في موضوع التراث والمعاصرة (في أصول التشريع الإسلامي)
الحكم الرشيد في المنظور الإسلامي
دكتور/ بهاء الدين محمود محمد منصور
مجلة مركز صالح كامل للاقتصاد الإسلامى ، جامعة الأزهر ، السنة الثالثة عشرة – العدد التاسع و الثلاثون ، 1430هجرية – 2009 م
1ـ مقدمة
يشير مفهوم الحكم إلى ممارسة السلطة السياسية والاقتصادية والإدارية لإدارة شؤون بلد ما على جميع المستويات. ويشمل الحكم الرشيد الدولة والمجتمع المدني والقطاع الخاص، كما يعنى بآثار التنمية طويلة الأمد على أجيال متعددة. وتتمثل أبعاد الحكم الرشيد في سيادة القانون والشفافية والاستجابة والمشاركة والإنصاف والفعالية والكفاءة والمساءلة والرؤية الإستراتيجية. وتحوي وثائق السياسات الأساسية لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي شرحًا تفصيليًا لتصور البرنامج لماهية الحكم الرشيد (الوثائق باللغة الإنجليزية)( ).
للحكم الرشيد آساس مؤكدة فى العقيدة والشريعة الإسلامية للحكام والمحكومين، وقد عرف المسلمون الأوائل كل مبادئ «الحكم الرشيد» الذى تتحدث عنه النصوص الأدبية والسياسية الحديثة ومارسوها حكاماً ومحكومين فى الحقبة التى حكم فيها الرسول ﷺ فى مجتمع المدينة المنورة وتبعه على سنته فى ذلك الخلفاء الراشدون من بعده أبو بكر وعمر بن الخطاب وعثمان وعلى ومن بعدهم عمر بن عبد العزيز، ثم انتكس نمط الحكم فى البلاد الإسلامية وانحدر إلى الاعتراف بشرعية الحكم بالغلبة (أى الحكم لمن استولى على الحكم ولو بالغلبة والقوة) وأن على المحكومين أن يسمعوا ويطيعوا حفاظاً على بلاد المسلمين من الفوضى (وحتى لا يتكرر فيها ما كان من أحداث الفتنة الكبرى من اقتتال بين معسكرى على ومعاوية)، وكان هذا الهاجس لا يغيب عن أذهان أئمة الفقه والمفكرين السياسيين المسلمين عند النظر فى موضوع نمط العلاقة بين الحكام والمحكومين.
قامت دولة الخلفاء الراشدين الفاضلة فى صدر الإسلام دون تأسيس نظام تشريعى أو مؤسسى يبين بوضوح الحقوق والواجبات للحكام والمحكومين والآليات التى يتم من خلالها ممارسات الأعمال السياسية للقوى الداخلية فى الدولة ومحاسبة من يخرق هذه التشريعات والأنظمة والآليات بما يُلزم الجميع بالاحترام الواجب لمبادئ الشورى والشفافية والمحاسبة وكذلك العدالة بمفهومها البدهى وهو خضوع الحكام وأصحاب السلطة للقانون بالمساواة بأفراد المجتمع الآخرين الذين لا يملكون شئٍ من السلطة أو أسباب القوة والنفوذ ، وكانت العقبة فى ذلك هى ظروف القرون الوسطى التى لم تُسعف الدولة على النمو التشريعى أو المؤسسى فى هذا الاتجاه الذى هو جزء مؤكد من العقيدة والشريعة الإسلامية ، بل سارت الأمور الفقهية فى عكس هذا الاتجاه وهو الادعاء بشرعية الحكم بالغلبة وتوريث الحكم ، فى مقالة سابقة بيَّن المؤلف كيفية التأسيس لدستورية القرآن الكريم أى الأخذ بمبادئ المعاملات التى قررها الله سبحانه وتعالى فى آيات القرآن الكريم المُحكمات اللاتى هن أم الكتاب وسنة نبيه الكريم المؤكدة وموقعها من النظام التشريعى للدولة الحديثة القائم على سمو الدساتير وتدرج القوانين، حيث تبين أن الرسالة السماوية متمثلةً فى القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة قد قررت الحقوق الطبعية للإنسان وأنها تشمل كافة الحقوق التى يتضمنها الإعلان العالمى لحقوق الإنسان الصادر من الأمم المتحدة عام 1948م( ) شاملةً حقوقه السياسية والتى نستطيع أن نُجملها فى حقه فى ممارسة الديموقراطية ، وأن الشرط الأساس فى دستور أى دولة حديثة لكى نقبله شرعيا من وجهة النظر الإسلامية هو أن يبيِّن بوضوح هذه الحقوق الطبعية فى الديموقراطية وحقوق الإنسان وأن يضع النظام السياسى بآلياته التنظيمية والقانونية لممارسة الديموقراطية وحقوق الإنسان ممارسةً لا لبس فيها ويسد ثغرات الالتفاف عليها ، هذه المقالة تستكمل ما بدأناه ببيان الأسس العقدية والتشريعية فى الإسلام التى تؤازر وتشير إلى التنظيم المؤسسى لدولة الحكم الرشيد فى الإسلام بمصطلحات علم السياسة الحديث مع بيان الأدلة على صحة ما نبينه مما قد يضطرنا إلى تفنيد بعض ما يشيع فى الأدبيات المتداولة عن الإسلام وتتناقض جذرياً مع هذه الأسس .
2- قصة الخلق
الله سبحانه وتعالى موجود ، قديما استدل الناس على وجود الخالق من قانون العلية بمعنى أنه لا يُمكن أن يكونوا قد خُلِقوا من غير شئ ، ولديهم دلائل وشواهد من النظام العام السائد فى الكون أن كل هذا الإبداع لابد له من خالقٍ عليم ولكن هذا لم يتعد الإدراك العام الذى يُمكن الاختلاف معه حتى إن الفلاسفة الطبيعيين يدَّعون أن كل هذا النظام والابداع فى الكون قد نشأ من تفاعل القوانين الطبيعية التى تسود الكون وتنظمه، وبالتالى فإن قانون العلية يعترفون بصحته ، ولكنه فى عرفهم ليس دليلاً على وجود خالقٍ قد تعمد خلق هذا النظام ، ولكن مع تقدم العلوم وظهور علم الثرموديناميكا، فقد تم التعامل مع ظاهرة فرق الجهد وقياس الاضمحلال فيه كمِّيا (حساب الإنتروبى) وقد تم رصده حيث يأخذ شكل متجه مركباته هى «اللاتحدد فى المعلومات، والفوضى فى النظم، والفقد فى الطاقة الموجودة على فرق جهد»( )( )( ).
ومن نتائج القانون الثانى للثرموديناميكا أن النظم المنعزلة تتجه إلى حالة أقصى إضمحلال عفوي بتأثير فرق الجهد للخواص ذات الدفع وبتأثير الميل إلى الاتجاه إلى الحالات الأكثر احتمالا (و هذا هو مبدأ زيادة الإنتروبى فى علم الثرموديناميكا)( ).
لا يمكن دفع العمليات ضد اتجاهها العفوى إلا بالأفعال العمدية، مثال لذلك؛ تقليص اللاتحدد بالمعلومات، تقليل الفوضى بالأفعال العمدية، وتخليق الطاقة الحرة( ).
الطاقة الحرة هى الطاقة القابلة للانطلاق لوجودها على فرق جهد ، ومثالٌ لذلك تخليق الطاقة النووية من مصدر مصنَّف من غير أنواع الطاقة، لأنها ناتجة من الكتلة وذلك بناء على قانون أينشتين، حيث الطاقة والكتلة يمكن أن يتحول أحدهما إلى الآخر، وبذلك تكون هذه الطاقة الحرة الناتجة، هى إنتروبى سالب مُخلَّق( ).
أما المثل البارز الثانى فهو التمثيل الغذائى الضوئى بوساطة النبات، حيث يتم استخلاص الأكسوجين وتخزين الكربوهيدرات من ثانى أكسيد الكربون والماء. إنها عملية عكس الاتجاه العفوى للتفاعل الكيماوى تنفذ من خلال سلسلة من الأعمال العمدية ولا يمكن أن تنفذ إلا بوساطة النبات الحى.
بمعنى آخر نستطيع أن نقول أنه بناءً على القانون الثانى للثرموديناميكا ، فإن نقص اللاتحدد بظهور المعلومات أو ترتيب النظام أو رفع أى كمية من الطاقة إلى درجة أعلى من فرق الجهد (أى خلق الطاقة الحرة)، كل هذه العمليات هى أفعال عكس الاتجاه العفوى للتغيير فى الطبيعة لا يمكن أن تتولد أو تضاف عفويا فى النظام المعزول.
بملاحظة وجود نظم شغَّالة ، قد تم تجميعها من مكوناتها الأولية بنجاح فضلا عن مخزون الطاقة الحرة الموجود فى الكون لينبىء عن أفعال عمدية قد تم اتخاذها من قبل . هذه الأفعال العمدية قد عكست الميل العفوى للنظم من التحلُّل إلى التركيب فى نظم منتظمة شغالة. فضلا عن أن هذه الأفعال العمدية قد خلقت الطاقة الحرة التى من المستحيل أن تنشأ عفوياً بذاتها حسب القانون الثانى للثرموديناميكا. فضلاً عن ذلك فإن عدم تحلل هذه النظم مع صيانتها شغالة مع التحكم فى إنفاق الطاقة الحرة دون انطلاقها عفويا ليشير إلى أن هناك أفعالا عمدية لازالت تقدم وتضاف إلى هذا الكون.
إذا نظرنا إلى عناصر هذه الأفعال العمدية فلابد من أن تكون هى نفسها عناصر عكس الاضمحلال، وهى «المعلومات الضرورية، القدرة على ترتيب النظم/الكون، فضلا عن خلق الطاقة الحرة». ومن يفعل ذلك لابد من أن يكون هو «العليم، الخبير، القدير، سبحانه»، وبذلك يكون القول بوجود الخالق العليم الخبير يستند على التداعيات المنطقية الناتجة بالضرورة من القانون الثانى للثرموديناميكا الضارب بجذوره فى أعماق البنية التحتية للعلوم الطبيعية ، وبذلك يكتسب القول بأن «الكون قد تم خلقه بفعل عمدى» قوة ويقين القضية العلمية الصحيحة( ).
من الملاحظ أن مبدأ زيادة الإنتروبى الشهير فى علم الثرموديناميكا هو مبدأ صحيح فى النظم الميتة، فكل نظمها وفروق الجهد فيها تتحلل عفويا، أما النظم الحية فهى وحدها القادرة على خلق الإنتروبى السالب حيث تضيفه إما لنفسها أو لغيرها؛ فالنبات والحيوان والإنسان يتحللون بالموت، بينما لو أخذنا مكونات كلٍّ منهم من المواد فلا يوجد من يستطيع تشكيلها على صورة أجسامها إلا أن يكون هناك حياة فى كلٍّ منها وهذا التشكيل يمثل «إنتروبى سالب» يضاف داخل كياناتها الحية، فضلاً على ذلك يضيف كل منهم بنشاطه نوعا من «الإنتروبى السالب» على البيئة حوله فالنبات يحلل ثانى أكسيد الكربون إلى مكوناته الأصلية من أكسوجين وكربون وهذا عكس الاتجاه العفوى للتفاعل الكيماوى فضلاً عن إضافته لفرق جهد كيماوى إلى هذا الكون، أما الحيوان فيضيف الإنتروبى السالب لبيئته باكتساب المعلومات والخبرات لنفسه وترتيبه لبيئته بناءً على خبراته، فضلاً عن تكوين الغذاء الحيوانى، فهذه التكوينات هى أيضاً عكس الاتجاه العفوى للتفاعلات الكيماوية بين مكونات البروتين، وأما الإنسان فإضافاته فى خلق المعارف وترتيب البيئة لخدمة أغراضه ثم خلق فرق الجهد بالمعنى الصريح من تحويل الكتلة إلى طاقة فكلها تعنى أن الكيانات الحية لا ينطبق عليها مبدأ زيادة الإنتروبى بمعناه المطلق، فهى تنقص الإنتروبى بأفعالها العمدية لصالح نفسها فى أحيانٍ كثيرة وبدرجاتٍ مختلفة.
على الرغم من أنه لا يمكن التحقق تجريبياً من وجود خالق هذا الكون سبحانه وتعالى، إلا أن ثبوت خلق الكون بفعل عمدى ظاهر بناءً على تحليلات القانون الثانى للثرموديناميكا، وأن الخالق حى ذو إرادة قادر ولديه القدرة على ترتيب هذا الكون وخلق فروق الجهد فيه.
وصدق الله العظيم إذ يقول:
(أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ) (سورة الطور، آية 35)
هذه الآية الكريمة تحتوى على سؤال ينكر على المشركين أن يقولوا بأنهم قد خُلِقوا من غير شئ، وهذا معناه أن هذه الآية تشير إلى أن قانون العلة الكافية (أو قانون العلية) هو قانون أولى صحيح من قوانين الله الكونية ولا يُمكن إنكاره ، فإذا علمنا أن الفلسفات التى تدعى بأن الكون قد خُلِقَ بقوة الطبيعة وقوانينها الصماء دون الحاجة إلى خالقٍ عليمٍ فعلها عن إرادةٍ وتدبُّر ، فهذا معناه أن قانون العلية وحده غير كافٍ لدحض مجادلات هؤلاء الطبعيين حيث يترك باب الجدل مفتوحاً ، ولكن المنطقى أنها تشير إلى أن الكون قد خُلٍقَ بفعلٍ عمدى وهذا ما تُثبته التحليلات عن القانون الثانى للثرموديناميكا.
الله والكون وخلق الإنسان( )
كل مخلوقات الله سبحانه وتعالى لا يعصونه ما أمرهم ، ولكن آدم وذريته لهم شأنٌ آخر فقد وهب الله لهم عقولاً يفقهون بها وترك لهم أن يختاروا طريقهم (سورة الأحزاب، آية 72) وحمل آدم وذريته لهذه الأمانة يرفع مكانته فى الكون رفعة عالية بين مخلوقات الله المقربة ، ولكن فى ذلك محاذيرٌ كثيرة لمثل هذا المخلوق فقد يكون مصدراً لكثيرٍ من الاضطراب فى الكون حتى يتفهم ويفقه الصواب من الخطأ ويتوافق مع شرائع الله الكونية ، لقد تُرك له أن يختار فما الذى يضمن أن يهديه عقله إلى ما أراده الله منه، وهذا ما حذر منه الملائكة ولكن الله أعلم بمن خلق (سورة البقرة، آية 30 ـ 39)، (سورة طه، آية 115ـ126)، (سورة الأعراف، آية 11ـ25)، لقد خلق الله آدم وأخبر الملائكة أنه سيجعله فى الأرض خليفة ، وعلى الرغم من ذلك خلقه فى الجنة حيث ملكوت الله الأعلى حيث ملائكته ومخلوقاته المقربة، وأخبر آدم بشرطٍ واحدٍ من شريعة الله الكونية؛ ألا يقرب شجرةٍ معينةٍ، ولكن آدم بنقص خبرته وعجز إرادته أمام المغريات وقلة تدريبه على استخدام عقله وإرادته، فضلاً عن عدم استيعابه لأحكام شريعة الله الكونية انزلق بطريقةٍ طبعية إلى الاستجابة لغرائزه وأكل من الشجرة فحق عليه النزول إلى الأرض، ليس كعقوبة إذلال لأكثر من سبب؛ أولاً لأنه تلقى كلماتٍ من ربه فتاب عليه (سورة البقرة، آية 37)، (سورة طه، آية 122)، (سورة الأعراف، آية 22ـ23) فلا يليق إذلاله بعد ذلك ، ثانياً لأن الله يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء (سورة البقرة، آية 284) فلا يحتاج لأن يقيم الحجة على أحدٍ لكى يعذبه فلا معقِّب لكلماته سبحانه، وأخيراً وفى نهاية الرحلة على الأرض يعيد الله الصالحين من البشر إلى الجنة خالدين فيها (سورة الحديد آية 12)، لا يسمعون فيها لغواً ولا تأثيماً إلا قيلاً سلاماً سلاماً (سورة الواقعة آية 25ـ 26)، فهل يعودون إليها على نفس حالهم لكى تتكرر أخطاؤهم فى الجنة حيث ملكوت الله الأعلى الذى قال عنه الله لإبليس فما يكون لك أن تتكبر فيها (الأعراف، آية 13)، أم أن علم الله المحقق بخلود أبناءِ آدم الصالحين فى الجنة يعنى أنهم قد تزكوا إلى درجة رفعتهم إلى التوافق مع فهم وفقه شريعة الله الكونية وتؤهلهم للعودة للعيش فى الجنة حيث ملكوت الله الأعلى المحكوم بشريعته الكونية.
لقد أُخرج آدم من الجنة إلى رحلةٍ مؤقتةٍ على الأرض ووعد الله سبحانه وتعالى آدم بأن يرسل إليه هدىً يرشده إلى أحكام شريعته الكونية وكان ذلك مع المصطفين من بنى آدم من الأنبياء والرسل حتى ختم الله سبحانه وتعالى هديه بالرسالة الخاتمة وهى القرآن الكريم التى وعد الله بحفظها (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (سورة الحجر ، 9) فكانت هى الرسالة الوحيدة التى بقيت من كل ما أرسل من هدى حتى لا يختلط بها كلامٌ آخر وتتشابه الأمور على خلق الله ، لقد كانت موضوعات القرآن الكريم هى العقيدة والشريعة (شريعة الله الكونية) والعبادات وكان مع الرسالة الخاتمة بيان عملى متمثلاً فى سنة الرسول الكريم حامل الرسالة والسنة النبوية المشرفة من أمور الوحى الإلهى وذلك بناءً على آيات الله المحكمات (سورة النجم، آية 1ـ5)( ).
تكامل الرسالات السماوية مع نفسها ومع التجربة البشرية
الرسالات السماوية متكاملةٌ متوافقةٌ مع نفسها ومع بعضها البعض، حيث يقول الله سبحانه وتعالى فى محكم آياته موصياً أهل الكتاب ومذكراً لهم (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ ) (آل عمران، 187)، ويؤكد على نفس المعنى فى الرسالة المحمدية الخاتمة (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ) (سورة البقرة، 285)، والتجربة البشرية على الأرض تجربةٌ واحدةٌ متكاملة مع الهدى الإلهى، (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) سورة فصلت، آية 53)، وهذه الآيات تشمل البرهان على صحة العقيدة ، وكذلك البرهان على صحة الشريعة وجدواها (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ) (سورة الأنفال، 24)، ومن آيات الله سبحانه وتعالى أن يتقارب الناس على أسس علميةٍ علمانية من إدراك فوائد وجدوى العمل بشريعة الله الكونية.
3- دستورية القرآن الكريم
يقول الله سبحانه وتعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ) (سورة النساء، آية 59)، بمعنى أطيعوا الله ، فهو مصدر للتشريع، وأطيعوا الرسول، فهو مصدر للتشريع يوحى إليه، ويكمل هذا المفهوم أنه معصوم من الخطأ (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) )(سورة النجم، آية 1ـ5)، لأن هذه العصمة ضرورية طالما له حق التشريع، حيث تقوم السنة بدورها المكمل لما جاء فى القرآن الكريم فى تفصيل مُجمله، وتقييد مُطلقه، وتخصيص عامه( )( ).
تقوم النظرية العامة للقانون على أساس وضع إطار تشريعى عام فى الدولة (هو الدستور) له الصدارة والهيمنة على كل ما فيها ، بهدف خلق الاتساق فى التشريعات وعدم خروج القوانين والأحكام والقرارات لما هو مُنكر شرعاً ، ويتم ذلك بوضع المبادئ الدستورية الآتية( )( ):
1ـ تدرج القوانين وسمو الدساتير
2ـ ينبع من مبدأ سمو الدساتير أن يكون للدستور الهيمنة على كل التشريعات (و القرارات القانونية فى الدولة)
3ـ بناء على ماسبق ، يتم إلغاء أى قانون أو قرار يتعارض مع أى مادة فى الدستور أو مع أى مبدأ من مبادئه .
مبدأ سمو الدساتير يقابله هنا مبدأ سمو وهيمنة القرآن الكريم على كل ما فى الشأن الإسلامى وعلى كل ما سبق من الرسالات السماوية ) وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ) (سورة المائدة، آية 48)، ومبدأ تدرج القوانين يقابله ما ثبت عن رسول الله ﷺ فى حديثه إلى معاذ ابن جبل عندما أرسله عاملاً على اليمن، حيث أوضح أسس التشريع الإسلامى وتسلسلها وكيفية القضاء بما فى القرآن الكريم أولاً، فإن لم يجد فبسنة رسول الله، فإن لم يجد فإنه يجتهد برأيه( )( ).
ويؤكد الله سبحانه وتعالى على عدم قيام الأحكام والفقه على جُزئياتٍ من الكتب، بل لابد من صدور الأحكام متوافقةً مع كل الآيات المحكمات ، ومُحرَّمٌ على المؤمن أن يفعل غير ذلك (ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ )(سورة البقرة، آية 85)، وهذا أساس رقابة الامتناع ورقابة الإلغاء فى فقه القانون الدستورى الحديث.
بناءً على ما سبق سوف يكون أساس دستورية القرآن الكريم مبنى على بيان المبادئ قطعية الثبوت قطعية الدلالة فى الدين الإسلامى.
فى تعريف المبادئ الإسلامية قطعية النص قطعية الدلالة( )
نبأُ السماء يتمثل فى القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة، أما نصوص القرآن الكريم فقطعية الثبوت كما هو ثابت تاريخياً وعمليا حيث لا تبديل لكلمات القرآن الكريم فى أى نصٍّ من نصوصه على مر التاريخ منذ أن جمعه الرسول الكريم (شفوياًّ) وكتبه كتاب الوحى على عهد سيدنا أبى بكرٍ رضى الله عنه ، وذلك بعد قضاء عدد من حفاظ الوحى نحبهم فى حروب الردة ، بنصيحة من سيدنا عمر بن الخطاب رضى الله عنه ، فضلاً عن تعهد الله سبحانه وتعالى بحفظه (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) (سورة الحجر، آية 9)، (لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) (سورة يونس، آية 64) ، وأما قطعية الدلالة فقد بين الله سبحانه وتعالى أن القرآن الكريم فيه آياتٌ محكماتٌ هن أم الكتاب وأخر متشابهات ) هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ ) (سورة آل عمران ، آية 7)، ومعنى أن تكون الآيات المحكمات هن أم الكتاب، أن يُرد تأويل الآيات المتشابهات إليها ولا يتعداها، وبالتالى فإن الآيات المحكمات تنبع منها المبادئ والأحكام الآساس فى الدين الإسلامى عقيدةٌ وشريعة وعبادات، هذا بينما تشير الآيات المتشابهات لما يُمكن أن يختلف فيه الناس باختلاف الزمان والمكان والعلوم والمفاهيم ، ولكن من المفترض بأن يكون الاختلاف بما لا يناقض ثوابت الدين المعرَّفة من خلال الآيات المحكمات، والتى من المفترض أن تعرِّف فئةً مقفلةً من الأحكام الشرعية فى العقيدة والشريعة والعبادات، وبالتالى فإن الآيات المحكمات اللاتى هن أم الكتاب، فضلاً عن أنها قطعية الثبوت، فهى أيضاً قطعية الدلالة( ).
أما عن الثابت عن السنة النبوية الشريفة ، فإن المنقول عن رسول الله ﷺ ، من حيث الموضوع ينقسم إلى قسمين رئيسين ؛ الأول يخص الموضوعات الإسلامية فى العقيدة والشريعة والعبادات ، وهذه قد بين الله سبحانه وتعالى أنها وحىٌ يوحى من عند الله (سورة النجم، آية 1ـ5)، والقسم الثانى يخص الجانب البشرى من شخصية الرسول الكريم مثل الملبس والمأكل والمظهر وغيره مما قد يسجَّل عن الرسول ﷺ ، والرسول معصومٌ من الخطأ فيه، ولكنها من الأمور المسكوت عنها فى الشأن الإسلامى لأنها ليست من موضوعات الرسالة السماوية وإلا تطرَّق لذكرها القرآن الكريم الذى لم يفرط فى شىء (وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ) (سورة الأنعام، آية 38)، مَن أراد أن يأخذ بها فهذا شأنه ومن لم يرد فلا غبار عليه ، وبالتالى ونحن نبحث عما هو قطعى النص قطعى الدلالة ليؤخذ وجوبيا عن رسول الله ﷺ فنأخذ ما ثبت من وقائع السنة النبوية الشريفة ويقع فى موضوعات العقيدة والشريعة والعبادات الإسلامية( ).
وهكذا فإن الدستور الإسلامى المأخوذ عن نبأ السماء وحده ليكون مرجعاً نقيس عليه صحة ما يأتينا من تراث المسلمين وحتى اليوم يستند على، وبالأولويات الآتية( ):
1ـ الآيات المحكمات اللاتى هن أم الكتاب.
2ـ الثابت من وقائع السنة النبوية الشريفة ويقع فى موضوعات العقيدة والشريعة والعبادات الإسلامية، ويتوافق مع القرآن الكريم، حيث تقوم السنة بدورها المكمل لما جاء فى القرآن الكريم فى تفصيل مُجمله، وتقييد مُطلقه، وتخصيص عامه. نبأ السماء المتمثل فى القرآن الكريم والسنة النبوية ينقسم إلى عقيدة وعبادات وشريعة ، وقد بينا أن العقيدة والعبادات هما من أمور التعامل مع الغيب والتعريف به ولا تحتاج إلا إلى الفهم اللغوى للقرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، والنقل عن الرسول الكريم عبادةً وعقيدة ولا يختلفان باختلاف الزمان ولا المكان ولا يتأثران بهما فهما من أمور الغيب ، ولكن الذى يتغير هو الفهم والتأويل، وإن كان مغزاهما قد يتطور مع الأيام إعمالاً لقول الله سبحانه وتعالى (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) ( سورة فصلت ، آية 53 ) ، وبالتالى فإن النقل عن السلف الصالح فى أمور العقيدة والعبادات لا تتغير أحكامهما فى جوهرها بتغير الزمان والمكان( ).
يبقى أمر الشريعة، حيث يؤثر على تطبيقاتها وليس مبادئها الزمان والمكان والثقافة العامة ومصالح البشر مما يستوجب التمسك بما هو قطعى النص قطعى الدلالة ليكون دستوراً إسلاميا مأخوذاً عن نبأ السماء وحده، وليكون مرجعاً نقيس عليه صحة ما يأتينا من تراث المسلمين وما نحكم به على ما يستجد علينا من أمور الدنيا، ولا توجد شريعة إلا ويقع فى بؤرتها التشريع لعلاقات السلطة والثروة لتأثيرها الأساس والممتد على كل أنواع العلاقات فى المجتمع إلى درجةٍ لا يمكن تجاهلها، فضلاً عن ارتباطهما بمصالح البشر وأهوائهم وبالتالى لابد من أن يتم تنظيم العلاقات المرتبطة بهما بالتشريع القاطع لهما وإلا فسد المجتمع بفساد التعامل فيهما( ).
الإطار العام للمعاملات الإسلامية أساساته هى العدل والرحمة والإحسان وتأدية الأمانات إلى أهلها( )( ): (سورة النحل، آية 90)، (سورة النساء، آية 58). (سورة الأعراف، آية 33)، (سورة النساء، آية 29)، (سورة هود، آية 85)، (سورة البقرة، آية 188)، (سورة البقرة، آية 282).
أما آداب التقاضى وواجباته فهى القسط فى الشهادة( ): (سورة الأنعام، آية 152)، (سورة المائدة، آية 8)، وعدم كتمانها، وتحريم قول الزور (سورة البقرة، آية 283)، (سورة الحج، آية 30) (سورة الفرقان، آية 72)، أما فى القصاص فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به( ): (سورة النحل، آية 126).
العلاقة الإسلامية الشرعية بين الحكام والمحكومين مبادئها هى( ):
• العدل والمساواة والرحمة ( سورة الأحزاب ، آية 28 ، 29).
• الشورى ، (سورة آل عمران ، آية 159 ) و(سورة الشورى، آية 38).
• التعفف عن التمتع بأبهة السلطة أو اكتساب النفوذ الاجتماعي أو التربح منها (سورة الأحزاب، آية 28 ، 29 ) .
• السلطة أمانة لا تُستخدم لغير الغرض التى فُوضت من أجله والاعتراف للرعية بحقها فى محاسبة الحاكم ومراجعته على السلطة العامة وعلى المال العام ، وهذا واضحٌ من خطبتى استهلال الحكم من أبى بكرٍ وعمر وغيرها من سنة الرسول الكريم وخلفائه الراشدين فى الحكم والإدارة.
• وأخيراً رد المظالم قبل مغادرة مقعد السلطة بالوفاة أو بغير ذلك ، وهذا واضحٌ من ذكر الخبر عن مرض رسول الله الذى توفى فيه، وكذلك فعل خلفاؤه الراشدون.
ونلاحظ أن أساسات الإطار العام للمعاملات الإسلامية وكذلك أساسات ومبادئ العلاقة الإسلامية الشرعية بين الحكام والمحكومين، قد جاءت كلها فى آياتٍ محكمات هن أم الكتاب وتجاهُل أى مبدأٍ منها أو الالتفاف عليه يعتبر إهداراً لدستورية القرآن الكريم، أما تفصيلات العلاقة من العفة عن المال العام وتحريم الاستفادة من أبهة السلطة بأى شكلٍ من الأشكال فضلاً عن رد المظالم عند الوفاة أو ترك المنصب فقد جاء بيانها كلها فى سنة محكمة لا مجال لإنكار صحة أى منها.
هذه المبادئ قد جاءت كلها فى آيات محكمات وتشكل فى مجموعها تقريراً من الله سبحانه وتعالى للحقوق الطبيعية للبشر، واحترمها وفصلها الرسول الكريم فى سنته فى الحكم والإدارة، وهى نفس ما اتبع الخلفاء الراشدون. ومن الناحية التشريعية، يسمو القرآن الكريم فى تقريره لهذه الحقوق الطبيعية على أى دستورٍ يكتبه البشر، وعليهم عند كتابة دساتيرهم البشرية أن يراعوا هذه الحقوق الطبيعية ولا يلتف أحدٌ عليها. ودستورية القرآن الكريم تعنى تطبيق الشريعة الإسلامية وإقامة أحكامها وحدودها على الحكام وأعوانهم قبل إقامتها على المحكومين كما علمنا الرسول ﷺ وكما اتبع الخلفاء الراشدون( ).
و بذلك يُمكن تلخيص دستورية القرآن الكريم فى نقطتين رئيستين( )، هما:
1. تقرير الحقوق الطبيعية للبشر، وهى فى هذا الشأن تسبق وتسمو على الدساتير التى يكتبها البشر.
2. الأمر بدستورية الدولة (بمعنى تطبيق القواعد التشريعية والقانونية العامة وأحكامهم بالتساوى على الحكام تماماً كما تطبق على المحكومين) .
وننوه هنا إلى أنه بالنظر إلى «الإعلان العالمي لحقوق الإنسان»( ) الذى اعتُمد ونشر على الملأ بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 217 ألف (د ـ 3) المؤرخ في 10 كانون الأول/ديسمبر 1948، نجد أن الحقوق الطبيعية التى أمر الله بها فى قرآنه الكريم للملأ كافةً تسبق كل هذه الحقوق وتشملها.
وننوه أيضاً أن الحقوق السياسية التى نص عليها الإعلان العالمى لحقوق الإنسان، وتحديداً المواد أرقام 18، 19، 20، 21 كلها مكفولة وبمنتهى الحسم فى الآيات المحكمات فى القرآن الكريم، ومنها الآيتان المحكمتان المبينتان لحق الشورى (سورة آل عمران ، آية 159 ) و(سورة الشورى، آية 38).
وبملاحظة التشابه الذى قد يصل إلى حد التطابق بين «الإطار العام للمعاملات الإسلامية، والعلاقة الإسلامية الشرعية بين الحكام والمحكومين» من جانب و«الإعلان العالمي لحقوق الإنسان» الصادر عن الأمم المتحدة عام 1948، نجد أن هذا الإعلان قد تحرز كما تحرز القرآن الكريم (سورة آل عمران ، آية 7) من سوء القصد أو سوء الفهم فى آخر عباراته، حيث قال( ):
«المادة 30 ليس في هذا الإعلان نص يجوز تأويله على أنه يخول لدولة أو جماعة أو فرد أي حق في القيام بنشاط أو تأدية عمل يهدف إلى هدم الحقوق والحريات الواردة فيه».
4ـ سنة الرسول الكريم وخلفائه الراشدين فى الحكم والإدارة
وضع القرآن الكريم إطاراً عاماً للعلاقة بين البشر يقوم على المساواة فى الحقوق والواجبات وضمان العدل بينهم ، مع وضع حدودٍ من العقوبات على من يعتدى، وآداباً للسلوك عند التقاضى يتضمن تحريم قول الزور أو كتم الشهادة، وتخصيصاً فى موضوع العلاقة بين الحكام والمحكومين، أمر الحكام باحترام مبدأ الشورى، وهو فى أبسط مفاهيمه يضمن عدم الإضرار بأى فرد لاختلافه فى الرأى مع الحاكم وإعلانه عن هذا الإختلاف، طالما يلتزم بحدود حقوقه ويؤدى واجباته فى الدولة ولا يمارس ضرراً ولا ضراراً.
وجاءت سنة الرسول الكريم فى الحكم والإدارة اتباعاً دقيقاً وبيان عملياً وتفصيل، لكل هذه المبادئ القرآنية.
ثم جاء من بعده الخلفاء الراشدون ، فكان حكمهم اتباعاً دقيقاً لسنة الرسول الكريم فى الحكم والإدارة، وزادوا عليه ببيان أنهم ليسوا معصومين من الخطأ مثله( )( ).
انظر أيضا كيف تعفف أبو بكر وعمر رضى الله عنهما عن أموال المسلمين وهما فى الولاية( )( )، وأ نهم يطلبون من الرعية النصيحة وردهم عن الخطأ، على الرغم من أنهم هم الحكام، وكانت دولة الرسول الكريم وخلفائه الراشدين هى الدولة المعيارية، بمعنى أنها المثال لمن أراد أن يتبع الله ورسوله فى علاقات السلطة بين الحكام بدرجاتهم فى داخل سلم السلطة بالدولة ، أو علاقاتهم بالمحكومين.
علَّمَنَا رسول الله ﷺ وخلفاؤه الراشدون أن السلطة ليست مغنماً، على الرغم من أنها أقصر الطرق إلى المغانم والمنافع الشخصية بغير تجارة ولا صناعة ولا زراعة، فحساب الله عليها عسير، فلابد من العدل والإحسان فى ممارسة السلطة، وموقع المال العام من الحاكم فى شرع الله كمَالِ اليتيم، وقبل مغادرة السلطة، على الحاكم أن يحرص على رد المظالم فمن جلد له ظهرا فليستقد من ظهره، ومن أخذ منه مالا فعليه أن يرده إليه، أما فى ذكر الخبر عن مرض رسول الله الذى توفى فيه فقد ورد فى تاريخ الطبرى( )، عن الفضل بن عباس، قال: جاءنى رسول الله ﷺ فخرجت إليه فوجدته موعوكاً قد عصب رأسه، فقال: «خذ بيدى يا فضل»، فأخذت بيده حتى جلس على المنبر، ثم قال: «ناد فى الناس». فاجتمعوا إليه، فقال: «أما بعد أيها الناس، فإنى أحمد إليكم الله الذى لا إله إلا هو؛ وإنه قد دنا منى حقوق من بين أظهركم، فمن كنت جلدت له ظهراً فهذا ظهرى فليستقد منه، ومن كنت شتمت له عرضاً فهذا عرضى فليستقد منه؛ ألا إن الشحناء ليست من طبعى ولا من شأنى، ألا وإن أحبكم إلى من أخذ منى حقاً إن كان له، أو حللنى فلقيت الله وأنا أطيب النفس؛ وقد أرى أن هذا غير مغن عنى حتى أقوم فيكم مراراً».
فضلاً عن ذلك أمر الله بالشورى وطبَّق الرسول الكريم وخلفاؤه الراشدون مبدأ الشورى، فلم يحدث أن أضير أحد على اختلاف رأيه مع أحد منهم، بل وزاد عليه الخلفاء الراشدون بإيضاح حق المحكومين عليهم فى النصح والأمر بالمعروف والتقويم، وليس ذلك عن أدب وتواضع بقدر ما هو عن وعى عميق بالفرق بينهم وبين الرسول المعصوم، (سورة النساء، آية 59)، (سورة النجم، آية 1ـ5)، وهذا ما جـاء من أبى بكر وعمر فى خـطاب كل منهما فى بداية الحكم( )( )( )، وفى مقابل كل ذلك من حق الحاكم أن تُطاع أوامره فى شـئون إدارة الـدولة، حفـاظاً على اسـتقامة الإدارة. هذه المبـادئ التى تقوم عليها العلاقة بين الحكام والمحكومين فى دولة الخلفاء الراشدين، هى نفسها المبادئ التى تبنى عليها العلاقة بين الحكام والمحكومين فى أفضل الدول الحديثة.
5 ـ دولة الخلافة الراشدة بمصطلحات علم السياسة الحديث
علم السياسة هو علم السلطة كيف تُكتسب وكيف تُمارس، وفى هذا الشأن أتى فى القرآن الكريم وفى السنة النبوية المشرفة وبمنتهى الوضوح الضوابط التى تحفظ لكل ذى حقٍ حقه وتضع ضوابط للحكام والمحكومين بما يحفظ سلامة الدولة من انتقاص سلطاتها وذلك حتى تستطيع أن تقوم بوظائفها، وحقوق المحكومين والحكام قِبَل بعضهما البعض وذلك حتى لا يفترى أحدهما على الآخر، وعلى الأغلب هو افتراء الحكام على المحكومين بحكم السلطة العامة التى يمارسونها على أجهزة الدولة ومرافقها، وننوه إلى أنه لم يأت فى القرآن الكريم ولا فى السنة النبوية المشرفة فى الموضوع السياسى شئٌ عن النظام السياسى (تنظيم الدولة ومرافقها)، حيث تعتبر من الأمور المسكوت عنها وتم ترك هذا الأمر لظروف كل عصرٍ وتقنياته، ولكن جاء فى دستورية القرآن الكريم القائمة على كل ما جاء فى نبأ السماء من القرآن والسنة النبوية المشرفة قطعى النص قطعى الدلالة وما تبيَّن تفصيلاً من أمورٍ تشريعية فى الشأن السياسى المأخوذة عن شخص الرسول الكريم ﷺ وخلفائه الراشدين رضوان الله عليهم أجمعين ما يكفى لتعيين ضوابط الشأن السياسى فى الدولة الإسلامية الشرعية المتسقة تمام الاتساق مع دستورية القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة.
استقر فى الفكر السياسى الحديث بدءًا من عصر التنوير (القرن السابع عشر حتى الثورة الصناعية فى القرن الثامن عشر) مجموعة من الموضوعات الهامة التى تطورت واستقرت بإطراد واكتسبت نجاحاً وقبولاً متزايداً بعد نجاح تطبيقاتها حتى أنها أصبحت جزءاً أساساً وعضوياً من الثقافة العامة الحديثة على مستوى الأفراد والجماعات واعتبرت من مبادئ كلٍّ من: حقوق الإنسان والفكر السياسى والنظم القانونية والدستورية الحديثة، حيث تشمل سيادة الدولة( ) (بودان، القرن السادس عشر، ص 209)، والعقد الاجتماعى والإرادة العامة( ) (جان جاك روسو، القرن الثامن عشر، ص 292ـ318)، والفصل بين السلطات( ) (منتسكيو، القرن الثامن عشر، ص 263ـ291)، ونظرية المنفعة( ) لجون ستيوارت ميل (ص 379)، مما أدى إلى تطور الدساتير الحديثة والنظم السياسية لتشمل المساواة وحرية إبداء الرأى، إلى آخر ما هو متعارف عليه من حقوقٍ للإنسان الطبيعى الذى خلقه الله حرًّا ولا يناقض طبائعه الشخصية، وتم تحصين هذه الحقوق فى مواجهة طغيان الدولة أو القائمين عليها بآليات المراجعة والتوازن Checks and balances المستقرة فى الدول الحديثة التى تمارس الديموقراطية وغير ذلك من العلوم والتقنيات الحديثة( )
ســــيادة الدولــة
يقول الله سبحانه وتعالى) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ) (سورة النساء، آية 59)، بمعنى أطيعوا الله، فهو مصدر للتشريع، وأطيعوا الرسول ، فهو مصدر للتشريع يوحى إليه، وأولى الأمر منكم وهذا أمرٌ لا يختلف عليه أحدٌ للحفاظ على سيادة الدولة فضلاً عن أن هناك مبدأٌ لا يختلف عليه أحدٌ فى الإدارة وهو لا سلطة بدون مسئولية ولا مسئولية بدون سلطة وقد يُبرز القائمون على الخطاب السياسى الرسمى قديماً وحديثاً فى حديثهم للعامة ما فى صالح أصحاب السلطة وهو الشق الأول من الآية الكريمة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ) ويتناسون الشق الثانى (فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) حيث ينص على شرعية الاختلاف بين الحكام والمحكومين فى الدولة الإسلامية، وأن المرجعية فى هذا الشأن ما جاء من ضوابط للعلاقة فى القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة، ولا حق لأحد طرفى العلاقة (الحكام أو المحكومين فى الخروج على ضوابطها)، وأيضاً يبرزون «لا مسئولية بدون سلطة» ويتجاهلون وجوب المحاسبة على هذه السلطة المفوضة إليهم بما يُخل بتوازن الحقوق والواجبات فى العقد الاجتماعى.
العقد الاجتماعى
نستطيع أن نلخص العقد الاجتماعى بين الحكام والمحكومين فى تطبيق الدستور الإسلامى فى الحكم والإدارة المأخوذ عن صحيح سنة الرسول الكريم وخلفائه الراشدين فى الحكم والإدارة يوم وقف رجلٌ من العامة يحاسب سيدنا عمر ابن الخطاب، «جاءت عمر برود من اليمن ففرقها بين المسلمين فخرج فى نصيب كل رجل برد واحد ونصيب عمر كنصيب واحد منهم. قيل: واعتلى عمر المنبر وعليه البرد وقد فصله قميصاً، فندب الناس للجهاد، فقال له رجل: لا سمعاً ولا طاعة. فقال عمر: ولم ذلك؟ قال الرجل لأنك استأثرت علينا؛ لقد خرج فى نصيبك من الأبراد اليمنية برد واحد، وهو لا يكفيك ثوباً، فكيف فصلته قميصاً وأنت رجل طويل؟ فالتفت عمر إلى ابنه قائلاً: أجبه يا عبد الله. فقال عبد الله: لقد ناولته من بردى فأتم قميصه منه. قال الرجل: أما الآن فالسمع والطاعة»( )( ).
هذا عمر بن الخطاب يعلمنا شريعة الله الكونية فى الحكم واتزان العلاقة بين الحكام والمحكومين، إنها السمع والطاعة الضرورية لانتظام الحكم والإدارة مقابل قبول الحاكم لمبدأ المحاسبة من الرعية على السلطة والمال العام قبولاً مطلقاً لا اعوجاج فيه وبدون قيدً أو شرط كما فعل عمر .
الشورى والمحاسبة وضرورة الفصل بين السلطات
كل ما ذكرناه عن حقوق الإنسان الطبيعية المنصوص عليها فى الآيات المحكمات والموضحة فى بند «دستورية القرآن الكريم» وكل ما جاء من سنن حاكمة فى «سنة الرسول الكريم وخلفائه الراشدين فى الحكم والإدارة» يجعل من الحكم الإسلامى الشرعى أمراً شديد الصعوبة على النفس البشرية أن تلتزم به وبآدابه ما لم تُجبر على ذلك، ولذلك لابد من إقامة نظام الدولة الإسلامية على آساس توازنات القوى فى الدولة وبناءً على أطرٍ قانونية ومؤسَّسية وآليات تحفظ حقوق المحكومين الشرعية، بحيث لا يستطيع الحاكم هو وأعوانه إلا أن يسلِّم بما هو مكتوب فى الأطر القانونية طوعاً أو كرهاً وإلا تعرض للمساءلة القانونية التى لا تفرق بين عظيمٍ وغفير، هذه الآساس تتلخص فى مبادئ ثلاثة رئيسه، هى كالآتى( ):
1ـ إقامة توازنات القوى داخل الدولة، وذلك بالفصل بين السلطات الداخلية الرئيسة فى الدولة عن بعضها البعض وعن ولاية رئيس الدولة باستقلالها إدارياً ومالياً؛ السلطات الآساس الرئيسة هى السلطة التنفيذية والسلطة القضائية والسلطة التشريعية، ونضيف فى الدول الإسلامية المؤسسة الدينية الإسلامية واستقلالها مالياً وإدارياً عن ولاية رئيس الدولة وغيره حتى تقوم بدور الولاية الأدبية وبيان الصواب من الخطأ شرعاً دون شبهة تعيين كبرائها عن طريق رئيس الدولة أو التربح من فتاواهم، ونؤكد أيضاً على ألا تكون لها أى سلطة إدارية أو مالية أو قضائية أو تشريعية فى الدولة حتى تبقى كياناً أدبياً مبجلاً «يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر».
2ـ تنظيم الدولة على آساس المراجعات والتوازنات المتبادلة بين سلطات الدولة التى جرى التأسيس لفصلها من الأساس .
3ـ كتابة نص دستورى يبين الإطار التنظيمى للدولة ومكونات كل منها واختصاصاته وأن يحترم هذا النص الدستورى الحقوق الطبيعية للإنسان وأن يؤسس بوضوح وبطريقةٍ قاطعة محاسبة رئيس الدولة على السلطات المفوضة إليه وبحيث تمارس السلطات الداخلية فى الدولة أعمالها داخل أطر وعلاقاتٍ قانونية واضحة، وعلى أن يبين هذا الدستور وبوضوح مبادئ وأطر الفصل بين السلطات وما بينها من مراجعاتٍ وتوازنات، وذلك للرجوع إلى هذا النص لفض المنازعات، مع وضع نظامٍ محكم للرقابة الدستورية على التشريعات.
هذه هى المبادئ السياسية التى يُمكن أن تملأ الفجوة السياسية فى التراث السياسى الإسلامى، تلك الفجوة التى تجعل المسلمين يستجدون حقوقهم المشروعة والمبينة فى الخلافة الراشدة من الحكام إن شاءوا منحوا وإن شاءوا منعوا كما يحدث فى غالب الأحيان.
6 ـ أحداث الفتنة الكبرى والقضاء على دولة الخلافة الراشدة
لا يُمكن أن يُطالب المحكومون بفصل الدين الإسلامى عن الدولة فهو ينص على حقوق الإنسان الطبيعية وعلى الشورى ومحاسبة الحكام على السلطة المفوضة إليهم ومن صالح المحكومين أن يلتصقوا بالدين الإسلامى للمطالبة بحقوقهم السياسية ، وننوه هنا إلى أن الحكام فى دولة الخلافة الراشدة قد أعطوا المحكومين حقوقهم ورعاً وطاعةً لله سبحانه وتعالى واقتداءً برسول الله ﷺ.
ثم زالت دولة الخلفاء الراشدين الشرعية الفاضلة وظهرت الدول الإسلامية التاريخية، التى تختلط فيها توازنات القوى مع بعض النزوع إلى الثقافة الإسلامية فى الحكم والإدارة تزيد وتنقص حسب الظروف والأمزجة .
الشرعية الدينية تعنى صياغة علاقات الحكم والإدارة على الآساسٍ التى أمر الله بها كما جاءت فى القرآن والسنة النبوية المشرفة( )، والشرعية السياسية تعنى قيام النظام السياسى بوظائفه التى هى شرطٌ لوجوده ولتفويضه السلطة( )،( ).
بهذا المفهوم نستطيع أن نقول بأن نمط العلاقات بين الحكام والمحكومين فى دولة الخلفاء الراشدين هو النمط الإسلامى الشرعى الوحيد فى كل أنماط الحكم فى الدول الإسلامية وغير الإسلامية، وقد قام نظام دولة الخلفاء الراشدين على أساس المبادرات الشخصية للرسول الكريم وخلفائه الراشدين بإعطاء المحكومين حقوقهم الشرعية تقوىً وطاعة لله سبحانه وتعالى، ولكنه نظام لم يملك مقومات الشرعية السياسية بعد اتساع الدولة من المدينة المنورة الفاضلة إلى حدودها المترامية بعد الفتوحات على عهد سيدنا عمر بن الخطاب ودخول أفواجٍ هائلة من البشر تحت رعاية الدولة مسلمين وغير مسلمين لأنه يعلِّم ويعطى المحكومين حقوقاً لا يملك الآلية لفرضها على الخارجين عليها من الحكام وأعوانهم وكانت فترة المنازعات على عهد الخليفة الراشد عثمان بن عفان ثم استفحال الأمر والتحول إلى الفتنة الكبرى أدلَّة على فشل هذا النظام السياسى فى ذلك العهد مما أفقده شرعية الاستمرار فى السلطة.
بعد الفتنة الكبرى ابتدع سيدنا معاوية بن أبى سفيان نظاماً يتلافى هذا العيب حيث أبقى على كل ما فى الإسلام من عقائد وعبادات ومعاملات عدا ما له علاقة بالحكم والإدارة ، حيث جعل العلاقة بين الحكام والمحكومين تتسم بمنع الشورى والاستبداد بالسلطة والمال العام وتوريث الحكم وعدم رد المظالم عند الوفاة أو ترك الحكم ، بل والوصول فى بعض الأحيان إلى خرق الإطار العام للمعاملات والحدود الإسلامية لإسكات المعارضين، إلى آخر ما نعلم من اختلافاتٍ مؤكدة لنمط حكمه عما جاء فى سنة الرسول الكريم وخلفائه الراشدين، باختصار لقد أبقى على كل ما فى الإسلام من عقائد وعبادات ومعاملات واقتبس من إمبراطوريات الفرس والروم أحدث ما فيها من معاملات ونظم للحكم والإدارة ، فهى النظم التى أثبتت بالتجربة نجاحاً عملياً فى ظروف عصره وبذلك أضاف أسس الشرعية السياسية إلى نظام حكمه، بل واستمر نظامه هذا نظاماً ناجحاً حيث قامت عليه دول إسلامية عظيمة من بعده تسيدت النظام العالمى طوال القرون الوسطى التى امتدت من القرن السابع الميلادى، تاريخ بدء نظامه وحتى نهاية القرن الخامس عشر الميلادى ، وبذلك نخلص إلى أن نظامه فى الحكم والإدارة وإن كان قد فقد الكثير من شرعيته الدينية الإسلامية بانحرافه المؤكد عن سنة الرسول الكريم وخلفائه الراشدين فى الحكم والإدارة وخروقاته للإطار العام للمعاملات والحدود الإسلامية إلا أنه اكتسب الشرعية السياسية فى ظروف القرون الوسطى بنجاحه فى القيام بوظائف الدولة بامتياز فى ذلك الوقت( )، وكان هذا أول فصلٍ للدين الإسلامى عن السياسة.
عن ابن خلدون، أنه ذكر ثلاثة أطوار لنظام الحكم فى الدولة، وهى( )( ):
«الأول: ملك طبيعى، ويعنى حسب تعبيره: «حمل الكافة على مقتضى الغرض والشهوة» وأساسه التغلب والقهر. هى صورة الدولة البدائية فى العلوم السياسية، حيث أن فكرة القانون لم تتجرد عن شخص الحاكم.
الثانى: ملك سياسى وهى «حمل الكافة على مقتضى النظر العقلى فى جلب المصالح الدنيوية ودفع المضار»، وفى هذه الحالة توجد قوانين سياسية ـ حسب رأيه ـ يسلم بها الكافة ويتقاضون إلى حكمها ـ ويخضعون لها كما كان الحال بالنسبة للفرس.
الثالث: الخلافة وهى «حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعى فى مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها»، وفى هذه الحالة يوجد قانون يسود على الحاكم والمحكوم».
وفى هذا الشأن نختم بالإشارة إلى تحليل ابن خلدون فى طبيعة تحول الخلافة إلى المُلك الأمر الذى يتضح من التغير فى الوازع: حيث الملك تقتضى طبيعته الانفراد واستئثار الواحد به، وغلبة الوازع الدنيوى على الوازع الدينى الذى يميز الخلافة( )( )، ثم ذكره كيف «ذهبت معانى الخلافة ولم يبق إلا إسمها وصار الأمر ملكاً بحتاً، وجرت طبيعة التغلب إلى غايتها واستعملت فى أغراضها من القهر والتقلب فى الشهوات والملذات»( )، وهذا بيانٌ للفرق بين الخلافة والملك وكيف يتم التحول إلى الأخير( ).
على الرغم من أن ابن خلدون قد رصد التحول من الخلافة إلى المُلك وذكر آثار هذا الأمر وتداعياته إلا أنه رد الأمر كله إلى غلبة الوازع الدنيوى على الوازع الدينى ووقف عاجزاً عن إعطاء أى حل سياسى لرد الدولة الإسلامية وذلك فى ظل قصور العلم المحدود عن الظاهرة السياسية فى القرون الوسطى ، وقد قدمنا الحل السياسى فيما ذكرناه فى البند السابق بما لدينا من حلولٍ أتاحها لنا التقدم فى العلم الإنسانى الحديث عن الظاهرة السياسية ، ولكن يظل علينا أن نتابع كيف يُمكن أن يتقبل الفقه الإسلامى إعطاء لقب «السنة» لنظام الدولة الأموية ودولة الخلافة الراشدة معاً على الرغم من كل التناقضات المرصودة بينهما ، فهل يُمكن أن نجد حلاً فى علم أصول الفقه لهذه المعضلة.
7ـ الفقه السنى بين الحكم بالغلبة والحكم الرشيد
اليوم، فى القرن الواحد والعشرين يرث المسلمون المذاهب الرئيسة التالية( ):
1ـ مذاهب سياسية مثل السنة والشيعة والخوارج
2ـ مذاهب اعتقادية مثل الأشاعرة والماتريدية والمعتزلة والوهابية
3ـ مذاهب فقهية مثل الفقه السنى والشيعى والإباضى
وعلى هذا المنوال أعلن الشيخ على جمعة فى جريدة الأهرام المصرية( ): «إن الأزهر الشريف قد اعترف بالمذاهب الفقهية الثمانية التى يقلدها المسلمون فى العالم فى عصرنا الحاضر وهى الأربعة السنية (الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة) وإثنان من الشيعة (وهما الجعفرية والزيدية) وإثنان من خارج ذلك (و هما الإباضية والظاهرية) وهذه المذاهب الثمانية هى التى تكون الموسوعة الفقهية التى بدأت فى سنة 1960 بالمجلس الأعلى للشئون الإسلامية والتى وضع برنامجها العلامة المرحوم محمد فرج السنهورى ومعه آخرون من كبار رجال الفقه فى مصر وكان قبل ذلك قد أصدر الإمام الأكبر الشيخ محمود شلتوت قراراً باعتماد المذهب الجعفري واعتماد الأخذ منه عند أهل السنة».
والسؤال هنا هل المقصود بالمذهب السنى السياسى المذكور فى الفقه المتداول هنا هو سنة الرسول الكريم فى الحكم والإدارة أم أن المقصود به نمط الحكم وعلاقات السلطة بين الحكام والمحكومين فى الدولة الأموية التى أنشأها سيدنا معاوية بن أبى سفيان بن حرب بعد دولة الخلافة الراشدة.
لبيان ذلك نذكر مثالاً لما هو متداول إعلامياً عن تصور الفقهاء لما هو سنىٌّ فى الحكم والإدارة:
ففي مقالٍ سابق( ) تم بحث مثالٍ كُتب فى جريدة الأهرام القاهرية فى عدد الجمعة يوم 2 يونيو 2006م فى صفحة الفكر الدينى (ص 40) تحت عنوان «طاعة الحاكم تتوقف بالكفر البواح» والعنوان يعبِّر عما بداخل المقالة، وجاء بندٌ كاملٌ فى المقالة لتعريف حالة الكفر البواح المقصودة بالمقالة هذا نصه «ويؤكد أن إجماع العلماء على طاعة الإمام الجائر الظالم تتوقف عند درجة وصوله لمرحلةٍ تُسمى «بالكفر البواح» أى الكفر الظاهر الجلى الذى لا يحتمل التأويل ولو كان التأويل ضعيفاً. وهذا الكفر لا يتفق مع كون الحاكم ينطق بالشهادتين أو يسمح بإقامة فرائض الإسلام وشعائره على أرضه، ويتحقق إذا أمر الحاكم بمنع إقامة هذه الشعائر أو حارب من يقيمها أو قاتله، ومثال ذلك أن يأمر بمنع الصلاة والخروج للحج أو بأى من الأمور التى يُجمع العلماء أنها كفر، وهو ما عبر عنه الرسول ﷺ بقوله «إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان».
وقد استند الكاتب فى مقاله هذا على نصف آيةٍ من القرآن الكريم وهى) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ) ثم استطرد فى مكانٍ آخر من المقال؛ وفى السنة ما رواه عبادة بن الصامت «بايعنا رسول الله ﷺ على السمع والطاعة فى منشطنا ومكرهنا» أى طاعة الحكام إذا رأينا منهم ما نحب أو ما نكره، إلى آخر ما كتب».
وعلى قدر ما يعلم مؤلف هذه المقالة فإن الدول التى تتبع المذهب السنى قديماً وحديثاً بدءاً من الدولة الأموية ومروراً بالدولة العباسية والدولة العثمانية وحتى الدول السُّنية الحديثة وفى جميع صورها سواءٌ كان الحاكم منها «أمير، ولى أمر، سلطان، خليفة، ملك، رئيس جمهورية»، لم ينكر أحد منهم شرعية مبادئ الخلافة الراشدة ولكن الفقهاء أعطوا الحكام بدرجاتهم المختلفة بدءاً من أمراء المماليك حتى الخلفاء الذين حكموا الدولة الإسلامية الموحدة مثل الدولة الأموية والعباسية والعثمانية حقوقاً شرعيةً بالحكم بالغلبة.
وبمراجعة الأسانيد التى بنى عليها الفقهاء أحكامهم نستطيع أن نقول إن التطبيق السليم لأصول الفقه يقتضى عدم التجزئة بالأخذ ببعض الكتاب وإغفال بعضه الآخر ، حيث أغفل الكاتب ذكر باقى الآية الكريمة وهو ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ) (سورة النساء، آية 59)، حيث تعنى أطيعوا الله، فهو مصدر للتشريع، وأطيعوا الرسول، فهو مصدر للتشريع لأنه يوحى إليه، وهذا أدعى إلى أن نتبع سنة الرسول الكريم فى الحكم والإدارة والتى هى نفسها ما اتبع الخلفاءُ الراشدون فى الحكم والإدارة.
جاء فى المقال ما يفيد بأن طاعة الحاكم واجبةٌ حتى لو ظلم ولا تتوقف إلا بالكفر البواح، وهذا الحديث متواتر لدى «أصحاب المذهب السنى»، فما هى حدود هذا التجاوز (أو هذا الظلم)، بالمقابل نذكر حديث رسول الله ﷺ فى عدم الشفاعة فى إقامة الحدود بقوله صلى الله عليه وسلم لأسامة بن زيد عندما جاءه يشفع فى إمرأة مخزومية تستعير المتاع وتجحده﴿ ) «يا أسامة ، لا أراك تشفع فى حد من حدود الله عز وجل»، ثم قام النبى ﷺ خطيباً، فقال:
«إنما هلك من كان قبلكم بأنه إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، والذى نفسى بيده، لو كانت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها»، وهذا يعنى أن الصبر على ظلم الحكام يكون المقصود منه هو السمع والطاعة فى حدود السلطة الإدارية وليس تجاوز حدود الله فالحاكم الذى يقتل أو يسرق المال العام أو ينتهك حقوق الإنسان يُقام عليه الحد شأنه فى ذلك شأن أى إنسانٍ آخر، فهذه جرائم يمقتها الله ورسوله ولا يمارسها إلا المتشبهون بالفراعنة.
لقد تعرض الإمام أبو حنيفة النعمان للضرب والسجن على يد والى بنى أمية «إبن هبيرة» لرفضه تولى القضاء( )، كما تعرض الإمام أحمد بن حنبل للضرب والجلد والتعذيب لخلافه مع المأمون ومن بعده المعتصم فى موضوع الرأى فى خلق القرآن( )، فما هو سقف ما كان مسموحاً به لهؤلاء الأئمة حقيقةً فى موضوع الاختلاف مع الحكام وخاصةً إذا تعلق الأمر بما يحدُّ من حريتهم فى التمتع بالسلطة المطلقة والسيطرة على العقول والنفوس والمال العام.
إن المُلك والخلافة الراشدة لا يجتمعان تحت نفس الإسم «السنة», وليقرأ من يريد مؤلفات ابن خلدون إذا كان لا يعترف بالعلوم السياسية الحديثة.
فالرسول ﷺ وحده من دون البشر جميعاً قد أعطاه الله سبحانه وتعالى بيان التشريع الإسلامى لأنه معصومٌ من الخطأ ولأنه يوحى إليه (سورة النساء، آية 59)، (سورة النجم، آية 1ـ5)، لأن هذه العصمة ضرورية طالما له حق التشريع، حيث تقوم السنة بدورها المكمل لما جاء فى القرآن الكريم فى تفصيل مُجمله، وتقييد مُطلقه، وتخصيص عامه، وهذا كله قد تم ذكره فى صدر بند 3 من هذه المقالة.
وللعلم هناك احتمال أن يكون سيدنا معاوية قد فعلها ولم يكن فى ذهنه أن يقتدى به أحد، فقط فعلها لنفسه أو لأسباب وضرورات اقتضاها الحكم فى ظروف القرون الوسطى، أما أن يتذرع الحكام المسلمون من بعده هُم وفقهاؤهم بالرجل كى يفلتوا من عقاب الله على نبذهم سنة الرسول الكريم فى الحكم والإدارة وخرق حدود الله بارتكاب جرائم انتهاك حقوق الإنسان فهذه مسئوليتهم ، وليتركوا سيدنا معاوية فى حاله ولا يحملوه أوزارهم.
الحكم بالغلبة وشرعية أعمال جماعات العنف المسلح
بقليلٍ من التدقيق يتبين أن الحاكم الذى وصل إلى الحكم بالغلبة كان من قبل وصوله إلى الحكم شاهراً سلاحه أو متآمراً على الحاكم الذى سبقه، وبالتالى كانت أعماله غير شرعية طالما لم يقهر الجالس فى مقعد الحكم، فإن غلبه أخذ الشرعية وعلى المسلمين أن يعينوه ويطيعوه طاعةً مطلقة ولا يخرجوا عليه أبداً، إذن وبهذا المنطق فإن جماعات العنف المسلح ليست إلا مشروعات حكام فى عرف هؤلاء الفقهاء المحترمين، وكأننا نعيش فى القرون الوسطى وأعرافها.
8ـ مستقبل الإسلام فى عصر العولمة
فى يوم الثلاثاء 28 من صفر 1427هـ، 28 مارس 2006م، السنة 130 العدد 43576، وفى صفحة العالم، نشرت جريدة الأهرام القاهرية الخبر التالى( ):
«أعلن رئيس الوزراء البريطاني توني بلير أمس ان التطرف الإسلامي ليس لحظة غضب عابرة وإنما أيديولوجية عالمية تتصارع مع القيم الغربية, ودعا إلي تحالف دولي لحماية هذه القيم المتمثلة في النزاهة, والعدالة والحرية.
وأكد بلير ـ في كلمة ألقاها بالبرلمان الاسترالي ـ أن ما وصفه بالمشاعر المجنونة المعادية لأمريكا تهدد الديمقراطية في العالم بأسره.
وشدد على أن التطرف الإسلامي يعتبر أكبر تهديد للقيم الغربية وهو ما يستوجب مواجهته ليس فقط في البلدان الأوروبية وإنما في العالم أجمع وقال إن هذه المواجهة تأتي لنصرة الأمن والرخاء ، ودافع رئيس الوزراء البريطاني بحماسة شديدة عن الولايات المتحدة, وأوضح أن دورها رئيسي في المواجهة مع التطرف الاسلامي.
وفيما يتصل بالحرب في العراق وأفغانستان أكد بلير أن البلدين يخوضان معركتين حاسمتين لإعلاء المبادئ التي يؤمن بها الغرب وحذر من مخاطر الانسحاب الأمريكي واعترف بأن الحرب أحدثت انقسامات داخل استراليا وبريطانيا لكنه شدد على ضرورة مواصلة قتال العناصر الرجعية التي احتشدت لقتال الغرب»( ).
هذا ما يعلنه رئيس وزراء بريطانيا صراحةً، فهل يواجههم المسلمون بفكر سياسى ينتمى إلى القرون الوسطى فينهزم الإسلام فى بلاد المسلمين لأن بعض الفقهاء والحكام لا ينظرون إلا لمصالحهم الضيقة قصيرة النظر فيتسببون فى إذلال الأجيال القادمة من الأبناء والأحفاد على المدى الطويل نتيجةً لتثبيت نظم حكم وإدارة متخلفة، ينخر فيها الفساد والاستبداد، وبالتالى لن تقدر على مواجهة الغرب المتحضر بنظمه السياسية والإدارية الراقية، حيث يُحاسَب كل إنسان على السلطة المفوضة إليه ، ويحاسب كل من ينتهك حقوق الإنسان أشد الحساب، ويعاقب فلا يرتكب هذه الجرائم ، بينما يكتسب الإسلام سوء السمعة لأن هناك من يتحدث بإسمه وينسب إليه أعراف الاستبداد والظلم، بل إن هذا يتسبب فى إعطاء جهلاءٍ من الغربيين ممن لا يعرفون قدر رسول الله ﷺ المبرِّر للإساءة إلى شخصه والتهجم عليه على نحو ما يتواتر فى أجهزة الإعلام عن الرسوم الدانيماركية والأفلام الهولندية.
9 ـ الخلاصة
خلق الله الإنسان وكرمه وأسكنه الجنة وأمره ألا يقرب شجرةً معينة ، إلا أن آدم عليه السلام نسى فأكل منها هو وزوجه، والمغزى العام لهذه الواقعة هى أن آدم غير مؤهلٍ بحالته تلك لأن يسلك سلوك أهل الجنة وأن يعيش بين مخلوقات الله المقربة فى ملكوته الأعلى، فأرسله الله إلى الأرض رحلةً محسوبة إلى أجلٍ معين يتزكى فيها الصالحون من بنى آدم ليعودوا بعدها إلى الجنة لا يسمعون فيها لغواً ولا تأثيماً، ووعد الله آدم وذريته أن يرسل إليهم هدياً يرشدهم إلى طريق شريعته الكونية، وكان هذا ما يحمله الأنبياء والرسل حتى جاءت الرسالة الإسلامية الخاتمة، وجاء هدى الله للبشر مفصلاً فى موضوعاتٍ ثلاثة؛ هى العقيدة والعبادات والشريعة.
أما العقيدة فهى أخبار الغيب، ولا يُمكن أن يُدرك ُكنهها بشرٌ دون إخبارٍ من خالق الكون سبحانه، أما العبادات فهى صلاةٌ بين العبد وربه، عنواناً للتعارف والانتماء والطاعة لأوامره ونواهيه، وتبقى الشريعة وطاعة الله فيها عنواناً لما وقر فى القلب وصدقه العمل، وهى رأس الأمر كله فى التزكية لملكوت الله الأعلى ولا يصل إلى الصدق فيها إلا من أحب الله ورسوله.
ويقع فى قلب الشريعة علاقات السلطة والثروة وهى الموضوع الرئيس فى تشريعات الحكم والإدارة، وبغير احترام أوامر الله ونواهيه فيهم لا تستقيم باقى أمور الشريعة، تبقى مبادئ الشريعة واحدة لا تتغير بالزمان ولا المكان ولكن تطبيقاتها هى التى تتغير.
يتكون القرآن الكريم من أياتٍ محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات، والسنة النبوية المشرفة موحى بها من الله سبحانه وتعالى إلى رسوله لبيان ما جاء فى القرآن الكريم بغرض تفصيل مُجمله وتقييد مُطلقه وتخصيص عامه ، وهذا يستوجب البحث عما هو قطعى النص قطعى الدلالة من القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة ليكون دستوراً إسلاميا مأخوذاً عن نبأ السماء وحده.
الإطار العام للمعاملات الإسلامية أساساته هى العدل والرحمة والإحسان وتأدية الأمانات إلى أهلها، أما آداب التقاضى وواجباته فهى القسط فى الشهادة ، وعدم كتمانها، وتحريم قول الزور، أما فى القصاص فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به.
العلاقة الإسلامية الشرعية بين الحكام والمحكومين مبادئها هى:
• العدل والمساواة والرحمة.
• الشورى .
• التعفف عن التمتع بأبهة السلطة أو اكتساب النفوذ الاجتماعي أو التربح منها.
• السلطة أمانة لا تُستخدم لغير الغرض التى فُوضت من أجله والاعتراف للرعية بحقها فى محاسبة الحاكم ومراجعته على السلطة العامة وعلى المال العام ، وهذا واضحٌ من خطبتى استهلال الحكم من أبى بكرٍ وعمر وغيرها من الأوامر المأخوذة عن سنة الرسول الكريم وصدقتها سيرة خلفائه الراشدين فى الحكم والإدارة.
• و أخيراً رد المظالم قبل مغادرة مقعد السلطة بالوفاة أو بغير ذلك ، وهذا واضحٌ من ذكر الخبر عن مرض رسول الله الذى توفى فيه ، وكذلك فعل خلفاؤه الراشدون.
ونلاحظ أن أساسات الإطار العام للمعاملات الإسلامية وكذلك أساسات ومبادئ العلاقة الإسلامية الشرعية بين الحكام والمحكومين ، قد جاءت كلها فى آياتٍ محكمات هن أم الكتاب، وتجاهل أى مبدأٍ منها أو الالتفاف عليه يعتبر إهداراً لدستورية القرآن الكريم، أما تفصيلات العلاقة من العفة عن المال العام وتحريم الاستفادة من أبهة السلطة بأى شكلٍ من الأشكال فضلاً عن رد المظالم عند الوفاة أو ترك المنصب فقد جاء بيانها كلها فى سنة محكمة لا مجال لإنكار صحة أى منها.
هذه المبادئ قد جاءت كلها فى آيات محكمات وتشكل فى مجموعها تقريراً من الله سبحانه وتعالى للحقوق الطبيعية للبشر، واحترمها وفصلها الرسول الكريم فى سنته فى الحكم والإدارة وهى نفس ما اتبع الخلفاء الراشدون، ومن الناحية التشريعية، يسمو القرآن الكريم فى تقريره لهذه الحقوق الطبيعية على أى دستورٍ يكتبه البشر، وعليهم عند كتابة دساتيرهم البشرية أن يراعوا هذه الحقوق الطبيعية ولا يلتف أحدٌ عليها. ودستورية القرآن الكريم تعنى تطبيق الشريعة الإسلامية وإقامة أحكامها وحدودها على الحكام وأعوانهم قبل إقامتها على المحكومين كما علمنا الرسول ﷺ وكما اتبع الخلفاء الراشدون .
وبذلك يُمكن تلخيص دستورية القرآن الكريم فى نقطتين رئيستين:
1. تقرير الحقوق الطبيعية للبشر ، وهى فى هذا الشأن تسبق وتسمو على الدساتير التى يكتبها البشر
2. الأمر بدستورية الدولة (بمعنى تطبيق القواعد التشريعية والقانونية العامة وأحكامهم بالتساوى على الحكام تماماً كما تطبق على المحكومين) .
وننوه هنا إلى أنه بالنظر إلى «الإعلان العالمي لحقوق الإنسان» الذى اعتُمد ونشر على الملأ بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 217 ألف (د ـ 3) المؤرخ في 10 كانون الأول/ديسمبر 1948 [11]، نجد أن الحقوق الطبيعية التى أمر الله بها فى قرآنه الكريم للملأ كافةً تسبق كل هذه الحقوق وتشملها .
وننوه أيضاً أن الحقوق السياسية التى نص عليها الإعلان العالمى لحقوق الإنسان، وتحديداً المواد أرقام 18 ، 19 ، 20 ، 21 كلها مكفولة وبمنتهى الحسم فى الآيات المحكمات فى القرآن الكريم، ومنها الآيتان المحكمتان المبينتان لحق الشورى (سورة آل عمران، آية 159) و(سورة الشورى ، آية 38 ) .
دولة الخلافة الراشدة بمصطلحات علم السياسة الحديث
لم يأت فى القرآن الكريم ولا فى السنة النبوية المشرفة فى الموضوع السياسى شئٌ عن النظام السياسى (تنظيم الدولة ومرافقها)، وتم ترك هذا الأمر لظروف كل عصرٍ وتقنياته ولكن جاء فى دستورية القرآن الكريم القائمة على كل ما جاء فى نبأ السماء من القرآن والسنة النبوية المشرفة قطعى النص قطعى الدلالة وما تبين تفصيلاً من أمورٍ تشريعية فى الشأن السياسى المأخوذة عن شخص الرسول الكريم وخلفائه الراشدين رضوان الله عليهم أجمعين ما يكفى لتعيين ضوابط الشأن السياسى فى الدولة الإسلامية الشرعية المتسقة تمام الاتساق مع دستورية القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة.
المبدأ العام فى دولة الخلافة الراشدة هو: لا سلطة بدون مسئولية ولا مسئولية بدون سلطة.
العقد الاجتماعى: السمع والطاعة الضرورية لانتظام الحكم والإدارة مقابل قبول الحاكم لمبدأ المحاسبة من الرعية على السلطة والمال العام قبولاً مطلقاً لا اعوجاج فيه وبدون قيدً أو شرط كما فعل عمر يوم حاسبه رجلٌ من العامة فى المسجد على طول ثوبه.
الفصل بين السلطات
كل ما ذكرناه عن حقوق الإنسان الطبيعية المنصوص عليها فى الآيات المحكمات والموضحة فى بند «دستورية القرآن الكريم» وكل ما جاء من سنن حاكمة فى «سنة الرسول الكريم وخلفائه الراشدين فى الحكم والإدارة» يجعل من الحكم الإسلامى الشرعى أمراً شديد الصعوبة على النفس البشرية أن تلتزم به وبآدابه ما لم تُجبر على ذلك، ولذلك لابد من إقامة نظام الدولة الإسلامية على آساس توازنات القوى فى الدولة وبناءً على أطرٍ قانونية ومؤسسية وآليات تحفظ حقوق المحكومين الشرعية، بحيث لا يستطيع الحاكم هو وأعوانه إلا أن يسلم بما هو مكتوب فى الأطر القانونية طوعاً أو كرهاً وإلا تعرض للمساءلة القانونية التى لا تفرق بين عظيمٍ وغفير ، هذه الأسس تتلخص فى مبادئ ثلاثة رئيسه، هى كالآتى:
1ـ إقامة توازنات القوى داخل الدولة ، وذلك بالفصل بين السلطات الداخلية الرئيسة فى الدولة عن بعضها البعض وعن ولاية رئيس الدولة باستقلالها إدارياً ومالياً؛ السلطات الآساس الرئيسة هى السلطة التنفيذية والسلطة القضائية والسلطة التشريعية، ونضيف فى الدول الإسلامية المؤسسة الدينية الإسلامية واستقلالها ماليا وإداريا عن ولاية رئيس الدولة وغيره حتى تقوم بدور الولاية الأدبية وبيان الصواب من الخطأ شرعاً دون شبهة تعيين كبرائها عن طريق رئيس الدولة أو التربح من فتاواهم، ونؤكد أيضاً على ألا تكون لها أى سلطة إدارية أو مالية أو قضائية أو تشريعية فى الدولة حتى تبقى كياناً أدبياً مبجلاً «يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر».
2ـ تنظيم الدولة على آساس المراجعات والتوازنات المتبادلة بين سلطات الدولة التى جرى التأسيس لفصلها من الأساس .
3ـ كتابة نص دستورى يبين الإطار التنظيمى للدولة ومكونات كل منها واختصاصاته وأن يحترم هذا النص الدستورى الحقوق الطبيعية للإنسان وأن يؤسس بوضوحٍ وبطريقةٍ قاطعة محاسبة رئيس الدولة على السلطات المفوضة إليه وبحيث تمارس السلطات الداخلية فى الدولة أعمالها داخل أطر وعلاقاتٍ قانونية واضحة، وعلى أن يبين هذا الدستور وبوضوح مبادئ وأطر الفصل بين السلطات وما بينها من مراجعاتٍ وتوازنات، وذلك للرجوع إلى هذا النص لفض المنازعات، مع وضع نظامٍ محكم للرقابة الدستورية على التشريعات.
هذه هى المبادئ السياسية التى يُمكن أن تملأ الفجوة السياسية فى التراث السياسى الإسلامى، تلك الفجوة التى تجعل المسلمين يستجدون حقوقهم المشروعة والمبينة فى الخلافة الراشدة من الحكام إن شاءوا منحوا وإن شاءوا منعوا كما يحدث فى غالب الأحيان.
فى القرن السابع الميلادى كانت هناك فجوة حضارية بين واقع القرون الوسطى وذلك النور الإلهى المتمثل فى سنة الرسول الكريم وخلفائه الراشدين فى الحكم والإدارة، ولذلك كان سقوط دولة الخلافة الراشدة الراقية المتحضرة حتمياً ليحل محلها دولة تتوافق مع أعراف وثقافة أبناء القرون الوسطى.
والتراث السياسى الإسلامى الموروث عن أبناء القرون الوسطى للحكم فى البلاد الإسلامية وذلك من بعد أحداث الفتنة الكبرى وحتى اليوم تختلط فيه كل الأحكام الإسلامية الصحيحة بما فيها أحكام العلاقة بين الحكام والمحكومين كما بينها الرسول الكريم وخلفاؤه الراشدون من جانب، والأحكام التى تستجيب لواقع مأساة المسلمين وتقبل «شرعية الحكم بالغلبة وتحرِّم رد مظالم الحكام بيد المحكومين الذين ظُلِموا» من جانب آخر، وتقديم الإثنين مختلطين تحت إسم «المذهب السنى السياسى» يمثل تحدياً بالغاً يحتاج إلى جهدٍ علمىٍّ للفصل بينهما، فعلى مدى أربعة عشر قرناً ومنذ أحداث الفتنة الكبرى وهذا الخلط قائم، تختلط فيه أحكام القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة مع أحكام الواقع السياسى الذى فرضه واقع القرون الوسطى بمعطياته الاجتماعية والسياسية والفيزيقية وواقع الممارسات المفروضة على المسلمين من جانب الحكام الذين أتوا السلطة بالغلبة وفرضوا سطوتهم على المحكومين والفقهاء والأئمة ، كل هذا يختلط تحت إسم «المذهب السياسى السنى»، ومن طول العهد اعتاد الناس على تداول هذا الخليط وأصبح بيان عدم تجانسه معضلةً علميةً ومنطقيةً معقدة، بل ويُذهب بريق وجدوى الدعوة إلى بعث دولة الخلافة الراشدة الحديثة ويضع شبهاتٍ فقهيةٍ عليها ويخلط هويتها السياسية بين الخلافة الراشدة والنمط الأموى فى الحكم والإدارة.
وإنى أذكر كل من يتكبر ويطغى ويرفض من حيث المبدأ أن يُحاسب على السلطة المفوضة إليه ويعتدى على الحقوق الطبيعية التى قررها الله سبحانه وتعالى للبشر أجمعين وكل من يتكبر ويرفض التسليم لمن هم تحت السلطة بحقوقهم يقول الله تعالى فى مشهد يوم القيامة: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا يَتَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُم أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (41) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43) فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45)} (سورة القلم، آية 34ـ45)