل الكافة على مقتضى الغرض والشهوة» وأساسه التغلب والقهر. هى صورة الدولة البدائية فى العلوم السياسية، حيث أن فكرة القانون لم تتجرد عن شخص الحاكم .
الثانى: ملك سياسى وهى «حمل الكافة على مقتضى النظر العقلى فى جلب المصالح الدنيوية ودفع المضار»، وفى هذه الحالة توجد قوانين سياسية ـ حسب رأيه ـ يسلم بها الكافة ويتقاضون إلى حكمها – ويخضعون لها كما كان الحال بالنسبة للفرس .
الثالث: الخلافة وهى «حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعى فى مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها»، وفى هذه الحالة يوجد قانون يسود على الحاكم والمحكوم»( ).
وهكذا يتضح أن ابن خلدون قد لمس تطور النظام القانونى فى الدولة من حاكم بدائى (ملك طبيعى) حيث لا توجد مرجعية لقانون عامٍ مُعرَّف، إلى ملك سياسى حيث القانون مكتوب ومحترم (على الرغم من أن الملك فوق القانون)، إلى خلافة حيث يطبق القانون العام على الحاكم مثلما يُطبق على المحكوم .
وفى نفس الموضوع، كتب أستاذنا الدكتور يحى الجمل فى جريدة المصرى اليوم القاهرية تحت عنوان «لماذا توضع الدساتير؟»( ).
«ظاهرة وجود الدساتير في الدولة هي ظاهرة حديثة نسبياً لا يتعدي عمرها قرنين وبضعة عقود، وعلي مدار قرون طويلة ومنذ فجر التاريخ كانت السلطة في يد الرؤساء والأمراء والملوك سلطة شخصية ومطلقة، «كانت السلطة وكأنها ملك شخصي للملوك والرؤساء يتصرفون فيها كما يشاءون، لا تقف أمامهم قاعدة من قانون، وكذلك كانت أموال الدولة مختلطة بأموال الحاكم الشخصية لا تمايز بينهما، كانت الدولة تختلط بشخص الحاكم ملكاً أو رئيساً أو خليفة، وظلت تلك هي القاعدة في الشرق وفي الغرب طوال الأزمنة القديمة»، حقاً كانت هناك لحظات استثنائية عابرة في تاريخ البشرية، يجري فيها حديث عن العدل أو عن النظام الجمهوري أو عن الديمقراطية، حدث ذلك في مدن الإغريق وفي بعض فترات روما ولسنوات قليلة ومحدودة في صدر الإسلام، ولكن القاعدة العامة كانت هي السلطة الشخصية المطلقة، وظل الأمر كذلك إلى أن وصلنا إلي مشارف القرن الثامن عشر الميلادي.
وكانت العوامل الثلاثة الحاسمة في انتقال البشرية من السلطة المطلقة إلي السلطة المقيدة هي التطور البطيء الذي شاهدته المملكة المتحدة «بريطانيا»، ثم استقلال الولايات الأمريكية عن الاستعمار البريطاني ووضع أول دستور مكتوب في الأزمنة الحديثة عام ١٧٨٦م، وقيام الثورة الفرنسية عام ١٧٨٩م.
وإذا كان العاملان الأول والثاني محليين إلى حد كبير فإن الثورة الفرنسية كانت أشبه بإعصار هز البشرية كلها، ونقل السلطة المطلقة إلي سلطة مقيدة يحكمها القانون، وبدأت البشرية تعرف ظاهرة الدساتير».
وفى موضعٍ آخر يبين «وإذا كانت السلطة ضرورة من ضرورات المجتمع المنظم، الدولة، فإن هذه الضرورة في الدولة الحديثة تقدر بقدرها ومدي لزومها، إن السلطة ليست غاية في ذاتها وليست متعة يتمتع بها الحاكمون وليست وسيلة لقهر الشعوب وإنما هي ضرورة من أجل انتظام سير المجتمع ذاته، ومن هنا فإن أي انحراف بالسلطة نحو الوضع القديم، السلطة الشخصية أو المستبدة التي تعيش خارج حدود القانون، يعتبر ارتداداًً عن المبادئ الدستورية، هذه المبادئ الدستورية التي يقول كثيرون من فقهاء القانون إنها تعلو فوق الدستور المكتوب نفسه وتقيده، وقد اتجهت المحكمة الدستورية العليا عندنا في بعض أحكامها إلي ما يؤيد هذا الاتجاه السليم.
ولعل هذه الوجهة من النظر هي ما دفعت فقيهاً فرنسياً كبيراً إلى أن يقول هناك بلاد فيها دستور، وهناك بلاد دستورية».
وفى موضعٍ ثالثٍ يذكر عن دستور ١٩٧١م الخاص بدولة مصر العربية أن «بعض نصوصه تبنت فكرة الحقوق الطبيعية التي تسمو علي الدستور نفسه، ولا تجيز للمشرع الدستوري أن يمس، أو ينال من هذه الحقوق، ونص المادة ٤١ من الدستور (المصرى) هو تعبير واضح عن هذا التوجه إذ يقول صدر تلك المادة «الحرية الشخصية حق طبيعي لا يمس».
ومعروف لدي فقهاء القانون الدستوري أن الأخذ بمذهب «الحقوق الطبيعية» يعني أن هذه الحقوق الطبيعية تعني أنها سابقة على الدستور وتقيد الدستور، لأن الدستور ليس هو الذي منحها وإنما هي موجودة قبله وجاء الدستور ليصونها ويؤكد وجودها ويمنع المساس بها»( ).
وهكذا، فإن مقالة الدكتور يحيى الجمل قد أشارت إلى الأمور الآساس الآتية:
• السلطة ضرورة من ضرورات المجتمع المنظم، الدولة
• كانت السلطة وكأنها ملك شخصي للملوك والرؤساء يتصرفون فيها كما يشاءون، لا تقف أمامهم قاعدة من قانون،، وكذلك كانت أموال الدولة مختلطة بأموال الحاكم الشخصية لا تمايز بينهما، كانت الدولة تختلط بشخص الحاكم ملكاً أو رئيساً أو خليفة، وظلت تلك هي القاعدة في الشرق وفي الغرب طوال الأزمنة القديمة.
• كانت هناك لحظات استثنائية عابرة في تاريخ البشرية، ومنها سنوات قليلة ومحدودة في صدر الإسلام.
• انتقلت البشرية من السلطة المطلقة إلي السلطة المقيدة للحكام من خلال وضع دساتير مكتوبة تقيد سلطة الحكام المطلقة.
• هناك بلاد فيها دستور (مكتوب) لا يتقيد بأحكامه ومبادئه الحكام، وهناك بلاد دستورية حيث يخضع الحاكم للقانون والدستور المكتوب.
• هناك فكرة الحقوق الطبيعية التي تسمو علي الدستور نفسه، ولا تجيز للمشرع الدستوري أن يمس، أو ينال من هذه الحقوق.
استكمالاً لما ذكرناه عن ابن خلدون وعن الدكتور/ يحيى الجمل، نذكر ما قاله الدكتور مصطفى الفقى خلال كلمته فى الملتقى الثقافى الذى عُقِد فى وزارة الأوقاف تحت عنوان «الإسلام فى الفكر السياسى المعاصر» فى أبريل 2007م، وركز سيادته فى مداخلته على أن «الإسلام هو الدين الوحيد الذى يملك نظرية سياسية متكاملة، والدليل على ذلك أنه الدين الوحيد الذى نادى بمبدأ الشورى ورسخ مبدأ الديموقراطية لأول مرةٍ فى التاريخ الإنسانى، كما احتوت النظرية السياسية كل الأبعاد التى يُمكن أن ننطلق منها بدءاً من ابن خلدون وابن رشد وحتى حسن البنا الذى بدأت به نظرية الإسلام السياسى».
وأضاف فى موضعٍ آخر «عندما جاءت مناقشة تعديل المادة الثانية من الدستور لم نجد ديناً أشمل من الإسلام لنعتبره مرجعاً، والدليل أن مادة الشريعة الإسلامية تُدرَّس فى كل كليات الحقوق فى العالم، وأن نابليون بونابارت استلهم الشريعة الإسلامية واقتبس منها فى قانونه بعد أن عاش بين علماء مصر».
وأضاف «إن النبى ﷺ حارب وفاوض وأجل واستعجل حتى وضعه التاريخ على رأس أخطر الساسة فى العالم، وأكبر دليلٍ على ذلك ما كان يوم فتح مكة، وما أصاب الدول الإسلامية من سوءٍ لم يأت إلا مع بداية حكم معاوية الذى حول الحكم الإسلامى إلى حكم ملكى وورَّث الخلافة لابنه»( ).
وهكذا فإنه من الفكر الذى قدمه ابن خلدون، والدكتور يحيى الجمل، والدكتور مصطفى الفقى، نخلص إلى أن الثلاثة، قد خلصوا إلى أن الخلفاء الراشدين قد استكانوا إلى حكم الله سبحانه وتعالى وخضعوا لشرعة مثلهم فى ذلك مثل خلق الله جميعاً ولم يتكبر أحدٌ منهم على دستورية القرآن الكريم أو على تطبيق ما ثبت من شرع الله والاعتراف بحقه فى إقامة الحدود عليهم إذا تجاوزوها مثلهم فى ذلك مثل أى فردٍ من أفراد الرعية متأسين برسول الله ﷺ ومتبعين لسنته وهو القائل لأسامة بن زيد عندما جاءه يشفع فى إمرأة مخزومية تستعير المتاع وتجحده «يا أسامة، لا أراك تشفع فى حد من حدود الله عز وجل، ثم قام النبى ﷺ خطيباً، فقال:
«إنما هلك من كان قبلكم بأنه إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، والذى نفسى بيده، لو كانت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها»( )، وهكذا أرسى الرسول الكريم مبدأ دستورية القرآن الكريم ووضع نبأ السماء فوق الحكام وأعوانهم قولاً وفعلاً لمن أراد أن يتبع سنته بصدق بوجوب تطبيق حدود الله عليهم قبل الرعية إن كانوا سُنةً حقاً، وهذا ما اتبعه الخلفاء الراشدون صدقاً وحقاً.

أيضاً اتفق المفكرون الثلاثة «ابن خلدون، والدكتور يحى الجمل، والدكتور مصطفى الفقى» ونحن معهم، على أن تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية على الحكام فى البلاد الإسلامية قد انتهى بنهاية نمط حكم الخلافة الراشدة (وهو المعروف بنهاية حكم الخلافة الراشدة فى صدر الإسلام بعد أحداث الفتنة الكبرى واستيلاء معاوية بن أبى سفيان بن حرب على الحكم)، حيث أصبحت الحدود تطبق على من يُخطئ من الرعية، ولا يوجد من يطبق العقاب على من يُخطئ من الحكام.
إن إعفاء الحكام لأنفسهم من الالتزام بالعقوبات المنصوص عليها حماية لحدود ما هو شرعى، وما هو غير شرعى فى السلوك الإسلامى، قد تبعه كل الموبقات التى كان يفعلها حكام القرون الوسطى ممن لم يعرفوا الإسلام، حيث دخل بلاد المسلمين التعامل مع «السلطة وكأنها ملك شخصي للملوك والرؤساء يتصرفون فيها كما يشاءون، لا تقف أمامهم قاعدة من قانون، وكذلك كانت أموال الدولة مختلطة بأموال الحاكم الشخصية لا تمايز بينهما، كانت الدولة تختلط بشخص الحاكم ملكاً أو رئيساً أو خليفة، وظلت تلك هي القاعدة في الشرق وفي الغرب طوال الأزمنة القديمة».
العلاقة بين دستورية القرآن الكريم والدساتير الوضعية
من طبيعة الدساتير أنها لا تحتوى إلا على المختصر والضرورى من مجموعة من المبادئ المتكاملة المتسقة مع بعضها البعض حتى تكتسب الثبات والوضوح والقابلية لبناء التشريعات عليها، ولا يصح أن تحتوى على تشريعات تنفيذية (قوانين) أو تفصيلات يُمكن تجنب كتابتها فى الدستور حتى يكتسب الدستور الثبات وتكتسب النظم والقوانين المرونة لتساير تغير الظروف المتغيرة مع الزمن والأحوال، وكذلك جاء القرآن الكريم معلماً للبشر، ففى الشأن السياسى لم يأت فيه إلا القواعد العامة التى تشكل الحقوق الطبيعية للبشر، وهى فى هذا الشأن تسبق وتسمو على الدساتير التى يكتبها البشر، وتشكل الاتجاهات والأهداف العامة للنظم والتشريعات التى يسعى البشر لإقامتها فى دولهم، وهناك مبدأٌ حارسٌ لهذه الحقوق الطبيعية إن شئنا وضعناه واحداً من القواعد ولكن نفضل فى بحثنا هذا أن نضعه منفصلاً حتى لا يتوه فى التفاصيل عند التطبيق وهو دستورية القرآن الكريم بمعنى تطبيق الشريعة الإسلامية وإقامة أحكامها وحدودها على الحكام وأعوانهم قبل إقامتها على المحكومين كما علمنا الرسول ﷺ وكما اتبع الخلفاء الراشدون .

6- الإطار العام للمعاملات الإسلامية، والإعلان العالمى لحقوق الإنسان

فى البند السابق تم بيان أن الآيات المحكمات تشكل تقريراً من الله سبحانه وتعالى للحقوق الطبيعية للبشر. ومن الناحية التشريعية، يسمو القرآن الكريم فى تقريره لهذه الحقوق الطبيعية على أى دستورٍ يكتبه البشر، وعليهم عند كتابة دساتيرهم البشرية أن يراعوا هذه الحقوق الطبيعية ولا يلتف أحدٌ عليها، وفى البند الحالى من البحث نبين هذه الحقوق الطبيعية كما جاءت فى الآيات المحكمات اللاتى هن أم الكتاب ونبين أيضاً علاقتها العضوية بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان( ).
الإطار العام للمعاملات الإسلامية أساساته هى العدل والرحمة والإحسان وتأدية الأمانات إلى أهلها، وإذا حكموا بين الناس أن يحكموا بالعدل ) إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (النحل – 90)، ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً ( (النساء – 58). وبخصوص السلطة والنفوذ فقد حرم الله البغى بغير الحق ) قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (الأعراف – 33)، أما بخصوص التعامل فى الأموال والتبادل الاقتصادى فقد حرم الله أكل أموال الناس بالباطل ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً ( (النساء – 29). وحرم التلاعب فى الكيل والميزان وبخس الناس أشياءهم لأكل حقوقهم فى تبادل السلع الاقتصادية الحق ) وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ) (هود – 85)، وحرم الإدلاء بأموال الناس بالباطل إلى الحكام (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (سورة البقرة – 188)، وأوجب أيضا المحاسبة بين الناس على الأموال حفاظاً على حقوق العباد (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلْ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (سورة البقرة – 282)، أما آداب التقاضى وواجباته فهى القسط فى الشهادة (وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (سورة الأنعام – 152) ، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (سورة المائدة – آية 8)، وعدم كتمانها، وتحريم قول الزور ( وَإِنْ كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تجِدُوا كَاتِباً فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) (سورة البقرة – 283)، (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمْ الأَنْعَامُ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) (سورة الحج – 30) ، (وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً) (سورة الفرقان – 72)، أما فى القصاص فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ) وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ) (النحل – 126)
وهكذا وضع الله حدوداً للتعامل لا يتعداها أحدٌ مسلماً أو غير مسلم، مثل جرائم القتل أو السرقة أو الزنا والاعتداء على الأنساب دون إقامة الحدود التى أوضحها الله سبحانه وتعالى فى شرعه الحنيف، فضلاً عما هو محرم مما يندرج تحت صور البغى والتعدى على الآخرين، فإذا اختلفوا فإن آساس التقاضى العادل وأركانه يرعاها الله بنفسه فى آيات محكمات ويتوعد الخارج عن هذه الآساس أشد العذاب، حيث تقع كل هذه المعاملات على أساس متين من وجوب القسط فى الشهادة وعدم كتمها وتحريم قول الزور، وتلك أهم آساس إقامة العدل فى جميع المعاملات بين الأفراد وفى ساحات القضاء بل تكفي وحدها لإقامة مجتمع العدل والاستقامة.

العلاقة الإسلامية الشرعية بين الحكام والمحكومين( ):
المبادئ العامة للمعاملات الإسلامية كُلٌّ لا يتجزأ ولو أخذنا واحدة منها بصدقٍ لقادتنا لاتباع باقى قواعدها ولو خرقنا إحداها لخرقنا الآخرين، ولو طبقناها على معايير وخصائص ومؤشرات العلاقة بين الحكام والمحكومين فى السنة النبوية الشريفة نجد أنها هى نفسها التى اتبعها الخلفاء الراشدون فى الحكم والإدارة، ونجد أن خصائصها وآساسها كالآتى :
العدل والمساواة والرحمة فعلى الرغم من مكانة الرسول الكريم العالية بين أصحابه إلا أنه لم يختص نفسه ولا أسرته بأبهة سلطة ولا ترف مال (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً (*) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً) (سورة الأحزاب – 28 ، 29)،
الشورى، أمر الله سبحانه وتعالى بالشورى كما جاء فى الآيتين الكريمتين (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) (سورة آل عمران – 159)، و (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) (سورة الشورى – 38)، وأقل ما يعنيه ذلك هو حرية الرأى وألا يُضار أحدٌ من اختلافه فى الرأى مع أصحاب السلطة والنفوذ.
التعفف عن التمتع بأبهة السلطة أو اكتساب النفوذ الاجتماعي أو التربح منها، كان الرسول الكريم عفيفاً عن السلطة والمال العام وكذلك حرم الله على أزواجه إن كُنّ يردن الله ورسوله فليس لهم إلا أن يكونوا مثله (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً (*) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً) (سورة الأحزاب – 28 ، 29)،
السلطة أمانة لا تُستخدم لغير الغرض التى فُوضت من أجله، والاعتراف للرعية بحقها فى محاسبة الحاكم ومراجعته على السلطة العامة وعلى المال العام وهذا واضحٌ من خطبتى استهلال الحكم من أبى بكرٍ( ). و عمر( ) بطلب التقويم والنصيحة.، وقصة المرأة التى راجعت عمر بن الخطاب على مهور النساء، وقصة الرجل الذى حاسب عمر على طول حُلّته .
و أخيراً رد المظالم قبل مغادرة مقعد السلطة بالوفاة أو بغير ذلك وهذا واضحٌ من ذكر الخبر عن مرض رسول الله الذى توفى فيه( )، و منه نأخذ الدروس والعبر، وكذلك فعل خلفاؤه الراشدون وعلى رأسهم أبوبكر وعمر عند الوفاة ومحاسبة كلٍّ منهم لنفسه وسؤالهم عمن جلد له ظهراً أو شتم له عِرضاً أو كان له درهماً فى ذمته .
وإحكاماً للبيان، فصَّل القرآن الكريم نقيض النظام الإسلامى فى الحكم والإدارة، وهو النظام الفرعونى( ).
ونؤكد على أن الله سبحانه وتعالى قد أمر بأن يكون أمر المسلمين شورى بينهم، بل وأمر الرسول الكريم وهو المعصوم من الخطأ بأن يشاورهم فى الأمر، (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) (سورة آل عمران – 159)، و (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) (سورة الشورى – 38)،
ونؤكد على أن القانون فى دولة الخلفاء الراشدين فى صدر الإسلام كان يُطبق على الحكام وأسرهم والمقربين منهم باعتباره قواعد عامة يخضع لأحكامها كل المواطنين فى الدولة كما هو متواتر فى كل المراجع( )، وكما هو مذكورٌ لدى ابن خلدون والدكتور يحى الجمل والدكتور مصطفى الفقى، بما يعنى أنها كانت دولةً دستورية .

وبذلك يُمكن تلخيص دستورية القرآن الكريم فى نقطتين رئيستين، هما:
1ـ تقرير الحقوق الطبيعية للبشر، وهى فى هذا الشأن تسبق وتسمو على الدساتير التى يكتبها البشر.
2ـ الأمر بدستورية الدولة (بمعنى تطبيق القواعد التشريعية والقانونية العامة وأحكامهم بالتساوى على الحكام تماماً كما تطبق على المحكومين).
ونلاحظ هنا أن أساسات ومبادئ الإطار العام للمعاملات الإسلامية وآداب التقاضى وواجباته والعلاقة الإسلامية الشرعية بين الحكام والمحكومين قد بُنيت كلها على آياتٍ محكمات من أم الكتاب وتحرسها حدودٌ شرعية حددها الله سبحانه وتعالى وتؤكدها سنة الرسول الكريم وخلفائه الراشدين فى الحكم والإدارة( ).
وننوه هنا إلى أنه بالنظر إلى «الإعلان العالمي لحقوق الإنسان»( )، نجد أن الحقوق الطبيعية التى أمر الله بها فى قرآنه الكريم للملأ كافةً تسبق كل هذه الحقوق وتشملها.
وننوه أيضاً أن الحقوق السياسية التى نص عليها الإعلان العالمى لحقوق الإنسان، وتحديداً المواد أرقام 18، 19، 20، 21 كلها مكفولة وبمنتهى الحسم فى الآيات المحكمات فى القرآن الكريم، ومنها الآيتان المحكمتان المبنتين لحق الشورى (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) (سورة آل عمران – 159)، و (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) (سورة الشورى – 38)، وهى نفسها التى تُبنى عليها الحقوق الديموقراطية فى الدول الحديثة .
على نحو ما سبق بيانه تلخيص دستورية القرآن الكريم فى ركنين رئيسين، هما: تقرير الحقوق الطبيعية للبشر، وهى فى هذا الشأن تسبق وتسمو على الدساتير التى يكتبها البشر، والأمر بدستورية الدولة (بمعنى تطبيق القواعد التشريعية والقانونية العامة وأحكامهم بالتساوى على الحكام تماماً كما تطبق على المحكومين).
والركنان لا ينفصلان باعتبار أن الحقوق الطبيعية للبشر التى بينها القرآن، الكريم فى آياته المحكمات هى نفسها الحقوق المنصوص عليها فى إعلان حقوق الإنسان الصادر عن الأمم المتحدة عام 1948م، ولا يُمكن أن ينعم بها المحكومون بغير أن يسلم الحكام لهم بهذه الحقوق، حيث لا يوجد فى الدول المستبدة التى يستثنى فيها الحكام أنفسهم من المساءلة القانونية أى احترام لهذه الحقوق الطبيعية وخاصةً أن فيها حقوق تتصل بالمشاركة السياسية فى السلطة وحرية الرأى (الشورى) وأخرى تتصل بالحق فى المحاكمة العادلة وضوابطها.
فى صدر الإسلام، احترم الخلفاء الراشدون دستورية القرآن الكريم بناءً على بواعث شخصيةً خاصةً بهم أساسها تقوى لله سبحانه وتعالى والرغبة فى التقرب إليه، ولكن بعد استيلاء معاوية بن أبى سفيان بن حرب على الحكم وهدم دولة الخلافة وحتى اليوم تغير الموقف، فالحكام من عامة البشر وليسوا من تُقاة الناس ولا يوجد ما يُجبرهم على احترام الحقوق الطبيعية للمحكومين ولا يوجد وازع يدفعهم لقبول الخضوع طواعيةً للقواعد التشريعية والقانونية العامة وأحكامها تماماً كما تطبق على المحكومين، ولم يعد هناك من طريق لذلك إلا بالأخذ بالنظم والآليات والمبادئ المبينة فى الدول الديموقراطية الحديثة، وهى كما يبينها أستاذنا الدكتور يحيى الجمل فى المختصر المفيد من مقاله المذكور بعاليه كالآتى( ):
١ـ يوجد فيها دستور.
٢ـ يوجد فيها فصل بين السلطات.
٣ـ يوجد فيها احترام للدستور من قبل سلطات الدولة.
٤ـ يوجد فيها سيادة للقانون والدستور فوق الإرادات جميعاً.
٥ـ توجد فيها ضمانات دستورية وواقعية للحريات الأساسية للمواطنين.
هذه هي بعض العناصر التي يجب أن تتوافر ليقال إن هذا البلد يعتبر من البلاد الدستورية، وليس من البلاد التي يوجد فيها مجرد وثيقة من مجموعة نصوص، يقال لها دستور.
وفى هذا المقام ننوه على أن دستورية القرآن الكريم متمثلةً فى ركنيها الأساسين (حقوق المحكومين كما بينتها الآيات المُحكمات، وتطبيق القوانين العامة والحدود الشرعية على الحكام وأعوانهم كما تُطبق على كل خلق الله دون تفرقة ) ودون حذفٍ لأجزاءٍ منها أو إضافة ما ليس فيها، لَتُعتبر تأسيساً طبعيا لهذه النظم الديموقراطية.

7– دستورية القرآن الكريم والرقابة على التراث السياسى الإسلامى

علم السياسة هو علم القوة (كيفية اكتسابها وكيفية استخدامها)، وأول ما تُستخدم فيه أسباب القوة هو اكتساب الثروة، فهى فى حد ذاتها سبب رئيس من أسباب القوة فضلاً عن أنها الأداة الرئيسة لإشباع الحاجات الإنسانية. وبعد نشوء المجتمع والدولة أصبحت السلطة هى المصدر الرئيس للقوة داخل المجتمع يتبعها الثروة، ولا توجد شريعة ولا قوانين تنظم مجتمعاً من البشر إلا وتشرع للسلطة، وتشرع أيضاً للثروة، مبينةً الطرق الشرعية لاكتسابهما واستخداماتهما الشرعية، فإن تجاهلت التشريع للسلطة فقد تجاهلت أس آساس العلاقات الإنسانية والاجتماعية.
لم يتجاهل القرآن الكريم فى محكم آياته، ولا الرسول الكريم فى سنته الشريفة، بيان الأسس الشرعية الإسلامية فى الحكم والإدارة (السياسة والسلطة)، وهى نفسها الأسس الشرعية التى بُنيت عليها دولة الخلفاء الراشدين أبى بكر وعمر وعثمان وعلى رضى الله عنهم أجمعين، لقد احترموا دستورية القرآن الكريم متمثلةً فى ركنيها الأساسين (حقوق المحكومين الطبيعية كما بينتها الآيات المُحكمات، وتطبيق القوانين العامة والحدود الشرعية على الحكام وأعوانهم كما تُطبق على كل خلق الله دون تفرقة) فقامت دولة الخلفاء الراشدين الفاضلة المُحترمة القوية العادلة فى صدر الإسلام على نحو ما يعلم الجميع، وعلى نحو ما امتدحها ابن خلدون ويحيى الجمل ومصطفى الفقى.
ولكن المسلمين من بعدهم حذفوا من أركان دستورية القرآن الكريم، وبعضهم أضاف عليها بما لا تحتمل فضلُّوا وأضلُّوا السبيل إلى سنة الرسول الكريم وخلفائه الراشدين فى الحكم والإدارة.
بدأ انحراف المسلمين عن سنة الرسول الكريم وخلفائه الراشدين فى الحكم والإدارة فى ظروف وثقافة القرون الوسطى، حيث تم التحول من الخلافة إلى المُلك بوساطة معاوية بن أبى سفيان والدولة الأموية من بعده، ولكن بدلاً من أن يكون هذا التحول حدثاً عارضاً، إذا به يثبت ويرسخ فى بلاد المسلمين حتى اليوم فى القرن الواحد والعشرين، حيث لم يتخلص المسلمون مما زرعته الدولة الأموية ومُتبعوا نمط حكمها فى التراث السياسى الإسلامى، هذا التراث الذى يشمل تناول بعض أو كل الظاهرة السياسية على مرجعية الفقه الإسلامى، حيث وقع كل من تناولوها فى أزمة تتناول منطقهم، فهم من ناحيةٍ مطالبون بأن يبدأوا نسقهم الفكرى على مقدمات تستند على صحيح القرآن والسنة النبوية المشرفة وينتهوا إلى نتائج لا تتصادم مع واقعهم المؤلم فى دولةٍ يحكمها الملوك بسلطاتهم المطلقة المُـنكرة لكثيرٍ من حقوق الإنسان والشورى على النحو الذى رصده ابن خلدون فى الفروق بين المُـلك الطبيعى والمُـلك السياسى والخلافة، فكرٌ بهذا الأسلوب يماثل قوانين وأحكام غير دستورية ولا يكشف عوارها إلا تطبيق أسس وآليات الرقابة الدستورية الحديثة عليها، إنها التحليل وكشف موطن التجاهل لمبدأ من مبادئ سمو الدساتير وتدرج القوانين، وهيمنة الدستور على كل التشريعات والأحكام، وتطبيق رقابة الإلغاء ورقابة الامتناع على كل ما يُخالف الدستور أو يتعارض مع مبادئه، وفى الصفحات التالية سنعرض بعض الأمثلة لما يُمكن أن تكون عليه هذه التطبيقات .
1ـ فعلها معاوية بن أبى سفيان بن حرب، ولم يستأذن أحداً فى استثناء نفسه وأسرته والمقربين من الحكم بالإعفاء من تطبيق صحيح الشريعة الإسلامية عليهم فى أمور الحكم والإدارة، على النحو الذى رصده ابن خلدون ويحيى الجمل ومصطفى الفقى وآخرون( )، ثم لحق به الحكام المسلمون فى القرون الوسطى (أسرٌ كاملةً تورث أبناءها الحكم وتتبع نمط حكمه الأموى)، ثم تبعهم الفقهاء وكتاب الفكر السياسى الإسلامى بالقول بأن نمط حكم الخلفاء الراشدين مثاليةً أخلاقية أما نمط الحكم الأموى فهو النمط العملى المناسب للممارسات السياسية وإدارة الشعوب وأمور الحكم والدول، وبذلك خرجت سنة الرسول الكريم وخلفائه الراشدين فى الحكم والإدارة، تلك السنة المستندة على الآيات المحكمات على النحو المبين بعاليه من دائرة الإلزام الدستورى إلى دائرة الأخلاقيات والمثاليات، من استطاع أن يطيق اتباعها من الحكام فقد ظهر فضله ومن لم يستطع فلا إثم عليه لأن معاوية بن أبى سفيان بن حرب «صحابى جليل ذو مكانة عالية ويمكن الاقتداء به وياليت أن يتمكن أى مسلمٍ من الوصول إلى مكانته»، وبذلك اختلطت الأوراق وتم نقض دستورية القرآن الكريم (بمعنى تطبيق حدود الله على الحكام تماماً كما تُطبق على المحكومين )، ومن قمة مظاهر هذا النقض قتل حُجر بن عدى فى السنة الحادية والخمسين من الهجرة على يد معاوية بن أبى سفيان بن حرب نفسه وبعد توليته الحكم بإحدى عشر سنة( ).
من الأصول القضائية ألا ينظر القاضى إلى شخص الفاعل وفى حالة المسلمين الأمر أكثر إلزاماً إعمالاً لقول الرسول الكريم «إنما هلك من كان قبلكم بأنه إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، والذى نفسى بيده، لو كانت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها»( )، وبالتالى فإن مرتكب جريمة القتل وغير ذلك من صور الاعتداء على حرمات الله سبحانه وتعالى لا يُعفى من العقاب لأنه «صحابى جليل» بل الأولى أن يُشدَّد عليه العقاب أسوة بما أنذر به الله فضلاء الناس إذا أخطأوا (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً (*) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً) (سورة الأحزاب – 28 ، 29)، والزج بهذه الألقاب الدينية فى مثل هذا المقام معناه الضمنى أن للعامة من الحكام أن يمارسوا بعض الذى فعله «الصحابى الجليل» ولا حرج عليهم، فهم يستطيعون أن يستبدوا بالسلطة ويعطلوا الآيات الآمرة بالشورى وأن يستبدوا بالمال العام وأن يورثوا الحكم فمن يكونوا هم وقد فعلها من هو أفضل منهم (الصحابى الجليل).
والخلاصة أن الدولة الأموية ومتبعوا نمط حكمها قد حذفوا من أركان دستورية القرآن الكريم بعض حقوق المحكومين كما بينتها الآيات المُحكمات، وامتنعوا عن تطبيق القوانين العامة والحدود الشرعية على الحكام وأعوانهم كما تُطبق على كل خلق الله دون تفرقة.
2ـ هناك الكثير مما هو متداول من الفقه الذى يدعوا إلى طاعة الحكام وأسوق مثالٌ على ذلك ما كُتب فى جريدة الأهرام القاهرية فى عدد الجمعة يوم 2 يونيو 2006م فى صفحة الفكر الدينى (ص 40) تحت عنوان «طاعة الحاكم تتوقف بالكفر البواح» والعنوان يعبِّر عما بداخل المقالة، وجاء بندٌ كاملٌ فى المقالة لتعريف حالة الكفر البواح المقصودة بالمقالة هذا نصه «ويؤكد أن إجماع العلماء على طاعة الإمام الجائر الظالم تتوقف عند درجة وصوله لمرحلةٍ تُسمى «بالكفر البواح»» أى الكفر الظاهر الجلى الذى لا يحتمل التأويل ولو كان التأويل ضعيفاً. وهذا الكفر لا يتفق مع كون الحاكم ينطق بالشهادتين أو يسمح بإقامة فرائض الإسلام وشعائره على أرضه، ويتحقق إذا أمر الحكام بمنع إقامة هذه الشعائر أو حارب من يقيمها أو قاتله ومثال ذلك أن يأمر بمنع الصلاة والخروج للحج أو بأى من الأمور التى يُجمع العلماء أنها كفراً وهو ما عبر عنه الرسول ﷺ بقوله: «إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان».
والسؤال هو أين هذا الحاكم الظالم الذى لا يخشى الله فى شعبه، والذى تصل به السذاجة حتى يعلن «كفره البواح»، وكيف تصل به السذاجة حتى يمنع الصلاة أو الحج، وهى عبادات لم يحاول نابليون بونابارت ولا الانجليز المحتلون لمصر منعها، وما الذى يعود على الحكام من منعها .
وقد استند الكاتب فى مقاله هذا على نصف آيةٍ من القرآن الكريم وهى ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ) وفى السنة ما رواه عبادة بن الصامت (بايعنا رسول الله ﷺ على السمع والطاعة فى منشطنا ومكرهنا) أى طاعة الحكام إذا رأينا منهم ما نحب أو ما نكره، إلى آخر ما كتب .
وفى مقامنا هذا حيث نؤكد على مبدأ دستورية القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة بالأخذ بكل ما هو قطعى النص قطعى الدلالة فيهما وعدم التجزئة بالأخذ ببعض الكتاب وإغفال بعضه الآخر، فإن الكاتب قد أغفل ذكر باقى الآية الكريمة وهو ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً( (النساء – 59) حيث تعنى أطيعوا الله، فهو مصدر للتشريع، وأطيعوا الرسول، فهو مصدر للتشريع لأنه يوحى إليه، وهذا أدعى إلى أن نتبع سنته فى الحكم والإدارة، أيضاً فى الحديث الذى استند إليه ساوى بين الحكام والرسول الكريم ﷺ فى طلب الطاعة من المحكومين قائلاً «وفى السنة»، والاحتكام إلى السنة شئٌ عظيم بشرط الاحتكام إلى كل السنة وليس انتقاءً لبعضها، ولو استند لكل السنة وليس لحديثٍ واحدٍ منها لرُدَّ الأمر كله إلى إحياء نمط الخلافة الراشدة فلم تكن إلا اتباعاً لسنة رسول الله الكريم فى الحكم والإدارة .
3ـ هناك تيارات ومذاهب قامت على آيةٍ واحدة أو حديثٍ واحد دون الأخذ «بكل ما هو قطعى النص قطعى الدلالة فى القرآن والسنة» باعتبار أن إغفال جزءٍ منه يُربك السياق ويُربك اتزان المفاهيم، مثالٌ لذلك ما قيل عن تيارٍ نشأ فى مصر فى السبعينيات من القرن العشرين فى مصر حيث أقام أتباعه مذهباً على نصف الآية الكريمة من سورة المائدة (وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ) (سورة المائدة – آية 47)، حيث قام مذهب يكفِّر الدول التى لا تطبق الشريعة الإسلامية وتجاهل الجزء الأول من الآية الكريمة والسياق العام الذى يتحدث عن أهل الكتاب وكيف أن القرآن الكريم مصدقاً لما بين يديهم ومهيمناً عليه.
وهناك تيارات ومذاهب قامت على أساس أن تطبيق الشريعة الإسلامية ينحصر فى تطبيق الحدود دون أن تأخذ «كل ما هو قطعى النص قطعى الدلالة فى القرآن والسنة»، ومتجاهلةً أن هذه الحدود هى العقوبات القصوى على الجرائم المنصوص عليها فى الشريعة الإسلامية، وأنه لا يُمكن الأخذ بالعقوبات خارج سياق التشريع الإسلامى المتكامل، وأنه يسبق تطبيق هذه العقوبات الأخذ بدستورية القرآن الكريم متكاملةً بما فيها من حقوقٍ طبيعية للمحكومين تماثل تلك المنصوص عليها فى إعلان حقوق الإنسان وفيها حقوق سياسية قِبَلَ الحكام من شورى وحرية إعلانٍ للرأى ومحاسبةٍ للحكام على السلطة المفوضة إليهم، فضلاً عن وجوبية القضاء العادل بمواصفاته الإسلامية والإنسانية، بمعنى أن هناك أولويات تسبق القول بتطبيق الحدود، وفى جميع الأحوال سواءٌ أُخذ بهذه العقوبات نفسها أم أُخذ بغيرها، إلا أن ما هو مُجرَّمٌ من الأعمال لا يمكن أن يكون محل خلاف فى جميع الأحوال وأن محاسبة المُجرم سواءٌ كان من الحكام أو من عامة الشعب، هو أيضاً لا يمكن أن يكون محل خلاف فى جميع الأحوال وهذا هو أساس الموضوع وجوهر التشريع الإسلامى الذى يسبق نوعية العقوبة نفسها.
4ـ التراث السياسى الإسلامى الذى نعنيه هو تناول الظاهرة السياسية على مرجعية الفقه الإسلامى، وأول من رُصدت له كتاباته السياسية فى بلاد المسلمين هو المؤلف عبد الحميد الكاتب، وقد (توفى 132هـ/750م)( )، وكان آخر الكتاب ذوى الأصالة ممن كتبوا فى الموضوع السياسى الإسلامى هو ابن خلدون الذى توفى عام 808هـ/1406م( ).
بالنظر إلى هذا التراث السياسى الإسلامى، نجده ينقسم إلى قسمين رئيسين( ):
الأول: يتناول الموضوعات الفكرية والفلسفية الخاصة بموضوع الحكم ويندرج تحت هذا التيار «موضوعات الإمامة واستقراء التاريخ فى كيفية الوصول إلى الحكم وصعود وسقوط الدول والممالك والموقف من السلطان الجائر».
والثانى: يتناول استشارات فنية للحكام وصلاح الحكم وقوة الدولة وحسن تدبيرها ويندرج تحت هذا التيار «بيان وظائف الدولة، واجبات الحكام والمحكومين، وعظ وإرشاد الملوك وتقديم النصيحة لهم فى الخاص والعام من الأمور ومساعدة الحكام على التنظيم الداخلى للدولة وفهم مؤسساتها والعلاقة بينهم وتكاد أن تقوم هذه المؤلفات بدور وضع الإطار الدستورى والتنظيمى للدولة قبل أن يعرف العالم شيئاً عن الدساتير المكتوبة وفقهها، وأيضاً عن «القضاء، والحسبة» ودور كلٍّ منهما فى الدولة، والخراج والسياسة الاقتصادية للدولة».
هناك انحرافات وتشوهات فى التراث السياسى الإسلامى (مستبعدين منه نبأ السماء المتمثل فى القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة حتى لا تختلط بما ليس من الوحى الإلهى)، حيث نلاحظ أنه قد تم إجبار الفقهاء والمفكرين السياسيين على تجاهل موضوعاتٍ هامة يُشكل إثارتها وضع الحكام فى حرج، أو إجبارهم على تناول موضوعات هى فى صلبها لصالح الحكام وهذا نجده فى كل التراث السياسى الإسلامى، فذكر وتفعيل الشورى متمثلةً فى العقد الاجتماعى بين الحكام والمحكومين نقلاً عن بيان عمر بن الخطاب يوم وقف رجلٌ من العامة يحاسب سيدنا عمر بن الخطاب، «جاءت عمر برود من اليمن ففرقها بين المسلمين فخرج فى نصيب كل رجل برد واحد ونصيب عمر كنصيب واحد منهم . قيل: واعتلى عمر المنبر وعليه البرد وقد فصله قميصا، فندب الناس للجهاد، فقال له رجل: لا سمعا ولا طاعة . فقال عمر : ولم ذلك؟ قال الرجل لأنك استأثرت علينا؛ لقد خرج فى نصيبك من الأبراد اليمنية برد واحد، وهو لا يكفيك ثوبا، فكيف فصلته قميصا وأنت رجل طويل؟ فالتفت عمر إلى ابنه قائلا: أجبه يا عبد الله. فقال عبد الله: لقد ناولته من بردى فأتم قميصه منه . قال الرجل: أما الآن فالسمع والطاعة( ). هذا عمر بن الخطاب يعلمنا شريعة الله الكونية فى الحكم واتزان العلاقة بين الحكام والمحكومين والعقد الاجتماعى بين الحكام والمحكومين، إنه السمع والطاعة الضرورية لانتظام الحكم والإدارة مقابل قبول الحاكم لمبدأ المحاسبة من الرعية على السلطة والمال العام قبولاً مطلقاً لا اعوجاج فيه وبدون قيدً أو شرط كما فعل عمر.
ونجد أيضاً أن الشورى والتزام العدل ومحاسبة الحكام هى من باب النصائح والوصايا والالتزام بها متروكٌ لتقديرهم الشخصى ولا تصل أبداً إلى حد المحاسبة أو حتى الاقتراب منه (وكأن المحكومين يتعاملون مع حكام قد ورثوا دور رسول الله ﷺ الموحى إليه المعصوم من الخطأ)، أما الموضوعات المفضلة فى الفقه والفكر السياسى المنقول عن الفقهاء والمفكرين المسلمين فهى مدح الحكام ضمناً فى موضوعات الإمامة وشروط الإمام وصفاته وما له (الذى سيأخذه حتماً) وما عليه حيث لم يجرؤ أحدٌ منذ نشأة المُلك فى بلاد المسلمين (منذ عهد معاوية بن أبى سفيان بن حرب وحتى اليوم) على أن يضع نظاماً ولا آلية لبيان كيفية أخذ ما عليه، فظلت هذه نقطة ضعفٍ خطيرة فى سبيل تطبيق صحيح مبدأ دستورية القرآن الكريم وتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية على كل المسلمين دون استثناءٍ للحكام وأعوانهم المقربين.
لقد حذَّرنا الله سبحانه وتعالى فى كتابه الكريم (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ) (سورة آل عمران – 7)، من فتنة التأويل الخاطئ للآيات المحكمات اللاتى هن أم الكتاب، وليس عجباً أن تكون أكثر التشريعات عُرضةً للتغير بظروف البيئة والزمان والمكان هى تلك التشريعات الخاصة بالحقوق السياسية الطبيعية حيث أنها خاصة بممارسات السلطة والثروة، وهما مستهدفان دائماً وأبداً من البشر فرادى وجماعات، فضلاً عن أن الظاهرة السياسية نفسها ظاهرة معقدة يزداد البشر إدراكاً لجوانبها يوماً بعد يوم.
وبملاحظة التشابه الذى قد يصل إلى حد التطابق بين «الإطار العام للمعاملات الإسلامية، والعلاقة الإسلامية الشرعية بين الحكام والمحكومين» من جانب و«الإعلان العالمي لحقوق الإنسان» الصادر عن الأمم المتحدة عام 1948م، نجد أن هذا الإعلان قد تحرز كما تحرز القرآن الكريم فى (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ) (سورة آل عمران – 7)، من سوء القصد أو سوء الفهم فى آخر عباراته، حيث قال فى المادة 30:
ليس في هذا الإعلان نص يجوز تأويله على أنه يخول لدولة أو جماعة أو فرد أي حق في القيام بنشاط أو تأدية عمل يهدف إلى هدم الحقوق والحريات الواردة فيه( )، ونحن المسلمون أولى بذلك منهم.

8– الخلاصة

يقول الله سبحانه وتعالى ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً( (النساء – 59) ، بمعنى أطيعوا الله، فهو مصدر للتشريع، وأطيعوا الرسول، فهو مصدر للتشريع يوحى إليه، ويكمل هذا المفهوم أنه معصوم من الخطأ (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ) ( سورة النجم 1-5) ، لأن هذه العصمة ضرورية طالما له حق التشريع، حيث تقوم السنة بدورها المكمل لما جاء فى القرآن الكريم فى تفصيل مُجمله، وتقييد مُطلقه، وتخصيص عامه.
تقوم النظرية العامة للقانون على أساس وضع إطار تشريعى عام فى الدولة (هو الدستور) له الصدارة والهيمنة على كل ما فيها، بهدف خلق الاتساق فى التشريعات وعدم خروج القوانين والأحكام والقرارات لما هو مُنكر شرعاً، ويتم ذلك بوضع المبادئ الدستورية الآتية:
1ـ تدرج القوانين وسمو الدساتير.
2ـ ينبع من مبدأ سمو الدساتير أن يكون للدستور الهيمنة على كل التشريعات (والقرارات القانونية فى الدولة).
3ـ بناء على ماسبق، يتم إلغاء أى قانون أو قرار يتعارض مع أى مادة فى الدستور أو مع أى مبدأ من مبادئه.
مبدأ سمو الدساتير يقابله هنا مبدأ سمو وهيمنة القرآن الكريم (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنْ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (سورة المائدة – آية 48)، ومبدأ تدرج القوانين يقابله ما ثبت عن رسول الله ﷺ فى حديثه إلى معاذ بن جبل عندما أرسله عاملاً على اليمن، حيث أوضح أسس التشريع الإسلامى وتسلسلها وكيفية القضاء بما فى القرآن الكريم أولاً، فإن لم يجد فبسنة رسول الله، فإن لم يجد فإنه يجتهد برأيه .
ويؤكد الله سبحانه وتعالى على عدم قيام الأحكام والفقه على جُزئياتٍ من الكتب، بل لابد من صدور الأحكام متوافقةً مع كل الآيات المحكمات، ومُحرمٌ على المؤمن أن يفعل غير ذلك (ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَتَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (سورة البقرة – 85)، وهذا أساس رقابة الامتناع ورقابة الإلغاء فى فقه القانون الدستورى الحديث.
بناءً على ما سبق سوف يكون أساس عملنا هذا هو بيان المبادئ قطعية الثبوت قطعية الدلالة فى الدين الإسلامى.
فى تعريف المبادئ الإسلامية قطعية النص قطعية الدلالة
نبأُ السماء يتمثل فى القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة، أما نصوص القرآن الكريم فقطعية الثبوت كما هو ثابت تاريخياً وعمليا حيث لا تبديل لكلمات القرآن الكريم فى أى نصٍّ من نصوصه على مر التاريخ منذ أن جمعه الرسول الكريم (شفوياًّ) وكتبه كتاب الوحى على عهد سيدنا أبى بكرٍ رضى الله عنه ، وذلك بعد قضاء عدد من حفاظ الوحى نحبهم فى حروب الردة، بنصيحة من سيدنا عمر بن الخطاب رضى الله عنه ، فضلاً عن تعهد الله سبحانه وتعالى بحفظه (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (سورة الحجر – 9)، (لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (سورة يونس – 64)، وأما قطعية الدلالة فقد بين الله سبحانه وتعالى أن القرآن الكريم فية آياتٌ محكماتٌ هن أم الكتاب وأخر متشابهات (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ) (سورة آل عمران – 7)، ومعنى أن تكون الآيات المحكمات هن أم الكتاب، أن يُرد تأويل الآيات المتشابهات إليها ولا يتعداها، وبالتالى فإن الآيات المحكمات تنبع منها المبادئ والأحكام الآساس فى الدين الإسلامى عقيدةٌ وشريعة وعبادات، هذا بينما تشير الآيات المتشابهات لما يُمكن أن يختلف فيه الناس باختلاف الزمان والمكان والعلوم والمفاهيم، ولكن من المفترض بأن يكون الاختلاف بما لا يناقض ثوابت الدين المعرَّفة من خلال الآيات المحكمات، والتى من المفترض أن تعرِّف فئةً مقفلةً من الأحكام الشرعية فى العقيدة والشريعة والعبادات، وبالتالى فإن الآيات المحكمات اللاتى هن أم الكتاب، فضلاً عن أنها قطعية الثبوت، فهى أيضاً قطعية الدلالة.
أما عن الثابت عن السنة النبوية الشريفة، فإن المنقول عن رسول الله ﷺ ، من حيث الموضوع ينقسم إلى قسمين رئيسين ؛ الأول يخص الموضوعات الإسلامية فى العقيدة والشريعة والعبادات، وهذه قد بين الله سبحانه وتعالى أنها وحىٌ يوحى من عند الله (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ) ( سورة النجم 1-5) ، والقسم الثانى يخص الجانب البشرى من شخصية الرسول الكريم مثل الملبس والمأكل والمظهر وغيره مما قد يسجَّل عن الرسول ﷺ ، والرسول معصومٌ من الخطأ فيه، ولكنها من الأمور المسكوت عنها فى الشأن الإسلامى لأنها ليست من موضوعات الرسالة السماوية وإلا تطرق لذكرها القرآن الكريم الذى لم يفرط فى شىء ( وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ( (سورة الأنعام – 38) ، مَن أراد أن يأخذ بها فهذا شأنه ومن لم يرد فلا غبار عليه، وبالتالى ونحن نبحث عما هو قطعى النص قطعى الدلالة ليؤخذ وجوبيا عن رسول الله ﷺ فنأخذ ما ثبت من وقائع السنة النبوية الشريفة ويقع فى موضوعات العقيدة والشريعة والعبادات الإسلامية .
وهكذا فإن الدستور الإسلامى المأخوذ عن نبأ السماء وحدة ليكون مرجعاً نقيس عليه صحة ما يأنينا من تراث المسلمين وحتى اليوم يستند على، وبالأولويات الآتية:
1ـ الآيات المحكمات اللاتى هن أم الكتاب
2ـ الثابت من وقائع السنة النبوية الشريفة ويقع فى موضوعات العقيدة والشريعة والعبادات الإسلامية، ويتوافق مع القرآن الكريم، حيث تقوم السنة بدورها المكمل لما جاء فى القرآن الكريم فى تفصيل مُجمله، وتقييد مُطلقه، وتخصيص عامه.
نبأ السماء المتمثل فى القرآن الكريم والسنة النبوية ينقسم إلى عقيدة وعبادات وشريعة، وقد بينا أن العقيدة والعبادات هما من أمور التعامل مع الغيب والتعريف به ولا تحتاج إلا إلى الفهم اللغوى للقرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، والنقل عن الرسول الكريم عبادةً وعقيدة ولا يختلفان باختلاف الزمان ولا المكان ولا يتأثران بهما فهما من أمور الغيب، ولكن الذى يتغير هو الفهم والتأويل، وإن كان مغزاهما قد يتطور مع الأيام إعمالاً لقول الله سبحانه وتعالى  (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (سورة فصلت – 53)، وبالتالى فإن النقل عن السلف الصالح فى أمور العقيدة والعبادات لا تتغير أحكامهما فى جوهرها بتغير الزمان والمكان.

يبقى أمر الشريعة، حيث يؤثر على تطبيقاتها وليس مبادئها الزمان والمكان والثقافة العامة ومصالح البشر بالمقارنة مما يستوجب التمسك بما هو قطعى النص قطعى الدلالة ليكون دستوراً إسلامياً مأخوذاً عن نبأ السماء وحدة، وليكون مرجعاً نقيس عليه صحة ما يأتينا من تراث المسلمين وما نحكم به على ما يستجد علينا من أمور الدنيا، ولا توجد شريعة إلا ويقع فى بؤرتها التشريع لعلاقات السلطة والثروة لتأثيرها الأساس والممتد على كل أنواع العلاقات فى المجتمع إلى درجةٍ لا يمكن تجاهلها، فضلاً عن ارتباطهما بمصالح البشر وأهوائهم وبالتالى لابد من أن يتم تنظيم العلاقات المرتبطة بهما بالتشريع القاطع لهما وإلا فسد المجتمع بفساد التعامل فيهما.

الإطار العام للمعاملات الإسلامية أساساته هى العدل والرحمة والإحسان وتأدية الأمانات إلى أهلها ) إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (النحل – 90)، ) إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً ( (النساء – 58).. الحق ) قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (الأعراف – 33)،) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً ( (النساء – 29).، ) وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ) (هود – 85)، (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (سورة البقرة – 188)، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلْ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (سورة البقرة – 282)،
أما آداب التقاضى وواجباته فهى القسط فى الشهادة (وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (سورة الأنعام – 152)، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (سورة المائدة – آية 8)، وعدم كتمانها، وتحريم قول الزور الزور ( وَإِنْ كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تجِدُوا كَاتِباً فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) (سورة البقرة – 283)، (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمْ الأَنْعَامُ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) (سورة الحج – 30), (وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً) (سورة الفرقان – 72)، ( وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ) (النحل – 126)

العلاقة الإسلامية الشرعية بين الحكام والمحكومين مبادئها هى:
• العدل والمساواة والرحمة (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً (*) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً) (سورة الأحزاب – 28 ، 29)، الشورى، (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) (سورة آل عمران – 159)، و (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) (سورة الشورى – 38)،
• التعفف عن التمتع بأبهة السلطة أو اكتساب النفوذ الاجتماعي أو التربح منها (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً (*) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً) (سورة الأحزاب – 28 ، 29)،
• السلطة أمانة لا تُستخدم لغير الغرض التى فُوضت من أجله والاعتراف للرعية بحقها فى محاسبة الحاكم ومراجعته على السلطة العامة وعلى المال العام، وهذا واضحٌ من خطبتى استهلال الحكم من أبى بكرٍ وعمر وغيرها من سنة الرسول الكريم وخلفائه الراشدين فى الحكم والإدارة.
• وأخيراً رد المظالم قبل مغادرة مقعد السلطة بالوفاة أو بغير ذلك، وهذا واضحٌ من ذكر الخبر عن مرض رسول الله الذى توفى فيه، وكذلك فعل خلفاؤه الراشدون.

ونلاحظ أن أساسات الإطار العام للمعاملات الإسلامية وكذلك أساسات ومبادئ العلاقة الإسلامية الشرعية بين الحكام والمحكومين، قد جاءت كلها فى آياتٍ محكمات من أم الكتاب وتجاهل أى مبدأٍ منها أو الالتفاف عليه يعتبر إهداراً لدستورية القرآن الكريم، أما تفصيلات العلاقة من العفة عن المال العام وتحريم الاستفادة من أبهة السلطة بأى شكلٍ من الأشكال فضلاً عن رد المظالم عند الوفاة أو ترك المنصب فقد جاء بيانها كلها فى سنة محكمة لا مجال لإنكار صحة أى منها .

هذه المبادئ قد جاءت كلها فى آيات محكمات وتشكل فى مجموعها تقريراً من الله سبحانه وتعالى للحقوق الطبيعية للبشر، واحترمها وفصلها الرسول الكريم فى سنته فى الحكم والإدارة وهى نفس ما اتبع الخلفاء الراشدون، ومن الناحية التشريعية، يسمو القرآن الكريم فى تقريره لهذه الحقوق الطبيعية على أى دستورٍ يكتبه البشر، وعليهم عند كتابة دساتيرهم البشرية أن يراعوا هذه الحقوق الطبيعية ولا يلتف أحدٌ عليها. ودستورية القرآن الكريم تعنى تطبيق الشريعة الإسلامية وإقامة أحكامها وحدودها على الحكام وأعوانهم قبل إقامتها على المحكومين كما علمنا الرسول ﷺ وكما اتبع الخلفاء الراشدون.
وبذلك يُمكن تلخيص دستورية القرآن الكريم فى نقطتين رئيستين، هما:
1ـ تقرير الحقوق الطبيعية للبشر، وهى فى هذا الشأن تسبق وتسمو على الدساتير التى يكتبها البشر
2ـ الأمر بدستورية الدولة (بمعنى تطبيق القواعد التشريعية والقانونية العامة وأحكامهم بالتساوى على الحكام تماماً كما تطبق على المحكومين) .

وننوه هنا إلى أنه بالنظر إلى «الإعلان العالمي لحقوق الإنسان»( )، نجد أن الحقوق الطبيعية التى أمر الله بها فى قرآنه الكريم للملأ كافةً تسبق كل هذه الحقوق وتشملها.

وننوه أيضاً أن الحقوق السياسية التى نص عليها الإعلان العالمى لحقوق الإنسان، وتحديداً المواد أرقام 18، 19، 20، 21 كلها مكفولة وبمنتهى الحسم فى الآيات المحكمات فى القرآن الكريم، ومنها الآيتان المحكمتان المبينتان لحق الشورى (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) (سورة آل عمران – 159)، و (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) (سورة الشورى – 38)،

وبملاحظة التشابه الذى قد يصل إلى حد التطابق بين «الإطار العام للمعاملات الإسلامية، والعلاقة الإسلامية الشرعية بين الحكام والمحكومين» من جانب و«الإعلان العالمي لحقوق الإنسان» الصادر عن الأمم المتحدة عام 1948م، نجد أن هذا الإعلان قد تحرز كما تحرز القرآن الكريم (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ) (سورة آل عمران – 7)، من سوء القصد أو سوء الفهم فى آخر عباراته، حيث قال:
«المادة 30 :ليس في هذا الإعلان نص يجوز تأويله على أنه يخول لدولة أو جماعة أو فرد أي حق في القيام بنشاط أو تأدية عمل يهدف إلى هدم الحقوق والحريات الواردة فيه».

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *