دستورية القرآن الكريم وعلم أصول الفقه الإسلامي

في موضوع التراث والمعاصرة (في أصول التشريع الإسلامي)

دستورية القرآن الكريم وعلم أصول الفقه الإسلامي

دكتور/ بهاء الدين محمود محمد منصور

مجلة مركز صالح كامل للاقتصاد الإسلامى ، جامعة الأزهر ، السنة الرابعة عشر – العدد الثانى و الأربعين ، 1431 هجرية – 2010 م

1ـ مقدمة
ليس في الإسلام كهانة ولا كهنوت ولا إمامة ولا مذاهب مستقلة تشرع بما لم يأت به الله ورسوله، وفى ذلك يقول الله سبحانه وتعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ) (النساء/59)، أطراف هذه الآية الكريمة أربعة هم الله، والرسول، وأولوا الأمر والمسلمون، وإذا كان الشق الثاني من الآية يتحدث عن تنازع يُرد الأمر فيه إلى الله والرسول، فإن هذا يعنى أن التنازع هنا هو بين أولى الأمر والمسلمين، وأن المرجعية في من هو على الحق ومن انحرف عنه هو رد الأمر إلى الله ورسوله، وبمنتهى الوضوح أطيعوا الله، فهو مصدر للتشريع، وأطيعوا الرسول، فهو مصدر للتشريع يوحى إليه، ويكمل هذا المفهوم أنه معصوم من الخطأ (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5)) (النجم/1ـ5)، فالسنة النبوية المشرفة ليست إلا وحياً من الله سبحانه وتعالى إلى رسوله الكريم لتفصيل ما جاء فى القرآن الكريم وتقييد مطلقه ولبيان مُحكمه.
في حضور الرسول الكريم صلى الله عليه و سلم ، كان المسلمون يسألونه في كل ما يخص الرسالة السماوية فيأتي الرد من السماء بوساطته إما بآيات من القرآن الكريم لكى تأخذ قوة فيما يخص موضوعات الإسلام أو يكون الرد بقولٍ من الرسول الكريم أو عملٍ يؤخذ عنه وهما المكونان الأساسان للسنة النبوية المشرفة الموحى بها من الله سبحانه وتعالى وذلك لكمال التشريع ببيان التفصيل وتقييد المطلق وبيان المُحكم؛ ومن الثابت أن موضوعات الرسالة السماوية تتناول «العقيدة والشريعة والعبادات»، حيث تحتوى العقيدة (على أنباء الغيب وكلها خارج العلم الذى أساسه الحواس الخمس)، والعبادات (وهى كيف يتقرب المسلم من ربه وتنطوي بدرجة كبيرة على الكثير من الغيبيات وأقصى ما نطمح إليه أن ندرك المغزى منها)، وأخيراً الشريعة (وهى مجموعة من القواعد العامة المجرَّدة تنظم السلوك الاجتماعي للفرد وللمجتمع).

جاءت الرسالة السماوية مقسمةً إلى قسمين رئيسين، وهذا حسب ما جاء فى القرآن الكريم نفسه (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ ) [آل عمران/7]، وبالتالي فإن الآيات المحكمات تنبع منها المبادئ والأحكام الأساسية فى الدين الإسلامي عقيدةٌ وشريعة وعبادات، هذا بينما تشير الآيات المتشابهات لما يُمكن أن يختلف فيه الناس باختلاف الزمان والمكان والعلوم والمفاهيم والتفاصيل التطبيقية، وقد اجتهد المسلمون من بعد انتقال الرسول الكريم محمد صلى الله عليه و سلم إلى يومنا هذا بحثاً عن صحيح مقاصد الرسالة السماوية وصحيح تطبيق أحكامها واختلفوا في ذلك بحسن نية وحيدةٍ علمية وأحياناً للحصول على منافع دنيويةٍ مُغرضة.

في القرن الهجري الثاني وفى ظروف اتساع حركة التفسير وجمع الأحاديث وظهور المذاهب الفقهية الرئيسة ظهرت الحاجة إلى وضع ضوابط استنباط هذا الفقه من أصول الرسالة السماوية الإسلامية وهما بالتحديد «القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة».
أما صحيح العقيدة في ماهية الله سبحانه وتعالى وصفاته فهما من أمور الغيب وأساسهما من نبأ السماء ولا يُمكن الوصول لأبعد مما جاء في نبأ السماء بأي وسيلةٍ علمية، وإن كانت الأدلة العلمية (بمعايير العلم الذى أساسه الحواس الخمس) على وجود الله وصفاته محل تطور وهذا وعدٌ من الله سبحانه وتعالى في الآية الكريمة (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [فصلت/53]، وكذلك العبادات فهى لقاءٌ بين العبد وربه فنبأها مصدره المباشر هو القرآن الكريم أو السنة النبوية المشرفة ولا يوجد مجالٌ كبيرٌ للاجتهاد في الأمر إلا أن تكون هناك مشقةٌ تعوق التنفيذ وبالتالي لابد من الاجتهاد للتخفيف بغرض الالتزام بالعبادة وأحكامها دون الاضطرار إلى تعطيلها وهى مبادئ شرَّعها الله سبحانه وتعالى فى أحكام الصلاة والصوم والحج وعلى نهجها يسير الفقهاء.

القاعدة التشريعية (أو القانونية): هي قاعدة عامة مجردة تنظم السلوك الاجتماعي، وبالتالي لابد من توفر الشروط الثلاثة الآساس لجدواها؛ وهى القابلية للتطبيق وإلا لن تنجح في تنظيم شيء، وتحقيق المنفعة للبشر حتى يبحثوا عن تطبيقها بدلاً من أن يبحثوا عن سُبُل التحايل عليها، وكذلك من المطلوب أن تتصف بتوافقها مع الثقافة السائدة حتى يتفهم الناس التطبيق والهدف من التشريع.
وهكذا فإن فقه المعاملات الشرعية الإسلامية يختلف عن فقه العقيدة والعبادات لأنه يجب أن يلتصق بالواقع ويتطور معه حتى يتوفر له القابلية للتطبيق وتحقيق المنفعة والتوافق مع الثقافة السائدة، ومن هنا اشتدت الحاجة إلى وضع الضوابط حتى لا يخرج استنباط الفقه عن ثوابت ومقاصد التشريع الإسلامي كما جاءت في الرسالة السماوية المكونة من القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة وقد تم تسمية هذه الضوابط الخاصة بوضع قواعد استنباط الفقه الإسلامي الصحيح باسم «علم أصول الفقه» ليضع قواعد ضابطة وحاكمة للاستنباط والفهم عن الله تعالى في كل شعبةٍ من شعب الدين شاملةً «العقيدة والشريعة والعبادات»، وكان أول من تصدى إلى وضع هذه الضوابط هو الإمام الشافعي رضى الله عنه في القرن الثاني الهجري في مؤلفه العظيم «الرسالة»، حيث بين الإمام الشافعي أن مصادر التشريع أربعة بالترتيب الآتي: القرآن الكريم، السنة النبوية المشرفة، الإجماع، ثم الاجتهاد( )، وهكذا نتبين أن «صحيح الفقه» هو من محتوى الرسالة السماوية «القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة» أما «علم أصول الفقه» فهو من أعمال البشر واجتهاداتهم سعياً إلى حسن إدراك محتوى الرسالة السماوية.
على الرغم من مرور اثنى عشر قرناً على تأليف «الرسالة»، إلا أن مصادر التشريع الأربعة لم يطرأ عليها أي تغيير، ويحظى الاجتهاد بالاهتمام الأكبر من الباحثين في هذا العلم لوضع مناهجه وضوابطه، وهذا الاجتهاد لم يخرج في أغلبه عن القياس على الأشباه والأمثال ووضع ضوابط وقواعد لكيفية الاختيار والترجيح والتفضيل بينها للأخذ بالأكثر قرباً والأقوى سنداً مما سبق من الأحكام.
على مدى القرون الاثني عشر منذ نشأة هذا العلم، وفي العصر الحديث نشأ تطورٌ كبير في النظم التشريعية وفي علوم المنطق ومناهج البحث في العلوم الاجتماعية، وفي هذا الإطار تم إثبات «دستورية القرآن الكريم»( ) (بطبيعة تكوينه وبيانه لإطارٍ مُحكم من المبادئ التشريعية) وبيان موقع كل ذلك من الدساتير الوضعية التي تهيمن على القوانين والتشريعات في الدول الحديثة، حيث يدخل القرآن الكريم في صلب تشريع الدولة الإسلامية الحديثة سابقاً للدساتير الوضعية باعتباره التشريع الإلهي للحقوق الطبيعية للإنسان من حيث هو إنسان( )، ولكى يكتمل العمل نتقدم بهذا البحث لبيان موقع «دستورية القرآن الكريم» من «علم أصول الفقه» حتى لا يأتي الفقهاء بأحكام تتناقض مع آثار دستورية القرآن الكريم على النظام التشريعي في الدولة وخاصةً في أكثر التشريعات تأثيراً على المجتمع ومصالح العباد وهي تلك التي تشرع للسلطة كيف تُكتَسَب وكيف يتم المحاسبة عليها، فضلاً عن بيان الإطار الدستوري العام للتشريع الإسلامي ومقاصده، مما يجعل الفقه ينتقل من رد الفعل بالإباحة والتحريم لما يُسأل عنه إلى الإيجابية ببيان أن للإسلام مشروعاً حضارياً واضحاً له ثوابته بينما تستمر تطبيقاته في كل زمانٍ ومكان.
في البند التالي «النظام التشريعي الحديث» يتم عرض عناصر النظام التشريعي الحديث الذى ينبني أساسه على «وثيقة الدستور» التي أصبحت لا غنى عنها فى الدولة مع بيان الشروط الواجب توفرها في هذه الوثيقة «الدستور» حتى تقوم بدورها كإطار جامع مانع مُحكم للتشريع حتى تتسق التشريعات في الدولة، على أن يراعى الدستور من البداية القيم والمقاصد النهائية لتنظيم السلوك الاجتماعي (ثقافة المجتمع) مراعيةً الحاجات الطبعية البشرية إلى «الأمن والرفاهية»، ثم مبدأ سمو الدساتير وتدرج القوانين، مع بيان دور الرقابة الدستورية على التشريعات في الدولة حيث لا يُسمح بخرق مادة واحدة من مواد الدستور وإلا تم خرق الإطار التشريعي كله وأصبح بلا جدوى.

في البند الثالث يتم عرض عناصر «علم أصول الفقه»، وكيف نشأ هذا العلم ولأى غرض وما الأطوار التي سار عليها وما هي صلته بالعلوم الأخرى (فهو علم بشرى)، والهدف من ذلك هو بيان النظام التشريعي الذى ينشأ عن «علم أصول الفقه» كما هو الآن «بحالته الراهنة التقليدية المتعارف عليها حالياً في القرن الواحد والعشرين»، ولهذا الغرض تم اختيار ثمانية مراجع؛ اثنان منها من أمهات الكتب وهما «الرسالة» للإمام الشافعي و«المستصفى» للإمام أبى حامد الغزالي، وستة مراجع حديثة تم تأليفها خلال القرن العشرين وحتى الآن بواسطة مجموعة من الأساتذة المعترف بفضلهم وعلمهم وقيادتهم للتأليف في هذا الموضوع حتى نتعرف على آخر ما وصل إليه هذا العلم، وذلك حتى يمكن مقارنة النظام التشريعي الذى ينشأ عنه مع «النظام التشريعي الحديث»، حيث نجد أن «علم أصول الفقه القائم الحالي» شديد الدقة وعلى أعلى مستوى من الحِرَفية ومكتمل العناصر ولكن ينقصه وجود «الإطار التشريعي الدستوري» وهذا ما تم بيانه في البند الرابع «علم أصول الفقه والنظام التشريعي الحديث».
القرآن الكريم كتابٌ جامعٌ مانع فيه نبأ ما قبلنا ونبأ ما بعدنا، صالحٌ لكل زمان ومكان، وقد استخرج منه علماء الفقه وأصوله كل شيء حتى مستوى النصوص القانونية، فهل يحتوى «القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة» على ما يفيد لاستخراج الإطار «التشريعي الدستوري لفقه المعاملات الإسلامي» وما أثر ذلك على «علم أصول الفقه ومسائله»، وكان هذا هو موضوع البندين الخامس والسادس.

2- النظام التشريعي الحديث:

في القرن الثامن عشر الميلادي، وعندما أُعلن قيام دولة الولايات المتحدة الأمريكية، دولةً مترامية الأطراف مواطنوها من المهاجرين من كل أرجاء المعمورة من أعراقٍ وثقافاتٍ متعددة، ظهرت الحاجة إلى وضع إطارٍ مُحكم للتشريعات في الدولة الناشئة بحيث تتسق كلها على فكرٍ واحدٍ ومقاصد واحدة، وإلا تشتت التشريعات والقوانين وتفككت أوصال الدولة، وكان الحل في ظهور أول دستور مكتوب في تاريخ البشرية وهو الدستور الأمريكي عام 1776 ميلادية ليضع إطاراً عاماً لا يُسمح لأحدٍ أيّاً كان موقعه بأن يتجاوزه بما يعنى إقامة دولة القانون، مكملاً لهذا الدستور المكتوب ظهر فقه الرقابة الدستورية على التشريعات والآليات المصاحبة له، واليوم في القرن الواحد والعشرين استقر بناء النظرية العامة للقانون الدستوري على القواعد الآتية( ):
1ـ مبدأ تدرج القوانين وسمو الدساتير.
2ـ ينبع من مبدأ سمو الدساتير «أن يكون للدستور السمو على ما عداه من تشريعات وأن تكون له مكانة الصدارة عليها، ومن ثم تلتزم جميع السلطات في النظام السياسي في الدولة بوجوب التقيد بنصوصه واحترامه وعدم الخروج على حدوده والالتزام به»().

وهذا يعنى أن يكون الدستور مهيمناً على كل التشريعات التي يجب ألا تصدر إلا «في إطاره وطبقاً لنصوصه وروحه، أياًّ كان مضمونها أو نصوصها أو طبيعتها فهي كلها يجب وبالتعريف وبالتحديد الدقيق أن تصدر وتدور في فلك الدستور»( ).
«خصائص القاعدة القانونية: القانون هو قاعدة عامة مجردة تنظم السلوك الاجتماعي، تكفل السلطة العامة احترامها بتوقيع جزاء مادي على من يخالفها، ويُستخلص من هذا التعريف أن للقاعدة القانونية ثلاث خصائص( ):
• قاعدة عامة مجردة.
• تنظيم للسلوك الاجتماعي.
• اقترانها بجزاء مادي».
وفي حديثٍ منشور للفقيه الدستوري الكبير الأستاذ الدكتور/ إبراهيم درويش في جريدة المصري اليوم( ) أفاد سيادته بأن «البناء الهندسي للدستور لابد أن يتسم بالتماسك بشكلٍ كبير في كل شيءٍ بدءاً من أعمدته وجدرانه وحتى سطوحه، وبالتالي لا يمكن تعديل جزء وترك جزء في بناء مختل أساساً»، وفى موضعٍ آخر عندما طُلِبَ منه تشكيل لجنة لوضع دستور جديد اقترح «أربعة مجموعات هي: مجموعة من القضاء الدستوري، الثانية من القضاء العادي، الثالثة من أساتذة القانونٍ الدستوري والأخيرة من المفكرين»، وهذا يفيدنا بأنه وإن كان البناء التشريعي يتكون من وجود وثيقة إطارية للمبادئ التشريعية وهى الدستور تهيمن على كل التشريعات في الدولة حيث تتدرج هذه التشريعات وتدور في فلك الدستور الذى يتميز بالثبات وعم التغير لمدى حُقبٍ طويلة بما يحفظ العلاقات القانونية مستقرة حتى يطمئن أطراف هذه العلاقات على حقوقهم وأنها مستقرة وليست موضع شكوكٍ وتقلبات فيُقبِلوا على تنمية كافة أنشطتهم الفردية والجماعية في سلام واحترام للقواعد، ويقل الميل لخرق هذه القواعد هادفين لإيجاد إرادة جمعية تدفع لصالح استقرار هذه القواعد القانونية حتى تصبح أعرافاً يدافع عنها الناس لكل ذلك لابد من أن تنشأ القواعد القانونية بدءاً من الدستور حتى الأوامر التنفيذية بطريقة ٍ طبعية من أعراف وقِيَم أفراد المجتمع ومصالحهم وهذا دور المفكرين في استقراء هذا التوافق بين قيم المجتمع وثقافته ومقاصد التشريع حتى لا تصبح التشريعات أوامر فوقية من سلطة تستبد بالبشر وتحتاج إلى تكلفة عالية لإجبار الناس على طاعتها فضلاً عن ضعف المجتمع نتيجةً لهذا الصراع الداخلي بين الشعب والسلطة المستبدة .

إذن البناء التشريعي متدرج تنبع مبادئه من قيم المجتمع وثقافته السائدة، يُبنى عليها القانون الدستوري وينبع منه وتدور في فلكه القوانين التي تنظم السلوك الاجتماعي لتحقيق مقاصد المجتمع وحاجاته المتواترة، أيضاً هناك الأعراف الاجتماعية المستقرة التي تتكامل مع هذا البناء التشريعي.
وفي هذا الشأن نود أن نبين أن القانون الدستوري الناجح يجب أن تجتمع نصوصه على تعريف إطار مُحكم من المبادئ الواضحة يقع في داخلها فئة الأعمال الشرعية وبالتالي فإن خرق مادة دستورية واحدة يعنى خرق هذا الإطار المُحكم، ومن هنا يُصبح دور الرقابة الدستورية دوراً أساساً لا غنى عنه في الدولة الدستورية.
منذ بداية القرن التاسع عشر مارست البشرية مشكلة الرقابة الدستورية على التشريعات( ) وكيفية تنفيذها ووضع فقه الرقابة وآليات تنفيذها ومن داخل ذلك تفسير النصوص الدستورية نفسها عند التنازع على مفهومها، ونستطيع اليوم في القرن الواحد والعشرين بعد أن استقرت السوابق القضائية في هذا الموضوع أن نبين أن الرقابة على دستورية القوانين تأخذ أحد قرارين بخصوص القانون المطعون فيه بعدم الدستورية وذلك عند معارضته لنص من نصوص الدستور أو أحد مبادئه المستقرة؛ الأول رقابة الامتناع بمعنى امتناع القاضي عن تطبيقه وتعطيل الاعتبار به في القضية المطروحة أمامه، وهذا القضاء لا يُنهى حياة القانون الدستوري في غير حالة هذا القاضي وهذه القضية، وإنما يستمر هذا القانون المعيب دستورياً، والثاني رقابة الإلغاء وهذا معناه إنهاء وجود هذا القانون المطعون عليه بعدم الدستورية ومن ثم اعتباره كأن لم يكن( ).
إذن هناك مبادئ ثلاثة لوضع إطار تشريعي في الدولة بهدف خلق الاتساق في التشريعات وعدم خروج الأحكام لما هو مُنكر شرعاً، تلك المبادئ هي: تدرج القوانين وسمو الدساتير، هيمنة الدستور على كل التشريعات (والقرارات القانونية في الدولة)، وإلغاء أي قانون أو قرار يتعارض مع الدستور ومبادئه.
نظراً لاقتران القواعد القانونية بالجزاء المادي، فإن النظام القضائي يُعتبر جزءًا أساسياً من الدولة والمجتمع، حيث يفرق القضاء بين الفعل المُباح والفعل المُحرم قانوناً والحكم في تقدير مدى الجُرم وبالتالي العقوبة. ولكى يتم تطبيق القاعدة القانونية لابد من أن يلتقى تفسير النصوص القانونية مع تكييف الواقعة التي نبحث عن فتوى أو حكمٍ فيها؛ أما التفسير فيختص به رجال الفقه والقانون آخذين في الاعتبار كل ما له صلة في البناء التشريعي، أما تكييف الواقعة فيختص بوصفها وبيان عناصرها الخبراء المعنيون، وهكذا تكتسب السوابق القضائية المحترمة أهميةً بالغة حيث يوفر القياس عليها الكثير من الجهد ويوفر اتساق التطبيق على الحالات المتماثلة ولذلك فهي تُعتبر من التشريعات المكملة.
بالنظر إلى توسع العلوم والمعارف، فقد استقر في النظام القضائي الحديث استعانة القاضي بالخبراء المتخصصين لكتابة التقارير الفنية المتخصصة لتكون جزءاً لا يتجزأ من تقدير المراكز القانونية في الدعاوى التي يفصل فيها القضاء وعادةً ما يُحجم القاضي عن الحكم معتمداً على تقديره الشخصي في أي أمر خارج النص القانوني دون تقرير فنى بحثاً عن الحِرَفِيّة السليمة في العمل وإعطاء كل تخصص لأهله، وهذه التقارير شأنها شأن الأحكام القضائية عموماً قابلة للطعن في صحتها ومناقشة عناصرها من أطراف الدعاوى.
إذن هناك نظام تشريعي هرمى ينتقل بمستويات متعددة من العام إلى الخاص ومن الأصل إلى الفرع، أساسه ثقافة المجتمع وقيمه العليا ومقاصده التي يريد أن يحققها من خلال القواعد المنظمة للسلوك الاجتماعي، وعلى ذلك يتم وضع المبادئ العليا للتشريع مُصاغةً في القانون الدستوري للدولة الذى يهيمن على كل التشريعات التي يجب ألا تصدر إلا في إطاره وطبقاً لنصوصه وروحه وتدور في فلكه كل التشريعات والقوانين متدرجةً من أعلى حيث القوانين الصادرة المنظمة للسلوك الاجتماعي على المستوى العام في الدولة بشقي القانون العام (بين الأفراد والدولة) والخاص (بين الأفراد بعضهم وبعض) نزولاً إلى القرارات الوزارية والإدارية بمستوياتها المختلفة حيث يحكم المستوى الأعلى المستوى الأقل، ويكون المستوى الأقل قابلاً للطعن في صحته إذا جاء مخالفاً لأى مستوى تشريعي أعلى منه وينظم موضوعه، وأخيراً السوابق القضائية والقياس الصحيح عليها باعتبارها أمثلة محلولة من أساتذةٍ متمكنين.
أما النظام القضائي المراقِب والمسانِد لاحترام وتطبيق التشريعات في الدولة والمجتمع فهو فضلاً عن ضرورة إلمام القاضي بكل عناصر النظام التشريعي ذات الصلة بالموضوع الذى يفصل فيه، حيث لا يجوز أن يبنى القاضي حكمه على نص مادة واحدة متجاهلاً باقي النصوص القانونية ذات الصلة بل يجب أن يأخذ في اعتباره القانون كله باعتباره كتلة واحدة لا تتجزأ وكذلك النظام التشريعي الهرمى بدءاً من القانون الدستوري حتى يصدر الحكم راسخاً متسقاً مع المجتمع وقيمه ونظامه التشريعي المكتوب، أما اتساقه مع الواقع فأساسه الاطمئنان إلى سؤال الخبراء المتخصصين في الموضوع والنظر في السوابق القضائية باعتبارها أمثلة محلولة.

3 – علم أصول الفقه:

«علم الفقه» في الاصطلاح الشرعي: هو العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسبة من أدلتها التفصيلية ـ أو هو مجموعة الأحكام الشرعية العلمية المستفادة من أدلتها التفصيلية( ).
من المتفق عليه بين العلماء المسلمين على اختلاف مذاهبهم أن كل ما يصدر عن الإنسان من أقوالٍ أو أفعال له في الشريعة الإسلامية حكم، بعض هذه الأحكام بينتها نصوص في القرآن الكريم أو السنة، وبعضها ليس فيه نص ولكن أقامت الشريعة دلائل عليها، «علم أصول الفقه» يبين قواعد ضبط الاجتهاد والاستنباط من مصادر التشريع الإسلامي، فيما فيه نص فإن المسألة تحتاج إلى استقراء أساليب اللغة العربية واستعمالاتها الشرعية (مثل اعتبار صيغة الأمر تدل على الإيجاب وصيغة النهى تدل على التحريم)( )، وإذا لم يوجد النص فإن المسألة تحتاج بحوثاً إضافيةً وهذا هو مجال «علم أصول الفقه» الذى نشأ من أجله.
نزل القرآن بلغة العرب، وبينته السُّنة بلغة العرب، وكان المُفْتُون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم على تمام العلم بتلك اللغة، يعرفون معانى ألفاظها وما تقتضى به أساليبها، وصحبتهم لرسول الله صلى الله عليه و سلم ومعرفتهم بالأسباب التي كانت من أجلها الشرائع أكسبتهم معرفة سِرِّ التشريع( ). فالنصوص التشريعية والقانونية ليست ألفاظاً جامدة واجبة الطاعة دون إدراك للغاية من صدورها، فهي في الأساس قاعدة تنظيمية ترتبط بالبيئة التي تحيط بها وكذلك ترتبط بالتشريعات الإسلامية الأخرى بحيث تترابط كلها لتحقيق شكل معين للعلاقات في المجتمع الإسلامي يتوافق مع القيم الإسلامية العليا، وفى هذا الشأن فإن الغايات نفسها منها قصير المدى وآخر مُسْتَدَام وهناك أولويات عند التعامل مع الجزئيات، كل هذا يجب أن يستحضره المفتي والقاضي عند إصدار الأحكام، وهذا هو مصدر الحاجة الدائمة لوضع ضوابط موضوعية واضحة ومبسطة وسهلة التطبيق بقدر الإمكان ليتعامل معها المسلمون فيسهل إدراك الصواب مع أدنى قدر من الاختلاف والجدل بين المسلمين عامةً وعلماءً، وهذا هو «علم أصول الفقه» الجيد الذى نصبوا إليه .

نشأت الحاجة إلى وضع ضوابط استنباط الأحكام الشرعية مبكرةً على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم ، وأول واقعة في هذا الشأن هي حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى معاذ بن جبل عندما أرسله عاملاً على اليمن، حيث أوضح أسس التشريع الإسلامي وتسلسلها وكيفية القضاء بما ليس في القرآن الكريم ولا السنة النبوية المشرفة، حيث سأله الرسول صلى الله عليه و سلم قائلاً: كَيْفَ تَقْضِي إِذَا عَرَضَ لَكَ قَضَاءٌ؟، قَالَ أَقْضِي بِكِتَابِ اللَّهِ، قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ قَالَ: فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه و سلم ، قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ وَلا فِي كِتَابِ اللَّهِ قَالَ: أَجْتَهِدُ رَأْيِي وَلا آلُو، فَضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه و سلم صَدْرَهُ وَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ لِمَا يُرْضِي رَسُولَ اللَّهِ»( ).

ويؤخذ من هذا الحديث أن أصول التشريع ثلاثة، هي على الترتيب: الكتاب، فالسنة، فالاجتهاد بالرأي، ولهذا كان فيما كتب عمر بن الخطاب إلى قاضيه بالبصرة أبى موسى الأشعري: «الفهم الفهم فيما تلجلج في صدرك مما ليس في كتابٍ ولا سنة: إعرف الأشباه والأمثال، وقس الأمور عند ذلك». وفي هذا تصريح من عمر رضى الله عنه بطريقٍ من طرق الاجتهاد بالرأي، وهو قياس الأمور على أشباهها وأمثالها، وسنرى بعد أن طرق الاجتهاد كلها ترجع إلى ذلك( ).

في عهد عمر ومن بعده اتسعت الفتوحات وانتشر الإسلام ولم تعد اللغة العربية سهلة المنال لدى المستجدين في التحدث بها، وكذلك لما بَعُدَ العهد بفجر التشريع واحتدم الجدال بين أهل الحديث وأهل الرأي، وكذلك تنوعت المسائل الفقهية فاشتدت الحاجة إلى بحوث تضع قواعد وضوابط في الأدلة الشرعية وشروط وكيفية الاستدلال بها، من مجموع هذه البحوث الاستدلالية وتلك الضوابط اللغوية تكون «علم أصول الفقه»( ).

أول من دوَّن من قواعد هذا العلم وبحوثه مجموعةً مستقلةً مرتبة مؤيداً كل ضابطٍ منها بالبرهان ووجهةِ النظر فيه «الإمام محمد بن إدريس الشافعي»، ولد عام 150 هجرية بغزة وتوفى سنة 204 هجرية بالقاهرة. فقد كتب فيه رسالته الأصولية التي رواها عنه صاحبه الربيع المرادي، وهى أول مُدَوَّن في هذا العلم وصل إلينا فيما نعلم، ولهذا اشتهر على ألسنة العلماء أن واضع أصول «علم أصول الفقه» هو الإمام الشافعي( ).
اطَّلَع مؤلف هذه المقالة على المؤلفات الثمانية المذكورة بعد هذه الفقرة معتبراً إياها كافيةً لبيان ما عليه «علم أصول الفقه» منذ البداية في القرن الثاني الهجري وأطواره حتى ما هو عليه اليوم، لاستخلاص عناصره للمقابلة بينها وبين النظم التشريعية الحديثة، وكذلك بيان احتياجات المسلمين إليه وكيفية مواجهة مسائل التراث والمعاصرة في عصر العولمة وهل يمكن تحسين كفاءته في مواجهة هذه المسائل التي فرضتها علينا ظروف العصر الحديث، بل هل نطمع في أن يأخذ الإسلام وضعه الذى يُفترض أن يستحقه كهداية الله لخلقه في كل زمان ومكان ويقود الحضارة الإنسانية ولا يكتفى المسلمون بدور المدافع عن أحقية الإسلام في الوجود وعدم الاندثار، والمؤلفات الثمانية هي:
1. «علم أصول الفقه، وخلاصة التشريع الإسلامي» للشيخ عبد الوهاب خلاف.
2. «أصول الفقه»، الشيخ محمد الخضري.
3. «أصول التشريع الإسلامي»، الشيخ علي حسب الله.
4. «الرسالة»، للإمام محمد بن إدريس الشافعي( ).
5. «كتاب المستصفى من علم الأصول»، للإمام حجة الإسلام أبى حامد الغزالي بجزئيه الأول والثاني( ).
6. «المدخل إلى دراسة المذاهب الفقهية»، فضيلة الأستاذ الدكتور على جمعة( ).
7. «الحكم الشرعي عند الأصوليين»، الأستاذ الدكتور على جمعة( ).
8. «المصطلح الأصولي ومشكلة المفاهيم»، فضيلة الأستاذ الدكتور على جمعة( ).
عناصر علم أصول الفقه وصلته بالعلوم الأخرى
بعد أن اطلع مؤلف هذه المقالة على الكتب الثمانية التي تمثل مبادئ علم أصول الفقه المذكورة بعاليه فقد توصل إلى ملاحظة سماتٍ مشتركة في كل ما ذكر في هذه الكتب عن هذا العلم ويُمكن تلخيصها في الآتي:
1ـ ينقسم علم أصول الفقه إلى ثلاثة مباحث رئيسة، هي:
• مصادر التشريع: حيث يؤخذ منها أدلة التشريع.
• منهج استنباط الأحكام من مصادر التشريع: وهو الضوابط والمحددات اللغوية والقواعد الشرعية وذلك بغرض تأسيس منهجية علمية عامةٍ مجردةٍ بقدر الإمكان، وذلك حرصاً على الموضوعية.
• مقاصد التشريع.
وقد يحتوى هذا العلم على مباحث تتفرع من هذه المباحث الرئيسة، وقد تحتوى كذلك على مباحث مكملة، ولكنها لا تخرج عن هذا الشكل العام الذى يفي بغرضنا من عرض هذا البند كما وضحته في مقدمة هذا البحث.
وفي هذا الشأن فإن الفقيه مُطالب باستقراء مقاصد الشارع واستقراء قواعده اليقينية في الموضوعات المختلفة ليقيس على إطارها والغاية من التشريع ما يجب أن يكون عليه اجتهاده، أيضاً الدقة وعدم الخطأ بحيث تأتى الأحكام مستنبطةً ومعبرةً عن المحتوى التشريعي كما جاء في المصادر، وهذا هو المنهج العقلي المنطقي الذى يربط بين الحكم أو الفتوى أو الفكرة موضوع الاجتهاد والمقدمة التي تضرب بجذورها في القرآن والسنة، ويجب أن نلاحظ أن مصادر التشريع ومقاصد التشريع ينتميان إلى ما جاء في نبأ السماء، أما مناهج استنباط الأحكام من مصادر التشريع فتنتمى إلى أعمال البشر وآرائهم، وهذا ظاهرٌ من كتاب الشيخ محمد الخضري: «إن علم أصول الفقه قواعد مستعارة من علومٍ أخرى، وليس في ذلك غضٌّ منه، لأن الأصوليين جمعوا من العلوم المختلفة ما يرجع إلى غرضهم ويختص ببحثهم، فألَّفوه وصيروه علماً موضوعه الدليل السمعي»( ).
2ـ نشأت الحاجة إلى علم أصول الفقه (أو مناهجه) مبكرة على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم والخلفاء الراشدين ويشكل حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى معاذ بن جبل وقول عمر بن الخطاب رضى الله عنه أساسان لهذا العلم أخذ بهما كل من جاء من بعدهما:
أوضح حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم مع معاذ بن جبل عندما أرسله عاملاً على اليمن تدرج مصادر التشريع الإسلامي وتسلسلها وكيفية القضاء بما ليس في القرآن الكريم ولا السنة النبوية المشرفة، وقد تم ذكره بعاليه في صدر هذا البند( ).
ويؤخذ من هذا الحديث أن أصول التشريع ثلاثة، هي على الترتيب: الكتاب، فالسنة، فالاجتهاد بالرأي( ).
وكان أساس الاجتهاد هو الربط بين الحكم وما جاء في الكتاب والسنة عن طريق القياس ومصدر حجيته في التشريع الإسلامي «قول عمر بن الخطاب رضى الله عنه لأبى موسى الأشعري: اعرف الأشباه والأمثال، وقس الأمور عند ذلك»، وننوه أيضاً إلى أن الإمام الغزالي وهو من أساطين الفكر الإسلامي( ) ومن أكثرهم استنارة بالمناهج العقلية، قد تأثر بفكر الأشاعرة، وقد اتخذوا من المنطق الأرسطي وسيلةً للوصول إلى هدفهم( )، وما كان ذلك إلا لأن القياس كان هو أحدث ما في عصرهم من طرق الاستنباط.
وننوه هنا إلى القاعدة الفقهية المتواترة وهى أنه «لا اجتهاد مع نص»، وأن علم أصول الفقه مجاله هو ضبط الاجتهاد ووضع قواعد تعين عليه.
3ـ منهج استنباط الأحكام من مصادر التشريع ميدانٌ عظيمٌ كبيرٌ منفتح على كل ما يمكن أن يتناوله ويستعين به العلماء والفقهاء في هذا الشأن وهو مدرسةٌ يعرف قيمتها المسلمون وغير المسلمين( )، واستفاد من منهجه وأحكامه فقهاء القانون عامةً وفقهاء القانون المدني خاصةً ويدرس في كل كليات الحقوق المصرية وكثيرٍ من كليات الحقوق في الجامعات غير المصرية كمادة علمية مستقلة.
و هناك طريقتان للبحث في هذا العلم «أو اصطلاحين في التأليف( ):
الأولى: هي طريقة المتكلمين. والثانية: هي طريقة الحنفية.
فأما المتكلمون: فإنه كان من رأيهم البحث على طريقة علم الكلام (علم الفلسفة والمنطق)، وتقرير الأصول من غير التفات إلى موافقة فروع المذاهب المنقولة عن الأئمة المجتهدين لها أو مخالفتها إياها؛ وقد كانوا ينتسبون إلى مذاهب شتى فمنهم: المعتزلة، ومنهم الشافعية والمالكية أهل السنة، فما أيدته العقول والحجج من القواعد أثبتوه، وما خالف ذلك نفوه، وقلَّما يشتغلون بالفروع المذهبية إلا عرضاً»( ).
فهو اتجاه نظري غايته تقرير قواعد هذا العلم كما يدل عليها الدليل وجعلها موازين لضبط الاستدلال، وحاكمةً على اجتهادات المجتهدين، لا خادمةً لفروع المذاهب( ).
وأما الحنفية: فإن طريقتهم كان يُراعى فيها تطبيق الفروع المذهبية على تلك القواعد، حتى إنهم كانوا يقررون قواعدهم على مقتضى ما نُقل من الفروع عن أئمتهم، وإذا كانت القاعدة يترتب عليها مخالفة فرعٍ فقهى (نُقِل عن أئمتهم) شكلوها بالشكل الذي يتفق معه، فكأنهم إنما دونوا الأصول التي ظنوا أن أئمة المذهب (الحنفي) اتبعوها في تفريع المسائل وإبداء الحكم فيها( ).
ومن ثم فإن هذه الطريقة تقرر القواعد الخادمة لفروع المذاهب، وتدافع عن أئمة هذا المذهب في الاجتهاد، كما أن هذه الطريقة، وهذا هو نهجها، أليق بالفروع وأمس بالفقه كما يقول ابن خلدون( ).
لا خلاف بين الطريقتين في اعتبار أن القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة هما أساس التشريع الإسلامي، ولكن في الطريقة الحنفية يكون النقل للفتاوى عن الأئمة (ومنهم الصحابة والتابعين وتابعي التابعين وأئمة المذهب الحنفي) له الأسبقية في الاعتبار على ما قد تقتضى علوم المنطق والاتساق المنطقي والعقلي مع مصادر التشريع بل يعتبرون التطبيق صحيحاً طالما صدر عن أحد هؤلاء الأئمة و«على مناهج وقواعد علم أصول الفقه أن تتوافق مع ما سبق أن فعله الإمام» والأدلة الفقهية عند أبى حنيفة سبعة: الكتاب، والسنة، وأقوال الصحابة، والإجماع والقياس، والاستحسان، والعرف( )، أما في طريقة المتكلمين فإن علوم المنطق ومناهج التفلسف والاتساق العقلي والمنطقي مع ما جاء في صحيح القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة فيسبق منطقياً أقوال الأئمة وأحكامهم.
وعليه فإن مؤلف هذه المقالة يعتمد طريقة المتكلمين فيما سيعرض له من موضوعات تتصل بعلم أصول الفقه، ويضع مرجعية القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة تسبق ما ورد في الأثر عن الصحابة والتابعين وتابعي التابعين والأئمة وذلك إذا اختلف ما نُقِلَ عنهم عما جاء في الآيات المحكمات من القرآن الكريم أو فى صحيح السنة النبوية المشرفة، حيث لا اجتهاد مع نص إعمالاً للشق الثاني من الآية الكريمة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ) [النساء/59].
4ـ أول من كتب في علم أصول الفقه هو الإمام الشافعي، فقد كتب مؤلفه «الرسالة»( ) في القرن الثاني الهجري، وبالاطلاع على النسخة المنشورة منها نجد أنها قد بينت كل العناصر الرئيسة من «علم أصول الفقه» واحتوت الكثير من الأحكام والفتاوى الفقهية في العقيدة والشريعة والعبادات مع بيان الدليل الشرعي من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه و سلم ، مع المقارنة بين الأدلة والترجيح بينها وتقديم بعضها على بعض بهدف الوصول إلى الإجابة المُثلى على المسألة الفقهية، وفى ذلك تعليم وشرح لمن جاءوا بعده ليأخذوا بمنهاجه في المقارنة والقياس وبالقواعد الأصولية التي بينها.
توالت المؤلفات في هذا العلم من بعد ذلك ولكن لم يُضف أحدٌ ممن جاءوا بعد الشافعي شيئاً جديداً على العناصر الرئيسة التي بينها الشافعي ولكن بحوثهم زادتها ثراءً بالبحث في تفاصيل كل عنصر مع الشرح والتبسيط والبيان، وبالتالي نستطيع أن نقول إن كل ما كُتِبَ من بعد الشافعي كانت «فروعاً من أصل» مؤلفه «الرسالة». لقد تميزت إضافات الإمام الغزالي في مؤلفه «المستصفى من علم الأصول»( ) بتمكنه من علم المنطق الأرسطي الصوري واستخدامه له في خدمة علم أصول الفقه.
إضافةً للشروح والتحليلات لعناصر علم أصول الفقه التي جاءت في رسالة الشافعي قام من جاءوا بعده بتقديم الكثير من الأحكام والفتاوى في تطبيقاتٍ متعددة مما أثرى المكتبة للباحثين في الفقه وعلم أصول الفقه.
تاريخ التشريع الإسلامي يندرج في رأى أكثر العلماء في المراحل الآتية( ):
المرحلة الأولى: عصر النبوة، وهو عصر النص والشرح النبوي.
المرحلة الثانية: عصر الخلفاء الراشدين، وهو عصر نقل النص وضبطه والاجتهاد في أهم الوقائع الحادثة.
المرحلة الثالثة: العصر الذى يبدأ من نهاية عهد الخلفاء الراشدين وينتهى في أوائل القرن الثاني الهجري.
المرحلة الرابعة: وهى المرحلة التي تبدأ من سنة 101 هجرية وتنتهى بسنة 301 هجرية وهى الحقبة التي عاصرت الأئمة الأربعة، وفيها وُضعت أسس «علم أصول الفقه» وتأسس «الفقه على المذاهب الأربعة» (الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة)، وقد تمتد هذه المرحلة بوجود كبار الأئمة التابعين لهذه المذاهب بما قدموه حتى منتصف القرن الخامس الهجري ولكنها في رأى الجميع تنتهى بسقوط بغداد في يد التتار الغزاة سنة 656 هجرية.
المرحلة الأخيرة وتمتد حتى اليوم: بدأت بسقوط بغداد وتبقى مستمرة حتى يومنا هذا وتتميز بتوقف الاجتهاد وجمود الفقه واللجوء إلى التقليد والتمذهب الفقهي، ونستطيع أن نسميه «عصر التقليد».
ونستطيع أن نلخص أسباب التدهور فى هذا الدور «عصر التقليد» في الآتي( ):
• أن المذاهب الإسلامية دُوِّنَت تدويناً كاملاً، مع تهذيب مسائلها، وتبويب مسائلها الواقعية مما جعل النفوس تستروح إلى هذه الثروة الفقهية والاستغناء بها عن البحث والاستنباطٍ.
• ضعف الثقة بالنفس والتهيب من الاجتهاد، وأن الخير للمشتغلين بالفقه وأصوله من المحدثين والأليق بهم التقيد بمذهبٍ معروفٍ عند الفتوى، والدوران في فلكه والتفقه بأصوله وعدم الخروج عليه .
ومع ذلك فقد قام الفقهاء في هذا العصر بأعمالٍ نافعةٍ منها( ):
1. تعليل الأحكام المنقولة عن أئمتهم، فليست كل الأحكام المنقولة عن الأئمة نُقِلَ تعليلها معها.
2. استخلاص قواعد الاستنباط من فروع المذهب للتعرف على طرق الاجتهاد التي سلكها إمام المذهب ( وهذا هو مذهب الحنفية).
3. الترجيح بين الأقوال المنقولة عن الإمام نفسه وعن الأئمة المختلفين في الموضوع الواحد في ضوء ما عرفوه من علم الأصول عامةً والمذهب نفسه خاصةً، وقطعوا أشواطاً كبيرة في المقارنة بين الأدلة والترجيح بينها وتقديم بعضها على بعض.
4. تنظيم فقه المذهب، وذلك بتنظيم أحكامه وإيضاح مجملها، وتقييد مطلقها، وشرح بعضها، والتعليق عليها، ودعمها بالأدلة، وذكر المسائل الخلافية مع المذاهب الأخرى، وتحرير أوجه الخلاف، وذكر الأدلة لدعم قول المذهب، وبيان رجحانه.
وفي سبيل مواجهة تدفق المتغيرات التي تأتى بها أنماط الحياة الحديثة والتي ليس لها حكم مباشر في الكتاب أو السنة، وليس لها أشباه ولا أمثال فيما سبق من أحكام الفقهاء حتى يمكن القياس عليها دون الخوض في الاجتهاد وتحمل تبعاته لجأ العلماء إلى الجمع بين أكثر من مذهب حتى تتسع أمامهم الاختيارات سواءٌ في القواعد والأصول أو في السوابق الفقهية القابلة للقياس عليها، وعلى هذا المنوال أعلن الشيخ على جمعة في جريدة الأهرام المصرية( )، «إن الأزهر الشريف قد اعترف بالمذاهب الفقهية الثمانية التي يقلدها المسلمون في العالم في عصرنا الحاضر وهي الأربعة السنية (الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة) واثنان من الشيعة (وهما الجعفرية والزيدية) واثنان من خارج ذلك (وهما الإباضية والظاهرية) وهذه المذاهب الثمانية هي التي تكون الموسوعة الفقهية التي بدأت في سنة 1960م بالمجلس الأعلى للشئون الإسلامية والتي وضع برنامجها العلامة المرحوم محمد فرج السنهوري ومعه آخرون من كبار رجال الفقه في مصر وكان قبل ذلك قد أصدر الإمام الأكبر الشيخ محمود شلتوت قراراً باعتماد المذهب الجعفري واعتماد الأخذ منه عند أهل السنة»، وهذا عملً لا غبار عليه فنبع كل هذه المذاهب واحد وإن تعددت الاجتهادات.
ولنفس السبب أيضاً، اتجه العلماء إلى التوسع في التعريف بالسلف الصالح الذى يأخذون عنهم الفتوى( ) «الذين حُفِظَت عنهم الفتوى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم مائة ونيف وثلاثون نفساً مابين رجلٍ وامرأة».
وكان المُكثِرون منهم سبعة: عمر بن الخطاب، وعلى بن أبى طالب، وعبد الله ابن مسعود، وعائشة أم المؤمنين، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر. قال أبو محمد بن حزم: ويمكن أن يُجمع من فتوى كل واحدٍ منهم سفرٌ ضخم، قال: وقد جمع «أبو بكر محمد بن موسى بن يعقوب بن أمير المؤمنين المأمون» فتيا عبد الله بن عباس ب في عشرين كتاباً، وأبو بكر محمد المذكور أحد أئمة الإسلام في العلم والحديث.
قال أبو محمد: والمتوسطون منهم فيما رُوِىَ منهم من الفتيا: أبو بكر الصديق، وأم سلمة، وأنس بن مالك، وأبو سعيد الخدري، وأبو هريرة، وعثمان بن عفان، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعبد الله بن الزبير، وأبو موسى الأشعري، وسعد بن أبى وقاص، وسلمان الفارسي، وجابر بن عبد الله، ومعاذ بن جبل، فهؤلاء ثلاثة عشر يمكن أن يُجمع من فتيا كل واحدٍ منهم جزء صغير جداً.
ويُضاف إليهم: طلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وعمران بن حصين، وأبو بكرة، وعبادة بن الصامت، ومعاوية بن أبى سفيان.
ثم يأتي من بعد ذلك مُقِلون في الفتيا، لا يُروى عن الواحد منهم إلا مسألة أو مسألتان».
ومع ذلك فإن للمسلمين في العصر الحديث حاجاتٍ من علم أصول الفقه، نذكر منها ما يلى:
• منع اختراق الشريعة الإسلامية بالتشريعات الغربية مع إلباسها الشكل الإسلامي، وسنضرب مثلاً لذلك في آخر البند السادس من هذه المقالة .
• عدم قدرة علم أصول الفقه التقليدي (ليس القصد «التقليد مقابل الاجتهاد»، ولكن «علم أصول الفقه بعناصره المستقرة القياسية التقليدية المتعارف عليها وليست محل جدل وتحديث حالياً») على التفرقة بين «سنة الرسول الكريم وخلفائه الراشدين في الحكم والإدارة» و«النمط الأموي في الحكم والإدارة» وتقديم الاثنين تحت اسم «المذهب السنى»، هذا على الرغم من الاختلافات الجوهرية بينهما.
وقد تم استخدام تعبير «أصول الفقه التقليدي» بمعنى: «علم أصول الفقه بعناصره المستقرة القياسية التقليدية المتعارف عليها حالياً والتي هي ليست محل جدل أو تحديث لم يستقر بعد»، وليس بمعنى: «التقليد مقابل الاجتهاد».
• الحاجة إلى وضوح الرؤية وقيادة التشريع الإسلامي، ولا يقتصر الإفتاء على الإباحة والمنع.
مع بدايات القرن التاسع عشر ابتلى الله المسلمين بموجات من الغزوات الاستعمارية الأوروبية استهدفت بلادهم، وبالاحتكاك معهم اكتشف المسلمون الفجوة الحضارية التي تفصل بين مجتمعات ودول المسلمين وتلك الأوروبية الغربية التي جاءت غازية، وأصبح المسلمون مطالبون بتقديم مشروع حضاري منافس للحضارة الغربية، أو تتعرض الشريعة الإسلامية ثم العبادات ثم العقيدة للتآكل مع الزمن لصالح نمط الحياة الغربية( ).
وفي عصر العولمة في القرن الواحد والعشرين أصبح الأمر أكثر إلحاحاً مع انفتاح الثقافات والمجتمعات كلها على بعضها البعض. على مدى قرنين من الزمان حاول المسلمون معالجة موضوع التراث والمعاصرة بمحاولات تحديث الفقه ولكن لا يبدو أن لدينا مشروعاً حضارياً منافساً حتى الآن، فهل يمكن أن نجد الحل في «علم أصول الفقه».
4ـ علم أصول الفقه والنظام التشريعي الحديث:
الإسلام دين عالمي ينظم البشر جميعاً، ولا يُمكن أن يُحصر في قومٍ بعينهم( )، وبذلك جاءت الرسالة السماوية الخاتمة بشقيها «القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة» لتخاطب الناس جميعاً في كل زمانٍ ومكان، وليفقهها الناس فرادى وجماعات بأفضل ما لديهم من العلم وطرق البحث .
من الثابت أن رسالة الإسلام السماوية «القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة» تتضمن عناصر ثلاثة رئيسة هي: العقيدة (تحتوى على أنباء الغيب وكلها خارج العلم الذى أساسه الحواس الخمس)، والعبادات (وهي كيف يتقرب المسلم من ربه وتنطوي بدرجة كبيرة على الكثير من الغيبيات وأقصى ما نطمح إليه أن ندرك المغزى منها)، وأخيراً الشريعة (وهي مجموعة من القواعد العامة المجرَّدة تنظم السلوك الاجتماعي للفرد وللمجتمع)، وينطبق عليها كل ما ينطبق على النظام التشريعي الإنساني من ضرورة وجود أهداف تشريعية ملموسة وأن تتوافق مع المصالح الإنسانية لأفراد المجتمع وثقافتهم حتى يستقر التشريع بأقل استخدام للجزاء المادي أو القوة الجبرية. عند هذه النقطة نقارن بين «علم أصول الفقه» بحالته الراهنة التي تعكس فهم البشر بعلوم وقدرات القرن الرابع عشر الميلادي (نهاية الاجتهاد وبدء تاريخ عصر التقليد) والنظام التشريعي الحديث.
لقد نشأ علم أصول الفقه في القرن الثاني الهجري لضبط الفتوى والأحكام الشرعية وهذا ظاهر في تمحور علم أصول الفقه حول حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى معاذ ابن جبل عندما أرسله عاملاً على اليمن حيث ترتبت عليه مصادر التشريع الإسلامي (القرآن الكريم، السنة النبوية المشرفة، ثم الاجتهاد) وتم تفصيل مناهج الاجتهاد فيما كتب عمر بن الخطاب إلى قاضيه بالبصرة أبى موسى الأشعري فيما ليس في كتابٍ ولا سنة بالبحث عن الأشباه والأمثال، وقياس الأمور عليها وقد تم عرض كل ذلك في البند السابق بالتفصيل، وبناءً عليه توسع الفقهاء بقدر ما يستطيعون في قاعدة الأشباه والأمثال بالجمع بين أكثر من مذهب حتى تتسع أمامهم الاختيارات سواءٌ في القواعد والأصول أو في السوابق الفقهية القابلة للقياس عليها، وكذلك ولنفس السبب اتجه العلماء إلى توسعة السلف الصالح الذين يأخذون عنهم الفتوى، وبالنظر إلى كل ذلك من منظور «النظام التشريعي الحديث» وعناصره التي تم عرضها في البند الثاني من هذه المقالة نجد أن «علم أصول الفقه» كما أسسه الإمام الشافعي رضى الله عنه وحتى اليوم بحالته التقليدية القائمة يمثل نظاماً تشريعياً بمفهوم ما قَبْلَ معرفة البشرية للدساتير التي لا غنى عنها في أي نظام تشريعي حديث، وهذا طبعي لأن علم أصول الفقه نشأ في القرن الثامن الميلادي وتوقف الاجتهاد فيه في القرن الرابع عشر الميلادي بينما أول دستور مكتوب في تاريخ البشرية وهو الدستور الأمريكي قد كُتِبَ عام 1776 ميلادية.
يقسم علماء أصول الفقه الأحكام العملية في القرآن الكريم إلى قسمين رئيسين: الأول أحكام العبادات والثاني أحكام المعاملات من عقود وتصرفات وعقوبات وجنايات وغيرها مما عدا العبادات( )، وهى تتنوع في اصطلاح العصر الحديث إلى: أحكام الأحوال الشخصية (نحو 70 آية)، الأحكام المدنية (نحو 70 آية)، الأحكام الجنائية (نحو 30 آية)، المرافعات (نحو 13 آية)، الأحكام الدستورية وهي التي تتعلق بنظام الحكم وأصوله وعلاقة الحاكم بالمحكوم، وتقرير ما للأفراد والجماعات من حقوق (نحو 10 آيات) والأحكام الدولية (نحو 25 آية)( )، وهذه كلها أحكام قانونية ينظم كلٌّ منها شأناً جزئياً فرعيا بعينه وعلى الأغلب مشفوعاً بحدٍّ من الحدود (عقوبات قانونية مستمدة من الشرع الإسلامي) ولا يمثلون إطاراً جامعاً للتشريع بالمفهوم الدستوري الحديث الذى تم بيانه في البند الثاني من هذه المقالة (ولا يُمكن أن يقوم على مجموعها إعمال الرقابة الدستورية على القوانين وما دونها من التشريعات والأحكام)، بينما تمثل الفتاوى والأحكام التي سبقت عن السلف الصالح بطبقاتهم السوابق القضائية التي يُقاس عليها، وبذلك نقول بأن النظام التشريعي القائم على «علم أصول الفقه التقليدي» يحتوى كل عناصر النظام التشريعي الحديث بدرجاته ناقصاً الإطار الدستوري الذى يجب أن يهيمن عليه ويضبط إيقاعه.
تضع الدساتير إطاراً عاماً لا يُسمح لأحدٍ أيّاً كان موقعه بأن يتجاوزه بما يعنى إقامة دولة القانون، وكذلك يضع الدستور إطاراً مُحكماً للتشريعات في الدولة بحيث تتسق كلها على فكرٍ واحدٍ ومقاصد واحدة، وإلا تشتَّتْ التشريعات والقوانين وتفككت أوصال الدولة، مكملاً لهذا الدستور المكتوب ظهر فقه «الرقابة الدستورية» على التشريعات والآليات المصاحبة له، كما سبق بيانه في البند الثاني من هذه المقالة، وهذا ما استقر عليه بناء النظرية العامة للقانون الدستوري اليوم في القرن في القرن الواحد والعشرين، ولم يعد ممكناً ولا متصوراً أن يقوم نظام تشريعي متسق وسليم بدون هذا «الإطار الدستوري»، فهل ينطوي «القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة» على مبادئ تشكل إطاراً تشريعيا مقفلاً تنطوي تحته وبداخله كل التشريعات الإسلامية التي جاءت بها الرسالة السماوية، بما يعنى «دستورية القرآن الكريم»، هذا ما سندرسه في البند التالي.
5ـ دستورية القرآن الكريم:
بما تم عرضه فى البند السابق نجد أن «علم أصول الفقه التقليدي» قد نظر إلى القرآن الكريم باعتباره مصدراً لنصوص قانونية تنظم أعمالاً جزئية بعينها وتضع عقوبات (حدوداً) لمن يتجاوزها أما «دستورية القرآن الكريم» فتُعنى «بالإطار العام للمعاملات الإسلامية» الذى يحتوى بداخله كل ما هو شرعي ويقع خارجه كل ما هو غير شرعي فنطبق معايير «الرقابة الدستورية» على أي فتوى أو حكم ليس له نص في القرآن الكريم أو السنة النبوية المشرفة فنعرف مدى شرعيته، وفي هذا الشأن يجب أن يكون هذا الإطار قطعي النص قطعي الدلالة جامعاً مانعاً يمنع الخلط بين ما هو شرعي وغير شرعي صالحاً لكل زمان ومكان لأن الرسالة السماوية نزلت لكل البشر بلا حدود للزمان أو المكان.

القرآن الكريم كل نصوصه قطعية الثبوت( ) وهذه مسألة ثابتة في كل ما كُتِبَ في علم أصول الفقه والسيرة فضلاً عن أن الله سبحانه وتعالى قد تعهد بحفظه بنص آياته الكريمة (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) [الحجر/9]، (لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) [يونس/64]، ولكن بنص القرآن الكريم نفسه وتحديداً في «سورة آل عمران، آية 7» التي سبق ذكرها في مقدمة هذه المقالة فتنقسم آياته إلى آياتٍ مُحكمات هن أم الكتاب (دلالاتها قطعية) وأخر متشابهات، وبالتالي فإن الآيات المحكمات تنبع منها المبادئ والأحكام الآساس في الدين الإسلامي عقيدةٌ وشريعة وعبادات، هذا بينما تشير الآيات المتشابهات لما يُمكن أن يختلف فيه الناس باختلاف الزمان والمكان والعلوم والمفاهيم حيث دلالاتها ظنية( )، ولكن من المفترض بأن يكون الاختلاف بما لا يناقض ثوابت الدين المعرَّفة من خلال الآيات المحكمات، والتي من المفترض أن تعرِّف فئةً مقفلةً من الأحكام الشرعية في العقيدة والشريعة والعبادات، وبالتالي فإن الآيات المحكمات اللاتي هن أم الكتاب فضلاً عن أنها قطعية الثبوت، فهي أيضاً قطعية الدلالة وهي التي يُؤخذ منها ويُبنى عليها «الإطار الدستوري» الذى نبحث فيه.
وفي موضوع قطعية النصوص للسنة النبوية المشرفة فنذكر أن الوقائع التاريخية الثابتة المتواترة في هذا الشأن تبين أن الحديث لم يُجمع في الصدر الأول من الإسلام لِماَ كان يُروى عن النبي أنه قال: «لا تكتبوا عنى شيئاً غير القرآن. ومن كتب شيئاً غير القرآن فليمحه»، على أن أحاديث النبي كانت متداولة على الألسن يومئذ، وكانت الروايات يُختلف فيها. ولقد أراد عمر بن الخطاب جمع الأحاديث الشريفة ولكنه رجع عن ذلك حتى لا تختلط بكتاب الله، وظلت الأحاديث بعد ذلك تتوالد وتتداول، حتى جُمع ما صح منها لدى الجامعين في عهد المأمون( ).
وهكذا فإن أصل الأصول في الدستور الإسلامي هو القرآن الكريم قطعي النص وفيه الآيات المحكمات اللاتي هن أم الكتاب، أما السنة النبوية المشرفة فنصوصها ليست كلها قطعية وقد يُذكر الحديث على أكثر من رواية، ولكن هذا لا يُعيبه فلعلم الحديث ضوابطه بحيث يتم تنقية الأحاديث والروايات والتأكد من صحة الحديث وصحة أصوله بحيث تقوم السنة بدورها المكمل لما جاء في القرآن الكريم في تفصيل مُجمله، وتقييد مُطلقه، وتخصيص عامه، ولا تتطرق لما لا يتفق مع وقار الدين الإسلامي ورسوله ويخرج عن هدف الرسالة السماوية في بيان العقيدة والشريعة والعبادات فتتشتت العقول والمفاهيم، وتنصرف الأفكار عما كان يجب أن تذهب إليه.

من حيث الموضوع، ينقسم الثابت عن السنة النبوية الشريفة إلى قسمين رئيسين: الأول يخص الموضوعات الإسلامية فى العقيدة والشريعة والعبادات، وهذه قد بين الله سبحانه وتعالى أنها وحىٌ يوحى من عند الله (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5)) [النجم/1ـ5]، والقسم الثاني يخص الجانب البشرى من شخص رسول الله مثل الملبس والمأكل والمظهر وغيره مما قد يسجَّل عن الرسول صلى الله عليه و سلم ، والرسول معصومٌ من الخطأ فيه، ولكنها من الأمور المسكوت عنها في الشأن الإسلامي لأنها ليست من موضوعات الرسالة السماوية وإلا تطرق لذكرها القرآن الكريم الذى لم يفرط في شيء (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) [الأنعام/38]، من أراد أن يأخذ بها فهذا شأنه ومن لم يرد فلا غبار عليه، وبالتالي ونحن نبحث عما هو قطعي النص قطعي الدلالة ليؤخذ وجوبيا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فإننا نأخذ ما ثبت من وقائع السنة النبوية الشريفة ويقع في موضوعات العقيدة والشريعة والعبادات الإسلامية.
وهكذا فإن الدستور الإسلامي المأخوذ عن نبأ السماء وحده ليكون مرجعاً نقيس عليه صحة ما يأتينا من تراث المسلمين، وما يُستجد من الأمور يستند على الأمور الآتية وبنفس أولوياتها:
1ـ الآيات المحكمات اللاتي هن أم الكتاب.
2ـ الثابت من وقائع السنة النبوية الشريفة ويقع في موضوعات العقيدة والشريعة والعبادات الإسلامية، ويتوافق مع القرآن الكريم، حيث تقوم السنة بدورها المكمل لما جاء في القرآن الكريم في تفصيل مُجمله، وتقييد مُطلقه، وتخصيص عامه.
الصياغة الدستورية والآيات المحكمات
تتميز الصياغة الخاصة بمواد الدستور بالعبارات القصيرة الواضحة مُحكمة الصياغة قطعية الدلالة، بحيث تكمل كل مواد الدستور مع بعضها كُلاَّ متكاملاً لا يُسمح بنقض إحداها وإلا تم نقض البناء التشريعي المتكامل المتوافق أو خرقه، ونظراً لسمو الدستور على كل البناء التشريعي في الدولة فهي عبارات لا تحتوى على أي إجراءات تنفيذية ولا تفاصيل تطبيقية، حيث تُترك هذه الأمور للتشريعات الأقل مستوى وهذا يعطيها الثبات والوضوح ويقلل من حولها الجدل.
وهكذا تعمل مبادئ الدستور الواحد في تكامل وشمول وتوافق داخلي بحيث تعين ما هو شرعي وما هو غير شرعي تبعاً لهذا الدستور والقوانين الطبيعية المستند عليها، وهناك مبدأ سمو الدساتير وتدرج التشريعات، وبالتالي لا يُسمح لأى تشريع أو قانون أو لائحة أن يصدر وفى أي منها ما يُناقض أي نصٍّ في الدستور، والأمر أولى إذا أردنا الأخذ «بدستورية القرآن الكريم»، وكما هو من الأصول في كتابة الدساتير أن تُصاغ مواده في عبارات قصيرة قاطعة لا تحتوى التفاصيل، حيث تترك التفاصيل لما دون الدستور من التشريعات، كذلك جاء القرآن الكريم في آياته المحكمات.

5 ـ 1: النصوص الآمرة بدستورية القرآن الكريم، والسنة النبوية المشرفة:
مبدأ سمو الدساتير وتدرج القوانين يقابلها هنا مبدأ سمو وهيمنة القرآن الكريم على كل الرسالات السماوية وعلى كل مصادر التشريع الإسلامية، أيضاً هناك أساس مُحكم لتدرج مصادر التشريع الإسلامي.
هيمنة القرآن الكريم وشموليته على غيره من الكتب السماوية، وهيمنته على الأحكام الإسلامية وكل ما يصدر في الشأن الإسلامي أولى، وصدق الله العظيم إذ يقول:
(وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنْ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ) [المائدة/48].
أما عن تدرج مصادر التشريع الإسلامي فأساسه حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم الذى سبق بيانه في البند السابق من هذه المقالة إلى معاذ بن جبل عندما أرسله عاملاً على اليمن، حيث أوضح أسس التشريع الإسلامي وتسلسلها فهي القضاء بكتاب الله فإن لم يجد فبسُنة رسول الله، ثم الاجتهاد بالرأي( )، ويؤخذ من هذا الحديث أن أصول التشريع ثلاثة، هي على الترتيب: الكتاب، فالسنة، فالاجتهاد بالرأي( ).
كلية القرآن الكريم وشموليته، هي الأساس لصحة وشرعية قيامه بدوره الدستوري، ونجاحه كإطار تشريعي، وبالتالي شرعية تطبيق رقابة الإلغاء ورقابة الامتناع على أساس مبادئه، شمولية الكتاب (القرآن الكريم) وعدم جواز تجزئته منصوصٌ عليهما من الله سبحانه وتعالى، حيث يقول في محكم آياته:
(وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) [الأنعام/38].
(ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَتَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ) ]البقرة/85]، وهكذا فإن تجزئة الكتاب الذى هو القرآن والأخذ ببعضه وصرف النظر عن بعضه هو نوعٌ من التحريف والكفر بنص هذه الآية الكريمة، ومن الأولى ألا يتم تجزئة الآية القرآنية أو نزعها من سياقها بل يجب النظر في الموضوع مع استحضار كل ثوابت الدين الإسلامي عند الحكم أو الفتوى.

5ـ2: الإطار العام للمعاملات الإسلامية:

الإطار العام للمعاملات الإسلامية أساساته هي العدل والرحمة والإحسان وتأدية الأمانــات إلــى أهلها، وإذا حكموا بين الناس أن يحكموا بالعدل (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل/90]، ) إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً( [النساء/58]. وبخصوص السلطة والنفوذ فقد حرم الله البغي بغير الحق (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ) [الأعراف/33]، أما بخصوص التعامل في الأموال والتبادل الاقتصادي فقد حرم الله أكل أموال الناس بالباطل (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً) [النساء/29]، وحرم التلاعب في الكيل والميزان وبخس الناس أشياءهم لأكل حقوقهم في تبادل السلع الاقتصادية (وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ) [هود/85]، وحرم الإدلاء بأموال الناس بالباطل إلى الحكام (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [البقرة/188] ، وأوجب أيضاً المحاسبة بين الناس على الأموال حفاظاً على حقوق العباد (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلْ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [البقرة/282]( )

أما آداب التقاضي وواجباته فهي القسط في الشهادة (وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [الأنعام/152]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) [المائدة/8]، وعدم كتمانها، وتحريم قول الزور (وَإِنْ كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تجِدُوا كَاتِباً فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) [البقرة/283]، (وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً ) [الفرقان/72]، أما في القصاص فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ) [النحل/126]( )
وهكذا وضع الله حدوداً للتعامل لا يتعداها أحدٌ مسلماً أو غير مسلم، مثل جرائم القتل أو السرقة أو الزنا والاعتداء على الأنساب دون إقامة الحدود التي أوضحها الله سبحانه وتعالى في شرعه الحنيف، فضلاً عما هو محرم مما يندرج تحت صور البغي والتعدي على الآخرين، فإذا اختلفوا فإن آساس التقاضي العادل وأركانه يرعاها الله بنفسه في آيات محكمات ويتوعد الخارج عن هذه الآساس أشد العذاب، حيث تقع كل هذه المعاملات على أساس متين من وجوب القسط في الشهادة وعدم كتمها وتحريم قول الزور، وتلك أهم أسس إقامة العدل في جميع المعاملات بين الأفراد وفي ساحات القضاء بل تكفي وحدها لإقامة مجتمع العدل والاستقامة.

العلاقة الإسلامية الشرعية بين الحكام والمحكومين( ):
بالنظر إلى أن الدولة هي التي ترعى تطبيق الشريعة في المجتمع وتحرسه بسلطتها وتطبق الحدود على الخارجين على القانون فإن «العلاقة الإسلامية الشرعية بين الحكام والمحكومين» تكتسب أهميةً خاصة في الإطار العام للمعاملات الإسلامية لأن التزام الحاكم وأعوانه «بالمبادئ الدستورية الإسلامية» يمثل أساساً لنجاح التطبيق، وإعفائه منها يعنى عدم جدية التطبيق، المبادئ العامة للمعاملات الإسلامية كُلٌّ لا يتجزأ ولو أخذنا واحدة منها بصدقٍ لقادتنا لاتباع باقي قواعدها ولو خرقنا إحداها لخرقنا الآخرين، ولو طبقناها على معايير وخصائص ومؤشرات العلاقة بين الحكام والمحكومين في السنة النبوية الشريفة نجد أنها هي نفسها التي اتبعها الخلفاء الراشدون في الحكم والإدارة، ونجد أن خصائصها وآساسها هي: العدل والمساواة والرحمة فعلى الرغم من مكانة الرسول الكريم العالية بين أصحابه إلا أنه لم يختص نفسه ولا أسرته بأبهة سلطة ولا ترف مال( ).
الشورى؛ حيث أمر الله سبحانه وتعالى بالشورى كما جاء في الآيتين الكريمتين من سورتي آل عمران( ) والشورى( )، وأقل ما يعنيه ذلك هو حرية الرأي وألا يُضار أحدٌ من اختلافه في الرأي مع أصحاب السلطة والنفوذ.

التعفف عن التمتع بأبهة السلطة أو اكتساب النفوذ الاجتماعي أو التربح منها، كان الرسول الكريم عفيفاً عن السلطة والمال العام وكذلك حرم الله على أزواجه إن كُنّ يردن الله ورسوله فليس لهم إلا أن يكونوا مثله وهذا واضح من سورة الأحزاب( ).
السلطة أمانة لا تُستخدم لغير الغرض التي فُوضت من أجله، والاعتراف للرعية بحقها في محاسبة الحاكم ومراجعته على السلطة العامة وعلى المال العام وهذا واضحٌ من خطبتي استهلال الحكم من أبى بكرٍ( ). وعمر( ) بطلب التقويم والنصيحة، وقصة المرأة التي راجعت عمر بن الخطاب على مهور النساء، وقصة الرجل الذى حاسب عمر على طول حُلّته( ).
وأخيراً رد المظالم قبل مغادرة مقعد السلطة بالوفاة أو بغير ذلك وهذا واضحٌ من ذكر الخبر عن مرض رسول الله الذى توفى فيه( )، ومنه نأخذ الدروس والعبر، وكذلك فعل خلفاؤه الراشدون وعلى رأسهم أبوبكر وعمر عند الوفاة ومحاسبة كلٍّ منهم لنفسه وسؤالهم عمن جلد له ظهراً أو شتم له عِرضاً أو كان له درهماً في ذمته.
وإحكاماً للبيان، فصَّل القرآن الكريم نقيض النظام الإسلامي في الحكم والإدارة، وهو النظام الفرعوني( ).
ونلاحظ هنا أن أساسات ومبادئ الإطار العام للمعاملات الإسلامية وآداب التقاضي وواجباته والعلاقة الإسلامية الشرعية بين الحكام والمحكومين قد بُنيت كلها على آياتٍ محكمات هن أم الكتاب وتحرسها حدودٌ شرعية حددها الله سبحانه وتعالى وتؤكدها سنة الرسول الكريم وخلفائه الراشدين في الحكم والإدارة، وأنها قد شُرِّعت ليلتزم بها رئيس الدولة والوزير والغفير وكل من منحه الله السلطة والنفوذ حتى ولو كان من خارج نظام الحكم والسلطة الإدارية( ).
وننوه هنا إلى أنه بالنظر إلى «الإعلان العالمي لحقوق الإنسان»( )، نجد أن الحقوق الطبيعية التي أمر الله بها في قرآنه الكريم للملأ كافةً تسبق كل هذه الحقوق وتشملها( ).

5 ـ 3: مقاصد التشريع:
الرسالة السماوية متمثلةً في «القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة» موضوعها «العقيدة والشريعة والعبادات»، وبينما ترتبط الشريعة بالواقع والبيئة لأنها تنبع منها وتنظمها، فإن المقاصد العليا للتشريع ترتبط بالعقيدة، فمقاصد الإنسان وقيمه العليا أساسها تصوره عن الكون والحياة وموقع البشر منها، وبالتالي الدور المطلوب منه على هذه الأرض والسلوك الأمثل لذلك، وهذا هو الوضع في كل النظريات العامة المُنَظِّمة لحياة الإنسان، سواءٌ كان أساسها ديني (يعتقد في وجود إلهٍ خالق) أم علماني يؤمن بأن الطبيعة هي التي أوجدت البشر والكون، والرأسمالية والشيوعية أمثلةٌ على ذلك.
«مراد الله من خلقه يمكن أن يتلخص في عبادة الله وعمارة الدنيا، حيث يقول الله سبحانه وتعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات/56]، ويقول (وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ) [هود/61] وتسمى هذه مقاصد الشارع (وهو الله سبحانه وتعالى)، واستخلص أيضاً مقاصد المكلفين، وهي التي عُرِفت «بالمقاصد الخمسة»، وتمثل ما يُمكن أن يُطلق عليه النظام العام والآداب وهي: حفظ النفس والعقل والدين والعِرض (كرامة الإنسان) والمال (الملك)»( )، هذه هي رؤية «علم أصول الفقه التقليدي»، والتي تجعل تجنب الوقوع في المعاصي والإكثار من الطاعات هي قمة الفوز يوم القيامة، فهل يمكن أن نجد نظرةً أكثر عمقاً.
كُليَّة القرآن الكريم وشموليته، هي الأساس لصحة وشرعية قيامه بدوره الدستوري، ونجاحه كإطار تشريعي، وبالتالي يجب أن ننظر إلى مقاصد الشارع (وهو الله سبحانه وتعالى) باعتبار أن للإنسان وجوداً سابقاً قبل نزوله إلى الأرض ووجوداً لاحقاً بعد وفاته و«قصة الخلق في القرآن الكريم» قد جاءت في آياتٍ محكمات، البدايات الأولى مع عرض الأمانة على كل مخلوقات الله فأبين أن يحملنها وحملها الإنسان فظلم نفسه (سورة الأحزاب: 72)، ثم قصة خلق آدم  وأسباب نزوله إلى الأرض «(سورة البقرة: الآيات 30 ـ 39)، (سورة طه: الآيات 115 ـ 126)، (سورة الأعراف: الآيات 11ـ25)، لقد خلقه الله سبحانه وتعالى في الجنة ثم علَّمه الأسماء كلها فعرفها بينما لم تعرفها الملائكة عند سؤالهم عنها بما يعنى أن آدم يتميز عنهم بملكة معينة أعطاها الله له أمانةً، عليه ألا يستخدمها إلا بحقها، وبناءً على تميزه هذا أمر الملائكة بأن تسجد لآدم، وفي ذلك تكريمٌ كبير، ثم أمر الله آدم بأن يسكن هو وزوجه فى الجنة ويأكلا منها رغداً ولا يقربا شجرة معينة، ولكن آدم عصى ربه لأنه لم يجد فى نفسه عزماً يقاوم إغراء الشجرة، فأنزله الله إلى الأرض ليقضى عليها رحلةً مقدَّرَةً تُصِيبُ ابن آدم فيها فى نفسه وفى محيط بيئته أحداث محسوبه بعلم الله وقدره (سورة الحديد: الآيتان 22 ـ23)، (سورة ق: الآية 16)، (سورة القمر: الآية 49)، كل مخلوقات الله سبحانه وتعالى وكذلك الملائكة لا يعصون الله ما أمرهم فما هى الأمانة التى عرضها الله سبحانه وتعالى؛ إنها الملكة التي مكَّنَتْهُ من التَعَلُّم وتميز بها عن الملائكة وكذلك الاختيار فإن أحسن استخدامهما استحق مكانةً أعلى من الملائكة فى ملكوت الله الأعلى وهو الجنة، لأن للحياة في الجنة شريعةً وآداباً جهلها آدم عند بداية خلقه، بينما خرقها إبليس بعلمٍ وتعمد ولكن المبدأ ألا يحق لأحدٍ أن يخرقها (وما الشجرةُ إلا رمزٌ لذلك)، من تزكى في مشواره على الأرض أعاده الله إلى الجنة خالداً فيها، فهل سيعود لينسى ولا يجد لنفسه عزما ويرتكب المعاصي أم يعود محترِماً لشريعة الله الكونية التي هي في الجنة وكذلك في الأرض متماثلة ٍلا يسمع فيها لغواً ولا تأثيماً (سورة الواقعة: الآيتان 25ـ26)، أي يعود آدم إلى المكانة التي كان عليها في الجنة قبل عصيان ربه . بهذا التحليل يتبين أن عبادة الله ممتدة ومطلوبة من بداية خلق آدم وفي رحلته على الأرض وبعد بعثه يوم القيامة، أما عمل ابن آدم في عمارة الدنيا فينتج عنه أمران: الأول عمارة مادية للأرض حيث تبلغ ذروة زينتها وزخرفها فيكون ذلك إيذاناً بتدميرها بأمر الله يوم القيامة (سورة الكهف: الآيات 7، 8، 45)، (سورة يونس: الآية 24)، (سورة الحديد: الآية 20)، والثاني اكتساب التقوى التي تستقر في القلب نتيجةً لممارسة العمل الصالح بدون رياء بل عن وعىٍ وإدراكٍ وإيمانٍ بجدوى هذا العمل وتلك هي الباقية بعد الممات وهى الهدف (سورة الحج: الآية 37)، إنه التزكية للحياة مع مخلوقات الله الصالحة المدركة لشريعة الله الكونية وجدوى العمل بها والمتَخَلِّقَةِ بأخلاقها، وبناءً عليه فإن الهدف الإلهي من رحلة الإنسان على الأرض هو تعليم البشر، وأن إعمار الدنيا إعماراً مادياً لا قيمة له عند الله، وأنه يزيل عمارة الأرض المادية الناتجة عن أعمال الإنسان فور انتهاء الغرض من الرحلة على الأرض وبدء التقييم للنفوس وما اكتسبته يوم القيامة ومدى تقاربه من اكتشاف شريعة الله الكونية والتمرس في العمل بها لمن أراد أن يلتحـق بملكوت الله فهماً وسلوكاً، هذا معناه أن التطور يسير في اتجاه واحد هو التقارب من اكتشاف تلك الشريعة وجدوى العمل بها (سورة الرعد، آية 17)، وأن توافق الشريعة الإسلامية والسلوك الإنساني مع هذه الأهداف يقتضى السعي إلى اكتساب العلم (سورة العلق: الآيات 1ـ5)، وتسخير علمه وإمكاناته في ممارسة استعمار الأرض للتمرس بآساس التنمية المستدامة في إطارٍ من نصرة العدل والإحسان وإيتاء ذي القربى والنهى عن الفحشاء والمنكر والبغي (سورة النحل: الآية 90)( )، وصدق الله العظيم إذ يقول (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهُّ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) [النحل/76].
إذن بالأخذ بدستورية القرآن الكريم، وبمصطلحات العصر الحديث تهدف مقاصد المكلفين الشرعية إلى تحقيق التنمية المستدامة بتعظيم الأمن والرفاهية للأجيال الحالية والمستقبلية في إطارٍ من علاقاتٍ شرعيةٍ للسلطة والثروة أساسه احترام الحقوق الطبيعية للإنسان وأساسها الديمقراطية وحقوق الإنسان، ولو تحققنا من سنة الرسول الكريم صلى الله عليه و سلم وخلفائه الراشدين في الحكم والإدارة لما وجدنا غير ذلك، ولو تحققنا في شريعة الله في الأرض الحرام وفي الأشهر الحرم لما وجدنا إلا شريعة السلام المطلق بين مخلوقات الله جميعاً (على اختلافها) مع سعى كل منهم إلى مصالحه بلا ضرر ولا ضرار مع تحريم نية البغي قبل الفعل نفسه (سورة الحج، آية 25)، وما مقاصد الشريعة( ، ) (حفظ النفس والعقل والدين والعِرض والمال) التي تم ذكرها في «علم أصول الفقه التقليدي» إلا جزء من هذا الكل.

6ـ علم أصول الفقه في ضوء دستورية القرآن الكريم

في البند السابق تم بيان الإطار العام للمعاملات الإسلامية المكون من الآيات المحكمات اللاتي هن أم الكتاب وثوابت السنة النبوية المتواترة المتوافقة مع هذا الإطار والداعمة له وأنها تشكل فئة مقفلة من الأعمال الشرعية لا يتداخل معها شيءٌ يحرِّمُه الله ورسوله واتخاذه إطاراً دستورياً للتشريع الإسلامي مع بيان أن الهدف العام من الشريعة هو التنمية المستدامة لعمارة الأرض وأن الإنسان يكتسب من خلال ذلك التزكية الأخلاقية والسلوكية والعلمية التي تؤهله للحياة في ملكوت الله الأعلى مع مخلوقاته الصالحة، بهذا الإطار التشريعي والهدف العام له (الثابتين منذ فجر الرسالات السماوية وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها) يستطيع المسلمون أن ينسجوا مشروعهم الحضاري في العصر الحديث، وبذلك تنحل مشكلة التراث والمعاصرة التي أعيت المسلمين على مدى القرنين الأخيرين من الزمان حيث اتجه المسلمون إلى تحديث «الفقه الإسلامي» ولم يتجهوا إلى تحديث «علم أصول الفقه» ولم ينجحوا لأن الفقهاء كلما واجهوا مشكلة ليس لها نص مباشر من القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة من المشكلات المعاصرة بحثوا عن الأشباه والأمثال فى السوابق القضائية من الأحكام والفتاوى في التراث الإسلامي فإذا لم يجدوا أصبح الأمر من الأمور المسكوت عنها في الشريعة الإسلامية، ولكن مع وضوح الإطار الدستوري ومقاصد التشريع يمكن الحكم على كل ما يظهر للبشر من أحداث ومواقف.

لا توجد مشكلة بين «الرسالة الإسلامية الإلهية» متمثلةً في «القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة» وبين المعاصرة في أي زمانٍ ومكان، ولكن هناك مشكلة بين «التراث: وهو نتاج العقل البشرى المسلم عبر القرون» والمعاصرة، فالتراث تطبيق على وقائع اختلف شكلها عما نواجهه اليوم وإذا أردنا أن نطبق عناصرها فلابد من أن نحللها لنستخرج منها المبادئ الثابتة والمقاصد التي بُنِىَ عليها الحكم الذى نريد أن نحاكيه، وهذا ما تم في بحثنا الحالي حيث تم النظر إلى كل الرسالة السماوية «القرآن الكريم والسنة النبوية» والقصد العام من رحلة الإنسان على الأرض وتطبيق فقه الرقابة الدستورية على كل ما يأتي تحتهما من تشريعاتٍ وتطبيقات للتوصل إلى الاتساق العام والضبط.

بتفعيل الرقابة الدستورية نستطيع التمييز بين صحيح الشريعة والدخيل عليها سواءٌ جاءنا من التراث أو من أعمال المعاصرين .
باتخاذ «علم أصول الفقه الإسلامي التقليدي» مرجعاً اتجه الفقهاء فى محاولاتهم المستمرة للقياس على الأشباه والأمثال من أعمال المسلمين السابقين إلى الاتجاه الدائم إلى الماضي ومحاولة محاكاته مما أدى في كثيرٍ من الأحوال إلى صبغ الأحكام والفتاوى بطابع ما كان عليه العقل البشرى الإسلامي في الماضي مع الحنين الدائم إلى محاكاته بكل جوانبه إيثاراً للسلامة حتى لا يجد المسلم نفسه يواجه أموراً لا يجد لها الفتوى أو الحكم الصحيح.
بناءً على «علم أصول الفقه الإسلامي التقليدي» وبدون وجود رؤية إسلامية تقود المستقبل وتسعى إلى أهدافٍ فيه، لم يبق أمام المسلمين من أهدافٍ للتفانى في تحقيقها غير نشر الدعوة إلى الإسلام والجهاد في سبيل الله لرد المظالم الواقعة على المسلمين من خارج بلادهم وهى أعمال مشروعة، ولكن مع وضوح الإطار الدستوري ومقاصد التشريع يصبح لدى المسلمين مشروعاً حضارياً واضحاً يسعون لإظهاره وتحقيقه بجانب المشروعات الحضارية المعاصرة مثل الرأسمالية والاشتراكية وغيرها، الثقافة والسياسة والاقتصاد حلقاتٌ ثلاثٌ متصلةٌ مترابطة، وغالباً ما يقود أحدها الآخرين ويشدهم معه، القيمة العليا في الرأسمالية والتي ينبع عنها كل جوانب النظام الرأسمالي هي حرية الفرد وبناءً عليها تكون الديمقراطية مكون أساس في النظام الرأسمالي الصحيح وحرية السوق هي أساس اقتصاده، القيمة العليا في النظام الاشتراكي هي العدالة الاجتماعية عند التبادل الاقتصادي مع ضمان حياة كريمة للفقراء والضعفاء وبالتالي تتدخل الدولة طبعياً في الأنشطة الاقتصادية وفى الأسواق والتجارة للتسعير والحد من طغيان أصحاب رؤوس الأموال حتى لو أدى ذلك إلى التضحية بحرية الفرد.
نظام الدولة الإسلامية على نهج النبوة والخلافة الراشدة وباصطلاحات العصر أساسه «الديمقراطية وحقوق الإنسان» وبالتالي لابد من أن يكون أكثر تطوراً وربما تعقيداً من النظامين السائدين حالياً (الرأسمالي والاشتراكي)، في النظام الرأسمالي هناك الكثير مما يُذكر عن طغيان أصحاب رؤوس الأموال بحصولهم على فائض القيمة (وهو حصول الرأسمالي على فارق لصالح نفسه عند تبادل قيمة العمل مع العامل)، وهناك الكثير مما يُكتب عن حصول أصحاب السلطة في النظام الاشتراكي على تفويض بسلطات قانونية بينما لا يوجد نظام يحاسبهم عليها بحيث يستغرق كل السلطة فلا يبقى لديهم فائض سلطة لا يحاسبون عليه، في النظام الإسلامي الحديث على نهج النبوة لابد من أن يتم تنظيم الدولة على أساس عدم وجود أي فائض سلطة ولا فائض قيمة لدى أحد( ).
الهدف العام من الشريعة هو التنمية المستدامة لعمارة الأرض على أن يتم ذلك من داخل الإطار الشرعي للمعاملات الإسلامية، ونتيجةً لذلك يكتسب الإنسان التزكية الأخلاقية والسلوكية والعلمية التي تؤهله للحياة فى ملكوت الله الأعلى مع مخلوقاته الصالحة، وبهذا يصبح المسلمون فى حركة دائمة إلى يوم القيامة باحثين عن التطور تقارباً إلى علاقاتٍ اجتماعية شاملةٍ مُثلى تُعَظِّمُ الأمن والرفاهية، لكى يتم تعظيم الأمن والرفاهية لابد من تنظيم العلاقات الشرعية فى المجتمع على مبدأ تقليص أسباب الصراع وتعظيم أسباب التعاون وهذا أساسه احترام الحقوق الطبيعية للبشر التي أساسها الديمقراطية وحقوق الإنسان، إنها الديمقراطية بحيث يُحاسب كل من يُفوَّضْ سلطة حساباً لا يترك له فائضاً منها يتربح منه أو يطغى به على أحد ومراجعة على كل الأنشطة الاقتصادية والتجارية والمالية بحيث لا يحصل إنسان على مقابل بغير تبادل على عملٍ نافعٍ يقدمه للمجتمع مع ضمان اجتماعي قوى يضمن مستوىً كريماً من المسكن والمأكل والتعليم والخدمات الصحية لكل فئات المجتمع مهما كان ضعفهم.
تداعيات وضوح الإطار والهدف الدستوري على حاجات المسلمين من “علم أصول الفقه”:
في البند الثالث من هذه المقالة، تم عرض ثلاثة احتياجات هامة للمسلمين يرجونها من «علم أصول الفقه» ثالثها هو «الحاجة إلى وضوح الرؤية وقيادة التشريع الإسلامي، ولا يقتصر الإفتاء على الإباحة والمنع» وقد تم بيان الإجابة عليه في السطور بعاليه، وسنبحث في البنود التالية مدى تأثير دستورية القرآن الكريم على قدرة هذا العلم فى حل المعضلتين الباقيتين.
• منع اختراق الشريعة الإسلامية بالتشريعات الغربية مع إلباسها الشكل الإسلامي
نذكر في هذا الشأن ما جاء فى «جريدة الدستور» المصرية يوم الثلاثاء 3 أغسطس 2010م( ) بأن «الجمعية المصرية لمساندة المرأة» بالإسكندرية وثَّقَت مشروع قانون في الشهر العقاري يعطى الزوجة نصف ثروة الزوج التي كونها أثناء الزواج عند الوفاة أو الطلاق أو الخلع أو الزواج بأخرى، بجانب حقها في الميراث الشرعي.
وقد أوضح الأستاذ/ علاء فتحي ـ أمين سر الجمعية المصرية لمساندة المرأة أنهم قد خاطبوا الجهات الرسمية لمساندة إصدار القانون، وقد استندت الجمعية إلى ما يقوله القرآن الكريم، حيث يقول المولى عز وجل (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) [البقرة/228] وإلى حكم سيدنا عمر بن الخطاب فى قضية عمر بن الحارث وزوجته حبيبة بنت زريق عمة عبد الله بن الأرقم .
ونعلق نحن مؤلف هذه المقالة على هذا الخبر بالآتي: هذا القانون هو المعمول به في الولايات المتحدة الأمريكية وكثير من الدول الغربية منذ عقود، وبما تقدمه هذه الجمعية فإن هذا القانون فى هذه الحالة يلبس ثياباً إسلامية، فهل يقبل «علم أصول الفقه» أن يُنسب إلى الإسلام كل شئٍ كان من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار دون ضوابط .
مؤلف هذه المقالة متأكد من أن قواعد «علم أصول الفقه التقليدي» كفيلةً بإظهار تهافته وضعف حجته ولكن بالأخذ بدستورية القرآن الكريم فإنه فاقد للشكل أيضاً للأسباب الآتية:
أولاً: لا يجوز تجزئة أى آية من آيات القرآن الكريم والاحتجاج بهذا الجزء لأن هذا هو عكس السياق الصحيح لما ننادى به من الأخذ بالإطار العام للمعاملات الإسلامية وروح هذا العمل هو أن قراءة أى آية وفهم مضمونها يكون فى الإطار الدستورى العام لكل الرسالة السماوية «القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة»، فكيف نقبل من حيث المبدأ أن ننظر فى نصف آية لأن النصف الآخر قد يقيد مدلولها، وبالنظر إلى كامل نص الآية الكريمة (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [البقرة/228] نجد أنه لا يوجد فيها أى إشارة إلى حق المطلقة فى نصف مال زوجها على حالةٍ من الحالات.
أما «حكم سيدنا عمر بن الخطاب فى قضية عمر بن الحارث وزوجته حبيبة بنت زريق عمة عبد الله بن الأرقم» فهذه فى منظورنا من السوابق القضائية وبذلك لا يُمكن بحثها إلا بعد التدرج فى الدستور الإسلامى والقوانين التى أساسها قطعية النص قطعية الدلالة وكلها لا تسمح باختلاط الذمة المالية للزوج والزوجة فضلاً عن وجود نصوص قطعية جاءت فى آياتٍ محكمات بخصوص الميراث لا تسمح بأى حال بأن تحصل الزوجة على نصف ميراث زوجها، حيث «لا اجتهاد مع نص ينظم حالةً من حالات القانون الفرعية أو الجزئية»، فهو مبدأٌ أساسٌ صحيح فى «علم أصول الفقه» بحالته التقليدية وكذلك بعد الأخذ بدستورية القرآن الكريم.
لقد اتخذت «الجمعية المصرية لمساندة المرأة» فى مطالبتها بإدخال القانون الأمريكى إلى التشريع المصرى على استيفاء الشكل الذى يطلبه «علم أصول الفقه التقليدى» وهو الاستناد إلى نص قرآنى والقياس على واقعة من التراث، إنه استيفاء للشكل دون المضمون، وهذا يدفع فقهاء «علم أصول الفقه التقليدى» إلى مسارٍ طويلٍ من الجدل لإثبات تهافت وعدم صحة الاستدلال بالنص القرآنى وكذلك فى مدى صحة القياس على الواقعة المذكورة وترجيح القياس عليها أو عدم الأخذ بها.
أما بالأخذ بدستورية القرآن الكريم ورقابته التشريعية على القوانين والأحكام والفتاوى فإن الرفض يحدث بوضوح وسهولة على مستوى الإطار وعلى مستوى القوانين دون الدخول فى عملية الترجيح للأحكام والفتاوى المأخوذة عن السلف، لأن من فقه الرقابة الدستورية أن ما تم رفضه على مستوى القانون لا يتم بحث شرعية ما يترتب عليه فى المستويات الأدنى (السوابق القضائية)، أما إذا ما تم بحث شرعية هذا القياس بأدوات «علم أصول الفقه التقليدى» المبنية على المقارنة والترجيح فهى عملية تحتاج إلى معرفة واسعة لكل التاريخ الفقهى وقد تقود إلى ارتباكٍ واسع بين العامة والخاصة، هذا فضلاً عن أن الاستشهاد بنصف آية شائع لدى الفقهاء التقليديين وما تم ذكره فى صدر هذه المقالة عن (سورة النساء، آية 59) مثالٌ لذلك مما يجعل الرد التقليدى يذهب إلى البحث فى دلالة النص وليس الرفض لشكل تجزئة الآية الواحدة.
• جدلية الخلط بين «سنة الرسول الكريم وخلفائه الراشدين فى الحكم والإدارة» و«النمط الأموى فى الحكم والإدارة» وتقديم الاثنين تحت اسم المذهب السنى
تعريف السُّنَّة هو: أنها أقوال محمد رسول الله صلى الله عليه و سلم وأفعاله وتقريراته( )، وهى بحكم أنها من وحى الله إلى رسوله حسب القرآن الكريم (سورة النساء، آية 59) و(سورة النجم، آية 1ـ5) كما سبق بيانه فى مقدمة هذه المقالة فإن لها منزلتها العالية فى «علم أصول الفقه» حيث تأتى بعد القرآن الكريم مباشرةً فى مصادر التشريع باعتبارها المكون الثانى للرسالة السماوية ثم تأتى أعمال البشر بعد ذلك لتكون الفقه بطبقاته «الإجماع والفتاوى والأحكام المأخوذة عن السلف الصالح» و«علم أصول الفقه» يقرر كل ذلك، ومن المقرر ألا تختلط أعمال وأقوال وفتاوى السلف الصالح مع سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم.
«سنة الرسول الكريم فى الحكم والإدارة هى نفس ما اتبع الخلفاءُ الراشدون» وتتميز «بالشورى والمساواة التامة بين الحكام والمحكومين عند تطبيق الحدود (القانون) والتعفف عن المال العام ورد المظالم عند الوفاة أو ترك المنصب»، وهو نمطٌ من الحكم قام على الورع الشديد للحكام والمحكومين فى مجتمع المدينة المنورة الفاضلة ونجح مستنداً فى وجوده على هذه الثقافة دون إمكان وجود نظام سياسى يبين الحقوق والواجبات للحكام والمحكومين وأركان النظام ويضع العقوبات القانونية على من يخرج عن إطاره لأن هذا لم يكن ممكناً بالعلوم السياسية والإدارية فى القرن السابع الميلادى، وعندما اتسعت الدولة على عهد عمر وزادت المغريات الدنيوية وضعف الورع اهتزت دولة الخلافة الراشدة على عهد عثمان وسقطت فى عهد على بن أبى طالب بما يُعرف فى التاريخ بأحداث الفتنة الكبرى، ولم يعد ممكنا أن تستمر الدولة الإسلامية إلا بوجود نظام سياسى يدير أمورها وهو ما فعله معاوية بن أبى سفيان حين استحدث «النمط الأموى فى الحكم والإدارة» فى بلاد المسلمين حيث اقتبس أحدث ما فى عصره من نُظمٍ سياسية لدى كسرى وقيصر وأبقى على كل ما فى الدين الإسلامى من عقائد وعبادات وقوانين شرعية لا تمس النظام السياسى الذى استحدثه، فتميز نظام الحكم بالاستبداد ومنع الشورى واعتداء الحكام وأصحاب السلطة على المال العام وعدم رد المظالم عند ترك الحكم أو المنصب، بل وتوريث الحكم( )، وأصبح الحكام فوق القانون لا ينالهم العقاب إذا أخطأوا وهى مرحلة «الملك السياسى» باصطلاح ابن خلدون( ) وهى كلها أعراف الحكم لدى كسري وقيصر.
وبالاختصار ينتمى نمط الحكم الأموى إلى حضارات القرون الوسطى فى أمور السياسة والفقه القانونى، ولكنه ينتمى أشد الانتماء إلى صحيح الدين الإسلامى فى أمور العقائد والعبادات والمعاملات الشخصية التى ليس فيها شئٌ من أمور الحكم والإدارة، وهذا اجتهاد من معاوية يتناسب مع ظروف القرون الوسطى لأن إدخال مبادئ الحكم النبوية (الخلافة الراشدة) فى النظام السياسى للدولة لم يكن ممكناً بعلوم القرون الوسطى السياسية، على الجانب الآخر قد أصبح إدخال الشورى والشفافية ومحاسبة الحكام فى نظام الحكم وهى من صفات «نهج النبوة فى الحكم والإدارة، وتلك هى السنة الصحيحة» ممكناً بعد أن عرفت البشرية آليات الديمقراطية والفصل بين السلطات والوثائق الدستورية وهذا التقدم لم يحدث إلا فى القرن السابع عشر وما بعده( ). ولكن كل ذلك لا يعفى «علم أصول الفقه» من الخلط باستخدام نفس المصطلح (السُّنة) وإطلاقه على غير محله حيث يشيع إطلاقه على «النمط الأموى» المناقض «للنمط النبوى» فى الحكم والإدارة والذى قام على أنقاض الخلافة الراشدة بعد سقوطها وإسقاطها، وهذا يخلق مشكلة فى المفاهيم( ).
مصادر قبول «علم أصول الفقه التقليدى» أعمال وفتاوى وتطبيقات واجتهاد معاوية بن أبى سفيان فى الحكم والإدارة باعتبارها سُنة هو إدخال العرف ضمن مصادر التشريع السبعة فى مذهب الإمام أبى حنيفة وكذلك اتفاق العلماء على معاوية بن أبى سفيان كواحدٍ من السلف الصالح الذى يأخذون عنهم الفتوى وقد تم بيان ذلك فى البند الثالث من هذه المقالة وبيان مراجعه وقد تتواتر الفتوى أيضاً باعتبار أن الفقهاء الذين عاصروا ظروف القرون الوسطى أجمعوا على جدوى الأخذ بنمط الحكم الأموى (قياس المصلحة)، ولكن الأمر قد تغير اليوم فى العصور الحديثة وأصبح من الممكن إحياء نهج النبوة والخلافة الراشدة فى الحكم والإدارة وإدخال خصائصه فى نسيج النظام السياسى بآليات الديمقراطية والتوافق الحقيقى مع مبادئ حقوق الإنسان( )، ووجب أن نميز اليوم بين النمطين وننسب ما هو سنةً للرسول صلى الله عليه و سلم وما للدولة الأموية وما لمعاوية بن أبى سفيان وباسمه تمييزاً له عن صحيح السنة.
لقد نشأت الديمقراطية فى البلاد الغربية على أفكار وكتابات العلمانية والتنوير والليبرالية( )، ومن الناحية العملية دخلت إلى حيز التطبيق بناءً على نظريات تنتمى إلى علم السياسة وهى «العقد الاجتماعى لجان جاك روسو» و«الفصل بين السلطات لمنتسكيو» ودخلت فى نسيج النظم السياسية الحديثة بآليات الديمقراطية «حرية الرأى وتكويين الأحزاب وآليات الانتخاب»، وقد نجحت آليات الديمقراطية نجاحاً باهراً فى تحقيق «اختيار الشعب لمن يمثله ويفوضه السلطة العامة بما يضمن اختيار الأكثر كفاءةً وأمانةً ويحاسبه ويطبق عليه القانون بالعزل من المنصب أو العقاب إذا أخطأ أو انحرف»، ومن الناحية العملية هذه كلها صفات الوكيل عن الشعب كما هو فى صحيح فقه السنة( )، وهكذا على الرغم من عدم قبول الإسلام للمقدمات التى تُبنى عليها الأفكار «العلمانية والتنوير والليبرالية» إلا أنه يتفق تماماً مع «الأهداف التى تحققها الديمقراطية» ويقبل تمام القبول نظريات «العقد الاجتماعى» و«الفصل بين السلطات» و«آليات الديمقراطية» حيث تنتمى كلها إلى العلوم السياسية والاستفادة منها مثل الاستفادة من كافة العلوم الإنسانية حيث يسمح الأخذ بها لسُنَّةِ الرسول فى الحكم والإدارة أن تجد نظاماً سياسياً تقوم عليه فلا تتكرر أحداث الفتنة الكبرى، وفى هذا الشأن تصبح «ممارسة الديمقراطية وآلياتها» من الأمور المسكوت عنها فى عرف «علم أصول الفقه التقليدى» لأنه لا توجد سابقة يمكن القياس عليها، بينما هى ضرورة ومكون أساس عند الأخذ «بدستورية القرآن الكريم»( ) وبالتالى يُصبح تزوير الانتخابات مُؤَثَّماً عند ذلك.
بالأخذ بالإطار الدستورى للقرآن الكريم يسهل الفصل بين النمطين فلا شرعية ولا شفاعة لعدم تطبيق الحدود على مرتكبى الكبائر المعتدين على المال العام ومرتكبى جرائم البغى والتعذيب والرافضين لتطبيق حدود الله على أصحاب السلطة والجاه فهذه أحد أركان دستورية القرآن الكريم وهناك الحديث الصحيح للرسول الكريم إلى أسامة بن زيد بعدم الشفاعة فى تطبيق الحدود ولو كانت فاطمة بنت محمد( )، وبالأخذ «بدستورية القرآن الكريم» وتطبيق الرقابة الدستورية على «النمط الأموى فى الحكم والإدارة» يثبت عدم شرعيته، لقد قبله السلف الصالح لضرورة وجود نظام سياسى يدير الدولة ولم يكن موجوداً أفضل منه (و من السموم الناقعات دواءُ)، أما اليوم فهو تاريخ وانتهت شرعيته، وعلى الفقهاء الأصوليين أن يفصلوا فى استخدام اصطلاح السنة بين نمطى «الخلافة الراشدة» و«النمط الأموى فى الحكم والإدارة».

7ـ الخلاصة

من الثابت علميا وتاريخيا وفقهيا وبنص القرآن الكريم (سورة الحجر، آية9)، (سورة يونس، آية 64)، أن نصوص القرآن الكريم قطعية، ولكنها من حيث الدلالة تنقسم إلى قسمين رئيسين الأول (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ) و (وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ) وذلك حسب الآية الكريمة (سورة آل عمران، آية 7)، حيث تمثل الآيات المحكمات الجزء الثابت من الرسالة السماوية فهى «قطعية النص قطعية الدلالة»، وهى بأمر القرآن الكريم «أم الكتاب» حيث تنبع منها المبادئ والأحكام الآساس فى الدين الإسلامى عقيدةٌ وشريعة وعبادات التى لا تتغير بالزمان والمكان وتكاد أن تكون من الثوابت الكونية، وتمثل الآيات المتشابهات الجزء متحرك الدلالة للإشارة إلى مُراد الله من البشر مع المتغيرات ولهم أن يختلفوا فى دلالتها باختلاف الزمان والمكان والعلوم والمفاهيم حيث دلالاتها ظنية، ولكن من المفترض بأن يكون الاختلاف بما لا يناقض ثوابت الدين المعرَّفة من خلال الآيات المحكمات، أى أن تدور دلالات «الآيات المتشابهات» فى فلك وإطار الآيات المحكمات اللاتى هن أم الكتاب ورواسيه .
وفى الآية المحكمة الكريمة (سورة النساء، آية 59) ومعها الآيات (سورة النجم، آية 1ـ5) تبين أن «القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة» هما عنصرى الرسالة السماوية وأن كليهما موحى به من الله سبحانه وتعالى إلى رسوله الكريم، حيث تقوم السنة بتفصيل ما جاء فى القرآن الكريم وتقييد مطلقه وبيان مُحكمه، أمَّا كل ما يصدر عن أولى الأمر فهو من الشئون البشرية التى يجوز التنازع والاختلاف فيها والحكم يكون بمرجعية رد الأمر إلى الله ورسوله، أى إلى «القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة».
فى حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى معاذ بن جبل عندما أرسله عاملاً على اليمن بيَّن تدرج مصادر التشريع الإسلامى لتكون بالترتيب: القرآن الكريم، السنة النبوية المشرفة، ثم الاجتهاد الذى يقدمه كل من لديه العلم والقدرة.
لضبط الفتوى والأحكام الشرعية على مرجعية القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة؛ نشأ «علم أصول الفقه»، ويجب أن نلاحظ أن مصادر التشريع ومقاصد التشريع ينتميان إلى ما جاء فى نبأ السماء، أما مناهج استنباط الأحكام من مصادر التشريع فتنتمى إلى أعمال البشر وآرائهم، أول من كتب فى «علم أصول الفقه» هو الإمام الشافعى رضى الله عنه فى كتابه الموسوم «بالرسالة»، وكان ذلك فى القرن الثانى الهجرى وجاء من بعده أئمة ومذاهب ولكن ظل هذا العلم أساسه حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى معاذ بن جبل المذكور فى الفقرة السابقة، وأضيف إليه تفصيل مناهج الاجتهاد فيما كتب عمر بن الخطاب إلى قاضيه بالبصرة أبى موسى الأشعرى «فيما ليس فى كتابٍ ولا سنة بالبحث عن الأشباه والأمثال، وقياس الأمور عليها»، ويرصد المتابعون لهذا العلم أن تأسيس هذا العلم قد تم فى القرنين الثانى والثالث من الهجرة؛ وهى الحقبة التى عاصرت الأئمة الأربعة، وكذلك تأسس «الفقه على المذاهب الأربعة» (الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة)، وقد تمتد هذه المرحلة بوجود كبار الأئمة التابعين لهذه المذاهب بما قدموه حتى منتصف القرن الخامس الهجرى ولكنها فى رأى الجميع تنتهى بسقوط بغداد فى يد التتار الغزاة سنة 656 هجرية، لتبدأ المرحلة الأخيرة وتبقى مستمرة حتى يومنا هذا وتتميز بتوقف الاجتهاد وجمود الفقه واللجوء إلى التقليد والتمذهب الفقهى، ونستطيع أن نسميه «عصر التقليد» حيث توسع فقهاء هذا العلم فى جمع السوابق القضائية من الفتاوى والأحكام عن الصحابة والتابعين وتابعى التابعين وقاموا بتدقيق الأحكام ومقارنتها حتى تكونت ثروة فقهية هائلة فى هذا الشأن، ولا زال هذا الجهد قائماً حتى اليوم ولكن دون أى إضافة تغير أسس هذا العلم.
بالنظر إلى كل ذلك من منظور «النظام التشريعى الحديث» وعناصره نجد أن «علم أصول الفقه» كما أسسه الإمام الشافعى رضى الله عنه وحتى اليوم بحالته التقليدية القائمة يمثل نظاماً تشريعياً بمفهوم ما قَبْلَ معرفة البشرية بالدساتير التى لا غنى عنها فى أى نظام تشريعى حديث، وهذا طبعى لأن علم أصول الفقه نشأ فى القرن الثامن الميلادى وتوقف الاجتهاد فيه فى القرن الرابع عشر الميلادى بينما أول دستور مكتوب فى تاريخ البشرية وهو الدستور الأمريكى قد كُتِبَ عام 1776 ميلادية.
«علم أصول الفقه التقليدى» ينظر إلى ما فى «القرآن الكريم والسنة» من المبادئ قطعية النص قطعية الدلالة باعتبارها مبادئ تشريعية على مستوى موضوعات القانون الفرعية الجزئية «مثل أحكام الأحوال الشخصية، والمدنية، والجنائية، والمرافعات، وعلاقة الحاكم بالمحكوم، والأحكام الدولية وغير ذلك»، حيث تنظم كلٌّ منها موضوعاً جزئياً منفصلاً ولا يربطها جميعاً رباطٌ جامع مانع، وإذا وُجد هذا الرابط تم استنباطه بالاستقراء من الفرع إلى الكل مثلما حدث فى استنباطه لمقاصد المكلفين الخمسة التقليدية (حفظ النفس والعقل والدين والعِرض والمال)، وهو رباط لا يمثل إطاراً مقفلاً، وبالتالى لا يعطى تعريفاً جامعاً مانعاً للأعمال الشرعية وهو الدور المطلوب من الدساتير فى النظم التشريعية الحديثة وبالتالى يُمكن أن يقوم على أساسه عمل الرقابة الدستورية على التشريعات والأحكام فى الموضوعات الجزئية والتطبيقات الفقهية.
دستورية القرآن الكريم تعنى الاعتراف بوجود إطار عام للمعاملات الإسلامية مكون من الآيات المحكمات اللاتى هن أم الكتاب وثوابت السنة النبوية المتواترة المتوافقة مع هذا الإطار والداعمة له وهى تشكل فئة مقفلة من الأعمال الشرعية لا يتداخل معها شئٌ يحرِّمُه الله ورسوله واتخاذه إطاراً دستورياً للتشريع الإسلامى.
الإطار العام للمعاملات الإسلامية أساساته هى العدل والرحمة والإحسان وتأدية الأمانات إلى أهلها، أما آداب التقاضى وواجباته فهى القسط فى الشهادة، وعدم كتمانها، وتحريم قول الزور، أما فى القصاص فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به.
العلاقة الإسلامية الشرعية بين الحكام والمحكومين مبادؤها هى:
• العدل والمساواة والرحمة .
• الشورى، (سورة آل عمران، آية 159) و(سورة الشورى، آية 38).
• التعفف عن التمتع بأبهة السلطة أو اكتساب النفوذ الاجتماعي أو التربح منها (سورة الأحزاب، آية 28، 29).
• السلطة أمانة لا تُستخدم لغير الغرض التى فُوضت من أجله والاعتراف للرعية بحقها فى محاسبة الحاكم ومراجعته على السلطة العامة وعلى المال العام، وهذا واضحٌ من خطبتى استهلال الحكم من أبى بكرٍ وعمر وغيرها من سنة الرسول الكريم وخلفائه الراشدين فى الحكم والإدارة.
• وأخيراً رد المظالم قبل مغادرة مقعد السلطة بالوفاة أو بغير ذلك، وهذا واضحٌ من ذكر الخبر عن مرض رسول الله صلى الله عليه و سلم الذى توفى فيه، وكذلك فعل خلفائه الراشدين.
نظام الدولة الإسلامية على نهج النبوة والخلافة الراشدة وباصطلاحات العصر الحديث أساسه «الديمقراطية وحقوق الإنسان».
الهدف العام من الشريعة هو «التنمية المستدامة لعمارة الأرض» على أن يتم ذلك من «داخل الإطار الشرعى للمعاملات الإسلامية»، ونتيجةً لذلك يكتسب الإنسان التزكية الأخلاقية والسلوكية والعلمية التى تؤهله للحياة فى ملكوت الله الأعلى مع مخلوقاته الصالحة (سورة النحل: الآية 76)، وبهذا يصبح المسلمون فى حركة دائمة إلى يوم القيامة باحثين عن التطور تقارباً إلى علاقاتٍ اجتماعية شاملةٍ مُثلى تُعَظِّمُ الأمن والرفاهية.

تداعيات وضوح الإطار والهدف الدستورى على «علم أصول الفقه»:
• بوضوح الإطار الدستورى العام الذى أساسه «الديمقراطية وحقوق الإنسان» وهدفه «التنمية المستدامة لعمارة الأرض»، يتضح أمام المسلمين مشروعهم الحضارى فى العصر الحديث وإلى يوم الدين، وبذلك تنحل «مشكلة التراث والمعاصرة» حيث الحل فى «علم أصول الفقه».
• عدم الخلط بين «النمط الأموى فى الحكم والإدارة»، وهو النمط الذى استحدثه معاوية بن أبى سفيان فى بلاد المسلمين فى ظروف القرون الوسطى، و«سنة الرسول الكريم وخلفائه الراشدين فى الحكم والإدارة»، حيث يقع النمط الأموى فى كثيرٍ من أعماله وخصائصه خارج الإطار الدستورى المستنبط وجوبياً من القرآن الكريم.
• منع اختراق الشريعة الإسلامية بالتشريعات الغربية مع إلباسها الشكل الإسلامى.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *