الأسس الفيزيقية للعقيدة والشريعة الإسلامية

في موضوع الحوار بين الحضارات
(دفاعاً عن الإسلام وليس دفاعاً عن المسلمين)

الأسس الفيزيقية للعقيدة والشريعة الإسلامية

دكتور/ بهاء الدين محمود محمد منصور

مجلة مركز صالح كامل للاقتصاد الإسلامى ، جامعة الأزهر ، السنة العاشرة – العدد التاسع و العشرون ، 1427 هجرية – 2006 م

1- مقدمة
فى يوم الخميس الثانى عشر من يناير عام ألفين وستة أعلن السيد جورج بوش رئيس الولايات المتحدة الأمريكية إنشاء أقسام إجبارية داخل المدارس الحكومية الأمريكية من الإبتدائية حتى الثـانوية لتدريس اللغة العربية والفارسية والصينية على أن يكون الالتحاق اختياريا لمن يريد من طلبة المدارس، وفى تعليق قناة الجزيرة القطرية على الخبر تم استضافة ثلاثة من كبار الشخصيات الأمريكية والانجليزية من الذين يجيدون اللغة العربية ومنهم الملحق الثقافى فى السفارة الأمريكية بالقاهرة، حيث دار الحديث عن القصد من هذا الإجراء حيث أوضح المجتمعون أن قصد الإدارة الأمريكية هو تجهيز جمع كبير من الأفراد الذين يمكنهم اختراق المجتمعات والثقافات العربية بإجادتهم اللغة العربية بغرض تفكيك الثقافة والمجتمع .
تماماً بهدف تكرار تجربة تفكيك الاتحاد السوفياتى فى التسعينيات فيما يُعتبر فى القاموس السياسى المعاصر استخدام الثقافة لضرب الدول وتفكيكها باعتبار أن الثقافة قوة ناعمة على حد تعبير ضيوف البرنامج، إذن الرئيس بوش ومستشاريه يعتبرون أن لديهم الحضارة والثقافة الأقوى التى ستجعل الثقافة العربية تنحل أمامها بما يجعلها تذوب فى منظومة العولمة والحضارة والقيم الغربية.
الثقافة الإسلامية مكون أساس من مكونات الشخصية والثقافة العربية ولا يمكن الفصل بينهم، إذن الإسلام نفسه مُستهدف مالم يُقِمْ منظومةً من القيم الفردية والاجتماعية تنشئ حضارة حديثة تساوى أو تتفوق على الحضارة الغربية المادية ولا يكفى أن يتحصن المسلمون بما ينتظر المسلم بعد الموت، فهذا لن يصمد أمام ما توفره الحضارة الغربية من محسوساتٍ تشبع الحاجات المادية التى يبدو أنها مرتبكة فى القاموس السياسى والاقتصادى الإسلامى المعاصر .
خالق الكون واحد، وبالتالى لابد من أن تكون هناك آساسٌ وغاياتٌ واحدةٌ تجمع الأنباء التى تأتينا من وحى السماء وتلك التى تجرى على الأرض، وبالتالى فإن الحقائق الفيزيقية لا يُمكن إلا أن تؤازر نبأ السماء، وفى هذا السياق نجد أن الإنسان وجد نفسه على الأرض يمارس حياته ويتعرف عليها وعلى ما يحيط بوعيه وحياته من تساؤلاتٍ، ويبحث عن حلول للحصول على احتياجاته، وكان ذلك لحقب طويلة قبل أن يأتيه نبأُ السماء وهديه، أى أن وعيه بالحقائق الفيزيقية التى تشكل واقع حياته يسبق زمنيا وعيه بهدى السماء، بل ومن المنطقى وبطبيعة الأمور أن يشكل القاعدة المعرفية التى يستند عليها وعيه بما يشير إليه هدى السماء دون أى تعارضٍ بينهما، بناء على ذلك لنا أن نفترض أن ما وصلنا عن وجود الله سبحانه كنا سنعرفه بناء على ما يتكشف لنا عن الحقائق الفيزيقية الكونية أو نكاد أن نفعل ذلك، وبأن ما أوصى به هدى الله من معاملات شرعية بين البشر لا يُمكن إلا أن يكون عاملاً مساعداً لتحقيق التوازن الطبعى الذى تتقارب منه العلاقات بين البشر لو تُرِكوا لأنفسهم بغير هدى السماء، هذه الفروض هى التى سنختبر صحتها فى هذا البحث.

2 – وجود الخالق لهذا الكون

تقوم البنية الأساسية للعلم الفيزيقى على أساس من قوانين المنطق والرياضيات، وهى قوانين تضع القواعد التى تجعل الفكر يتسق مع نفسه، وبالتالى فإن ما يتم استنباطه على أساس علوم المنطق والرياضيات تعتبر قضايا تحصيل حاصل كانت متضمنة أصلاً فى المقدمات .
ثم هناك قضايا علمية اختبر الإنسان تحقق صحتها تجريبيا بواحدة أو أكثر من حواسه الخمس، وهذا المعيار يسمح لنا بالحصول على القضايا الأولية التى يُبنى عليها النسق العلمى بالتحليل والتركيب، وفى المراحل الأعلى من البحث العلمى يُدخل العلماء رؤاهم وبصيرتهم ويُضيفون فروضاً يرونها منطقية ومتسقة مع ما يعلمون لكى يُصيغوا نظريات علمية لكى يسبروا غور ما لم نستطع لمسه بالحواس الخمسة، ثم يختبرون فروضهم هذه بالتجارب الفاصلة التى تقطع بصدق أو نفى ما افترضوا صحته من القضايا العلمية فتنتقل قضاياهم من فئة الفروض ذوات الصبغة العلمية إلى نظريات صادقة علميا.
خارج هذا الإطار توجد قوانين تمثل بنية أساسية للعلوم الفيزيقية ومع ذلك لا يُمكن التحقق من صحتها تجريبا ولا يمكن اعتبارها من قوانين الفكر أو المنطق أو الرياضيات .

مثال لذلك ؛ قانون العِلـيَّة أو «قانون العلَّة الكافية» ويعنى أن كل ما هو موجود لابد أن تكون له علَّة كافية لوجوده بحيث تجعله على نحو ما هو عليه وليس على أى نحوٍ آخر، حيث يشير فى جانبٍ منه إلى العلل والأسباب التى تكمن وراء الظواهر فى الكون، وبالتالى فإن له دلالة تجريبية لأن الفرض مسبقاً بصحة قانون العلِّية معادل للفرض مسبقاً بأن «هناك قوانين للطبيعة»، ويكمل ذلك الفرض مسبقاً بوجود خواص للماهيات تجعلها لا تتبدل بغير مؤثرات وأسباب، إذن ما لا يندرج وجوده تحت قانون العلية فهو «عرضى» ويمكننا أن نقول باصطلاح فون هيرتز : إن الارتباطات المطردة هى وحدها ما يُمكن التفكير فيه، «إن ما يُمكن وصفه يُمكن حدوثه أيضاً وما يستبعده قانون السببية لا يُمكن وصفه»( )، إذن الفرض مسبقاً بصحة قانون العلُّية ( أو قانون السببية) هو أحد آساس مناهج البحث العلمى( ).
مثل قانون العلّية توجد قوانين طبعية يستخدمها العلماء باعتبارها صحيحةً صحةً مطردة وتمثل بنيةً أساسية للقوانين الطبعية على الرغم من أنها ليست من قوانين المنطق الصورى ولا الرياضيات وغير قابلة للتحقق من صحتها بتجربة فاصلة، مثالٌ لذلك قانون بقاء الكتلة وقانون بقاء الطاقة، وكذلك القانون الثانى للثرموديناميكا.
قانون بقاء الطاقة الذى يعرفه كل من درس العلوم حتى مستوى الثانوية العامة، هو نفسه القانون الأول للثرموديناميكا، وهو وحده لا يكفى لوصف كل الظواهر التى نلاحظها فى تعاملاتنا مع الطاقة وتحولاتها لأن هناك ظاهرة فرق الجهد وهى الظاهرة الناتجة عن فروق الخواص ذات الدفع مثل الضغط ودرجات الحرارة، وأيضاً الناتجة عن فروق الفولت فى الكهرباء وتواجد الكتل فى ارتفاعات عن سطح الأرض بما يعنى وجود شغل ميكانيكى مخزون فى هذه الكتلة تبذله أثناء نزولها، ظاهرة فرق الجهد هذه، يتعامل معها، ويصفها القانون الثانى للثرموديناميكا.

2-1. القانون الثانى للثرموديناميكا:
«الحرارة لا يمكن أن تنتقل عفويا بدون مؤثر خارجى، وذلك من درجة الحرارة المنخفضة إلى درجة الحرارة الأعلى».
وقدم أيضا الدالة المرافقة لهذا القانون، وهى دالة الإنتروبى، وتساوى كمية الحرارة المضافة أو المزالة مقسومة على درجة الحرارة المطلقة، أى هى ناتج قسمة كميتين مقاستين محسوستين، وبالتالى هى دالة علمية مقاسة تصف بأرقام محسوبة، ظاهرة تفكك وانهيار فرق الجهد.
فى عام 1872م كشف بولتزمان عن العلاقة بين مفهوم الإنتروبى والإحتمالات، مما أدى إلى ظهور علم الثرموديناميكا الإحصائى، بحيث استقر مفهوم زيادة الانتروبى باعتباره انتقال النظام من حالة أقل احتمالا إلى أخرى أكثر احتمالا.
وبعد ذلك ظهر مفهوم الإنتروبى أيضا فى نظرية المعلومات على نفس الأسس المماثلة لعلم الثرموديناميكا الإحصائى.
وهكذا أدى تبادل الإيحاءات والمفاهيم بين القانون الثانى للثرموديناميكا ودالته المرافقة، وهى الانتروبى، إلى إثراء مفهوم ظاهرة فرق الجهد لتشمل، وعلى نفس النمط المنطقى والرياضى، ظاهرة تنسيق المكونات لتكون نظاما يمكن أن يؤدى إلى غرض ما، باعتباره نوعا من إضافة فرق الجهد (علم الإحصاء الثرموديناميكى)، ومماثلا أيضا وعلى نفس النمط، نصف ظاهرة جمع وترتيب المعلومات، باعتباره أيضاً، نوعاً من إضافة فرق الجهد (نظرية المعلومات).
وهكذا نخلص إلى أن الإنتروبى الاجمالى يأخذ شكل المتجه مركباته هى «اللاتحدد فى المعلومات، والفوضى فى النظم، والفقد فى الطاقة الموجودة على فرق جهد»( ).
فى عام 1865م، قدم كلاوزيوس القانونين الأول والثانى للثرموديناميكا معا كالآتي:
• طاقة الكون ثابتة
• الإنتروبى فى الكون يتجه إلى قيمته القصوى (مبدأ زيادة الإنتروبى)
تساق التغيرات بتأثير فرق الجهد الذى نحتاج لأن نتحكم فيه لكى نستفيد من هذه التغيرات. أما إذا لم نتحكم فى هذه العمليات فسوف تندفع التغيرات عفويا بتأثير فرق الجهد حتى يستنفذ أو يوجد ما يوقف العملية من خارجها.
على الجانب الآخر، بمفهوم الإنتروبى الإحصائى، فإن الوصول إلى الإنتروبى الأقصى يعنى الوصول إلى أكثر الحالات احتمالا. بمفاهيم نظرية الاحتمالات، فإن النظم تسعى بطبيعتها، تحت تأثير فرق الجهد، إلى الانتقال من الحالة ذات الاحتمال الأقل إلى الحالة ذات الاحتمال الأكبر حتى تصل إلى أكثر الحالات احتمالا.
وهكذا نخلص إلى أن النظم المنعزلة تتجه إلى حالة أقصى إنتروبى عفويا بتأثير فرق الجهد للخواص ذات الدفع وبتأثير الميل إلى الاتجاه إلى الحالات الأكثر احتمالا، وهذا هو مبدأ زيادة الإنتروبى فى علم الثرموديناميكا( ).

2-2. الأفعال العمدية مصدرٌ لتوليد الإنتروبى السالب( )
لا يمكن دفع العمليات ضد اتجاهها العفوى إلا بالأفعال العمدية، ويهدف المؤلف فى هذا البحث إلى بيان أن الإنتروبى السالب هو كمية طبيعية حقيقية يمكن إنتاجها وإضافتها إلى النظم بالأفعال العمدية، بالنظر إلى صور الإنتروبى الثلاثة، يمكن تنفيذ أعمال عكس العفوية، مثال لذلك؛ تقليص اللاتحدد بالمعلومات، تقليل الفوضى بالأفعال العمدية، وتخليق الطاقة الحرة (وهى الطاقة القابلة للانطلاق لوجودها على فرق جهد).
بناء على قانون أينشتين، فإن الطاقة والكتلة يمكن أن يتحول أحدهما إلى الآخر، وبذلك تكون هذه الطاقة الحرة الناتجة، هى إنتروبى سالب مخلق من مصدر مصنف من غير أنواع الطاقة، لأنها ناتجة من الكتلة.
أما المثل البارز الثانى فهو التمثيل الغذائى الضوئى بوساطة النبات، حيث يتم استخلاص الأكسوجين وتخزين الكربوهيدرات من ثانى أكسيد الكربون والماء. إنها عملية عكس الاتجاه العفوى للتفاعل الكيماوى تنفذ من خلال سلسلة من الأعمال العمدية ولا يمكن أن تنفذ إلا بوساطة النبات الحى.
وهكذا نستطيع أن نخلص إلى أن الإنتروبى بصوره الثلاثة قابل للتقليل فى أى نظام بالأفعال العمدية، مثالٌ لذلك :
حتى عام 1939م، كان متجه الإنتروبى السالب لعملية الانشطار النووى قابلا فقط لملء المدخل الأول منه (وهو المعلومات) وبعد وصول المعلومات إلى حجم مناسب، فإن قرارا بإنتاج الطاقة الحرة (من وقود نووى قابل للانشطار) قد أصبح قابلا للاتخاذ، وأن هناك عملية صنـاعية قد أصبحت أيضا قابلة للتوصيف. ومع التنفيذ الدقيق لصناعة الانشطار النووى نضع المدخل الثانى للمتجـه. وعندما تم تنفيذ الانشطار النووى، تم استكمال المدخل الثالث للمتجه بتوليد الطاقة الحرة من مصدر مصنف من غير أنواع الطاقة( ).

2-3. خلق الكون
بناء على القانون الثانى للثرموديناميكا ومبدأ زيادة الإنتروبى معا، فإن نقص اللاتحدد بظهور المعلومات أو ترتيب النظام أو رفع أى كمية من الطاقة إلى درجة أعلى من فرق الجهد (أى خلق الطاقة الحرة)، كل هذه العمليات هى أفعال عكس الاتجاه العفوى للتغيير فى الطبيعة، وهذا يعنى أن «الإنتروبى السالب لا يمكن أن يتولد أو يضاف عفويا فى النظام المعزول».
بإثبات أن الإنتروبى السالب يمكن إنتاجه بالأفعال العمدية، وبملاحظة وجود نظم شغالة، قد تم تجميعها من مكوناتها الأولية بنجاح فضلاً عن مخزون الطاقة الحرة الموجود فى الكون لينبىء عن أفعال عمدية قد تم اتخاذها من قبل . هذه الأفعال العمدية قد عكست الميل العفوى للنظم من التحلل إلى التركيب فى نظم منتظمة شغالة. فضلا عن أن هذه الأفعال العمدية قد خلقت الطاقة الحرة التى من المستحيل أن تنشأ عفويا بذاتها حسب القانون الثانى للثرموديناميكا. فضلا عن ذلك فإن عدم تحلل هذه النظم مع صيانتها شغالة مع التحكم فى إنفاق الطاقة الحرة دون انطلاقها عفويا ليشير إلى أن هناك أفعالا عمدية لازالت تقدم وتضاف إلى هذا الكون.
إذا نظرنا إلى عناصر هذه الأفعال العمدية فلابد من أن تكون هى نفسها عناصر الإنتروبى السالب. وهى «المعلومات الضرورية، القدرة على ترتيب النظم/الكون فضلا عن خلق الطاقة الحرة». ومن يفعل ذلك لابد من أن يكون هو «العليم، الخبير، القدير، سبحانه»، وبذلك يكون القول بوجود الخالق العليم الخبير يستند على التداعيات المنطقية الناتجة بالضرورة من القانون الثانى للثرموديناميكا الضارب بجذوره فى أعماق البنية التحتية للعلوم الطبيعية، وبذلك يكتسب القول بأن الكون قد تم خلقه بفعل عمدى قوة ويقين القضية العلمية الصحيحة( ).
من الملاحظ أن مبدأ زيادة الإنتروبى الشهير فى علم الثرموديناميكا هو مبدأ صحيح فى النظم الميتة، فكل نظمها وفروق الجهد فيها تتحلل عفويا، أما النظم الحية فهى وحدها القادرة على خلق الإنتروبى السالب حيث تضيفه إما لنفسها أو لغيرها؛ فالنبات والحيوان والإنسان يتحللون بالموت، بينما لو أخذنا مكونات كلٍّ منهم من المواد فلا يوجد من يستطيع تشكيلها على صورة أجسامها إلا أن يكون هناك حياة فى كلٍّ منها وهذا التشكيل يمثل إنتروبى سالب يضاف داخل كياناتها الحية، فضلاً على ذلك يضيف كل منهم بنشاطه نوعا من الإنتروبى السالب على البيئة حوله فالنبات يحلل ثانى أكسيد الكربون إلى مكوناته الأصلية من أكسوجين وكربون وهذا عكس الاتجاه العفوى للتفاعل الكيماوى مضيفا فرق جهد كيماوى إلى هذا الكون، أما الحيوان فيضيف الإنتروبى السالب لبيئته باكتساب المعلومات والخبرات لنفسه وترتيبه لبيئته بناءً على خبراته، فضلاً عن تكوين الغذاء الحيوانى، فهذه التكوينات هى أيضاً عكس الاتجاه العفوى للتفاعلات الكيماوية بين مكونات البروتين، وأما الإنسان فإضافاته فى خلق المعارف وترتيب البيئة لخدمة أغراضه ثم خلق فرق الجهد بالمعنى الصريح من تحويل الكتلة إلى طاقة فكلها تعنى أن الكيانات الحية لا ينطبق عليها مبدأ زيادة الإنتروبى بمعناه المطلق، فهى تنقص الإنتروبى بأفعالها العمدية لصالح نفسها فى أحيانٍ كثيرة وبدرجاتٍ مختلفة .
وهكذا على الرغم من أنه لا يمكن التحقق تجريبياً من وجود خالق هذا الكون سبحانه وتعالى، إلا أن ثبوت خلق الكون بفعل عمدى ظاهرٌ بناءً على تحليلات القانون الثانى للثرموديناميكا، وأن الخالق كيان حى ذو إرادة قادر على اكتساب المعرفة والعلم والخبرة ولديه القدرة على ترتيب هذا الكون وخلق فروق الجهد فيه .
بناءً على القانون الثانى للثرموديناميكا، فعلى الرغم من سابق خلقه من قبل بفعلٍ عمدى إلا أن من المنتظر أن يسير الكون إلى حالة الاضمحلال وذلك بتحوله إلى حالة الإنتروبى القصوى، ولا يمكن أن يستمر منظماً إلا فى حالة واحدة هى أن يكون هناك كيانٌ حى يرعاه حتى اليوم، سواءٌ من داخله أو من خارجه .

3 – الله والكون وخلق الإنسان

هذا الكون الذى خلقه خالق عليم قدير مهيمن بفعل عمدى، لا يُمكن أن يتواجد فيه الإنسان بالصدفة أو بغير هدف، وإذا كان أحدث ما وصل إليه الإنسان من علم هو الذى عرَّفنا بوجود خالق هذا الكون استناداً على كل ما لدينا من مبادئ المنطق والرياضيات والعلوم التجريبية، فإن هذه المعارف نفسها هى التى يمكن أن تشكل الأساس الصحيح لفهم الحكمة من خلق الإنسان حتى يتوافق معها، بهذه المبادئ نقرأ قصة خلق الإنسان كما جاءت فى القرآن الكريم .
( هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ ) (سورة آل عمران: الآية 7)
فما الذى جاء فى الكتاب من آيات محكمات لا تحتمل التأويل عن الله والكون وخلق الإنسان
( قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ * ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ) (سورة فصلت: الآيات 9ـ12)
(اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (سورة النور: الآية35)
(إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ) (سورة فاطر: الآية 41).
وهذا يعنى أن الله خلق الكون بفعلٍ عمدى، وأنه سبحانه لا زال أساس إحياء الكون وبغيره يتحول إلى كيان ميت يضمحل إلى مكوناته الأساسية ((Maximum entropy principle.
(وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ) (سورة النور: الآية 42)،
( وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ ) (سورة الرعد: الآية 15)
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ) (سورة النور: الآية 41)
(لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً ) (سورة النساء: الآية 172)
(وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ إِلاَّ ) (سورة الزمر: 75).
كل ما فى الكون يسبح لله ويتوافق مع شريعته الكونية، ومخلوقاته بما فى ذلك الملائكة(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ) (سورة التحريم: 6)
ولكن للإنسان طبيعة مختلفة عن كل مخلوقات الله سبحانه وتعالى فى هذا الكون، فكلها لها برامج لا تخرج عنها، عدا الإنسان فقد وهبه الله حرية الإرادة وحرية الاختيار والعقل فما الضمانات ألا يهديه عقله إلى ما يُفسد نظام الكون.
(إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً ) (سورة الأحزاب: 72)
لو اهتدى إلى صحيح شريعة الله الكونية فقد حاز الدرجات العالية فوق مخلوقات الله المبرمجة، وإذا فهم الأمور وتصرف بما يفسد ملكوت الله فلابد من إبعاده وتحجيم دوره، هذا ما يقوله المنطق :
( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَـؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ * وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِن الْكَافِرِينَ * وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ * فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ * فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُولَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) (سورة البقرة: الآيات 30 ـ 39).
(وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (115) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى (116) فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنْ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117) إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى (119) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى (120) فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122) قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى (126)) (سورة طه: الآيات 115 ـ 126)
(وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنْ السَّاجِدِينَ (11) قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنْ الصَّاغِرِينَ (13) قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنْ الْمُنظَرِينَ (15) قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17) قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُوماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18) وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنْ الظَّالِمِينَ (19) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنْ الْخَالِدِينَ (20) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنْ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ (23) قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24) قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25) ) (سورة الأعراف: الآيات 11ـ25).
فى البداية كان عرض الأمانة والسماح بالاختيار، فما هى طبيعة هذه الأمانة ؛ إنها القدرة على إنتاج الإنتروبى السالب بصوره الثلاثة؛ إنتاج المعلومات وترتيب المعارف وإنتاج النظريات، ترتيب وتنظيم البيئة وحرية اتخاذ القرار وامتلاك الإرادة، وإعطاء هذه الأمانة لمخلوقٍ دون أن يرعاها حق رعايتها سوف يؤدى إلى اضطراب فى ملكوت الله، كل هذا واضح من منح آدم الفرصة للحياة فى الجنة التى هى ملكوت الله سبحانه وتعالى مع تكليفه بعدم الاقتراب من شجرة معينة بما يعنى أن هناك عقداً اجتماعياً ونظاماً على من يريد العيش فى ملكوت الله أن يحترمه، وحدث ما تخوَّف منه الملائكة لقد ضل الطريق ولم يرع أمر الله حق رعايته، ولكن الله العليم يعلم ما لا يعلمون فلو جمع الإنسان ما يلزم من العلم والخبرة لتمالك إرادة نفسه ولأحسن العمل وعلى ذلك فلينزل إلى معسكرٍ تدريبى يواجه فيه من الممارسة والمواقف ما يصقل إدراكه وإرادته فيدرك كُنه شرع الله ومزايا وجدوى اتباعه، رحلة الإنسان على الأرض ليست عقوبةً ولا انتقام لخطأ آدم عليه السلام وأن عذاب الناس أو إقامة الحجة عليهم أمر لا معنى له على الإطلاق :
(مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً ) (سورة النساء: الآية 147)
(أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (سورة المائدة: الآية 40)
فخطأ آدم عليه السلام بالأكل من الشجرة التى حرَّمها الله عليه كان متوقعاً من قبل الملائكة، بل وإن الله سبحانه وتعالى قد أخبرهم بأنه جاعلٌ فى الأرض خليفة، ومع ذلك أسكنه الجنة وسيُعيد من يصلح من البشر إليها، إنهم أولئك الذين أدركوا من رحلتهم على الأرض كُنه شريعة الله ومزايا وجدوى اتباعها، ومن عاد منهم فسيكون صالحاً لسكنى الجنة خالداً فيها لقول الله سبحانه وتعالى عنهم: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَار خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ قِيلاً) سورة النساء: الآية 122)، وأنهم (لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا تَأْثِيماً (*) إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً ) (سورة الواقعة: الآيتين 25ـ26) .
إقامة الإنسان على الأرض تمثل معسكراً تدريبياً ذو برنامج دقيق يمر فيه الإنسان من موقف إلى آخر فى تتابع دقيق من صنع الله سبحانه وتعالى (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23) ) (سورة الحديد: الآيتين 22ـ23)، (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ) (سورة ق: الآية 16)، (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ) (سورة القمر: الآية 49).
بينما ينضج فهم الإنسان ويتغير، والمطلوب هو أن يتجاوب البشر مع الله سبحانه وتعالى لأن كل شئ عند الله بمقدار، وأنه لا يغير ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم (اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِي (9) سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10) لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11) ) (سورة الرعد: الآيات 8 ـ 11)
ومن أدخله الله فى ملكوته، إنما يكون ذلك لأن الله يعلم أنه تزكى تزكية مبنية على تغيُّرٍ حقيقى فى النفس وفى الإدراك، أما من يطع الله رياءً فالله يعلمه (وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ (*) بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ) (سورة الأنعام: الآيتين 27ـ 28).
وكان أول أمر من الله هو البحث عن العلم فهو أول صور الإنتروبى السالب الذى يقود لما بعدة من ترتيب للمفاهيم والإدراكات والسلوكيات بما يعنى التزكية الحقيقية وليست ظواهر السلوكيات.
(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)) (سورة العلق: الآيات 1ـ5)
التزكية إلى حيث يُدرك الإنسان شريعة الله الكونية التى يُمكن تشخيصها فى الأوامر والنواهى الآتية:
(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً ) (سورة النساء: الآية 58)
(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) (سورة النحل: الآية 90).
فمن فهم شريعة الله الكونية حق فهمها وأدرك معانيها وتدرب عليها تزكى حيث يقترن الإيمان بصدق العمل الصالح، لا ينفصلان أبدا، والآيات الآتية أمثلة لضرورة اقتران الإيمان بالعمل :
(وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُولَـئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) سورة البقرة: الآية 82)
(وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ) (سورة آل عمران: الآية 57).
(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَار خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ قِيلاً) (سورة النساء: الآية 122).
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ) (سورة يونس: الآية 9).
عالمية الهدى الإلهى إلى البشر بما يعنى عالمية التجربة الإنسانية وتكاملها:
(أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ ) (سورة الأنعام: الآية 90)، (وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ) (سورة يوسف: الآية 104).
(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ) (سورة الأنبياء: الآية 107)، (إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ) (سورة ص: الآية 87)، (إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ) (سورة التكوير: الآية 27)، (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) (سورة النحل: الآية 90).
إذن لقد ألقى الله سبحانه وتعالى قولاً ثقيلاً علينا جميعاً نحن أبناء آدم، لقد خلقنا أحراراً نملك حرية اتخاذ قراراتنا، وخلق لنا عقولاً تعى وتفهم وهى مسئولية هائلة، فلو كانت عقولنا فارغة لا تستند على معلومات ومهارات نعالج بها المواقف التى تعرض لنا (كما حدث لسيدنا آدم عليه السلام) أو امتلأت عقولنا بمفاهيم فاسدة أسأنا التصرف وإن امتلأت بالمفاهيم والإدراكات الصحيحة أصبنا الأعمال الصالحة، لم يعى سيدنا آدم الصواب من الخطأ لقلة فهمه لشريعة الله الكونية، فلم يقدرها حق قدرها، لم تكن لديه خبرة الحياة داخل مجتمع ذو نظامٍ فيحترم هذا النظام فيعطى المجتمع ويأخذ منه بطريقة سوية ( وهى نفس فكرة العقد الاجتماعى بين الفرد والمجتمع )، لم يتجاوب سيدنا آدم التجاوب الصحيح مع النظام الكونى العام فأنزله الله إلى الأرض ليتزكى ويمارس من التجارب هو وذريته ما يعلِّمُه ويُزكيه ويُكسبه المعلومات والمهارات اللازمة فيعى كيف يعيش فى مجتمع ولماذا وكيف يحترم نظامه، ولو عاش تجربةً تقنعه بالمميزات الطبعية للشريعة الكونية بحيث يفهم من أين جاءت شرعيتها وعلى أى منطق فيزيقى تستند لكانت الفائدة أعظم، من المنطقى أن تكون التجربة هى الأصل والهدى مكمل لها لأنك لا يُمكن أن تهدى إلى شئ ليس له سندٌ من منطق فتسير الأمور من فراغ منطقى إلى آخر ولعل ما حدث لسيدنا آدم يُصنف تحت نفس بند الفراغ المنطقى، فلم يستوعب لا معنى ولا جدوى الأوامر التى تلقاها عن الشجرة، حيث يقول الله سبحانه وتعالى فى هذا الشأن (قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى ) (سورة طه: الآية 123)، فمن المنطقى أن يكون الهُدَى إلى طريق ما يبحث المرء عنه، وليس أمراً تعسفياً ليس له أصل وكله من الغيب هدفاً ووسيلةً، ولذلك فإن التعبير القرآنى عن شريعة الله وأوامره ونواهيه، بل والقرآن كله «إنه الذكر الحكيم» وأن الله يذكر بنى آدم بما يعلمونه أصلاً من قبل نزولهم الأرض:
(وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ) (سورة الأعراف: الآية 172).
ينفذها بنو آدم الذين تزكوا من خلال تجربة الأرض وهدى السماء الذى يذكر الإنسان بما يعلم عن ربه سبحانه وتعالى، ولا يلتف أحدٌ منهم حول أوامر الله ونواهيه لأنه اقتنع بحكمة هذا التشريع وضرورته، وأن الأصل فيما يؤدى إلى التزكية هو تجربة الإنسان على الأرض فهى الأصل والأشمل فى فهم شريعة الله الكونية، فهى رحلة محسوبة وليست عفوية حسب ما تسير الأمور (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23) ) (سورة الحديد، آية 22ـ23).
لا يوجد فى الإسلام رهبانية، بل هى محرمة بنصوص لا تحتمل التأويل فى القرآن والأحاديث والسنة النبوية الشريفة، لأن عُزلة الإنسان عن تجربة الحياة على الأرض يُفقد الرحلة الهدف منها، فالهدف هو تقارب الإنسان من اكتشاف المنطق وراء شريعة الله الكونية والتقارب من فهم الحكمة التشريعية المحتمة لهذه الشريعة لأن لها أسس فيزيقية فطرية :
(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) (سورة الروم: الآية 30)، (أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ) سورة الرعد: الآية 17).
وما كان ليمكث فى الأرض إلا ما له أصل من الفيزيقا ولو كان الحق الذى يرسله الله هدىً للبشر أوامر علوي غيبية بلا منطقٍ فيزيقى لكانت نصائح جوفاء لا تشبع ولا تسمن من جوع أو تؤذى من يتبعها وتضيع وقته ومصالحه ولكن الله يطمئن البشر .
والدليل على أن شريعة الله الكونية التى قصد الله سبحانه وتعالى نفاذها فى الأرض وأمر باتباعها فى الدين الإسلامى تقصد خير البشر هو فى وصف الله لأوامره ونواهيه بأنها تحيى الناس، وبالتالى فهى التحقيق الأمثل لما هو فطرىٌّ فى نفوسهم وطبائعهم :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴾(سورة الأنفال: الآية 24).
وأن الإنسان يُخطئ ويصيب ليتقارب من الحل الأمثل من التنظيم والتشريع لحياته على الأرض ولو كانت أعمال البشر نفسها هى المستهدفة وليس اكتساب تغيرٍ فى القلوب لأمر الله بذلك: (إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنْ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ ) ((سورة الشعراء: الآية 4).
والدليل على أن الهدف الإلهى من رحلة الإنسان على الأرض هو تعليم البشر، وأن إعمار الدنيا إعماراً مادياً لا قيمة له عند الله، وأنه يزيل عمارة الأرض المادية الناتجة عن أعمال الإنسان فور انتهاء الغرض من الرحلة على الأرض وبدء التقييم للنفوس وما اكتسبته يوم القيامة :
(إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (7) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً (8) ) (سورة الكهف: الآيتين 7ـ 8)، (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنْ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً ) (سورة الكهف: الآية 45)، (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنْ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتْ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) (سورة يونس: الآية 24)، (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ ) (سورة الحديد: الآية 20).
وهذا معناه أن الشريعة الكونية تكتسب شرعيتها من مصدرين:
الأول هو منطقيتها واتساقها مع ما يحتاج الإنسان ويهدف إليه فى حياته على الأرض أى هى الشريعة المثلى لو تُرك الإنسان على الأرض مدة طويلةً كافية لاهتدى إليها باعتبارها الشريعة المثلى لظروف حياته على الأرض، فهى بوصف الله لها شريعة طبعية فطرية .
والثانى أنها هى نفسها الشريعة الكونية التى تسير عليها المعاملات فى ملكوت السماوات وإلا لكان ما يكتسبه الإنسان منها بلا جدوى بعد عودة الإنسان منها إلى ملكوت الله فى الجنة، فمن المفترض بالنص القرآنى أن يكون هناك تغيرٌ ما قد اكتسبه عباد الله الصالحون حيث لا يسمعون بعد إيابهم إلى الجنة بعد رحلة الأرض لغواً ولا تأثيماً.
ومن المنطقى ألا يكون الحل الأمثل لشكل المعاملات الإنسانية على الأرض (من وجهة نظرٍ بشرية بحتة ) مطابقاً لما أمر الله فى شريعته الكونية بغير مطابقة مدبَّرةٍ من الخالق سبحانه وتعالى، يكون أساسها تطابق ظروف المعاملات التى تشملها التشريعات فى الإثنين، وكأن المجتمع البشرى بعد تزكيته يماثل المجتمع فى قوانينه نفس قوانين المعاملات بين مخلوقات الله فى ملكوته، فالإنسان الذى يعود إلى الجنة هو فرد آخر تم تزكيته غير ذلك الذى أُخرج منها حيث يقول المولى سبحانه وتعالى عن عباده الصالحين فى الجنة:
(لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا تَأْثِيماً (*) إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً ) (سورة الواقعة: الآيتين 25 ـ 26).
وهذا لا يكون إلا إذا كان من عادوا لن يفعلوا ما تسبب فى خروج آدم من قبل (لأن تجربتهم على الأرض قد أفهمتهم شريعة الله الكونية فتزكوا ) (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) (سورة آل عمران: الآية 164)، و(هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) (سورة الجمعة: الآية 2).
التزكية من خلال التفكر فيما يمر بالإنسان من تجارب خلال حياته على الأرض واكتشاف عناصر الشريعة الكونية من خلال حل معضلات تنظيم حياته على الأرض بحكمة بشرية فيما يتناوله التشريع الإلهى هى الأساس المفضل وله الأولوية على مناسك العبادات وإلا لو كان الخضوع المباشر لقوة الله القاهرة هو المستهدف لكان إنزال آية قاطعة تجعل المشركين والفاسقين سباقون إلى طاعة الله سبحانه وتعالى فهم الطماعون الذين غلب طمعهم مروءتهم.
الله يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء، إذن هو وحده الذى يقيِّم ما اكتسب البشر من رحلة الأرض، الحياة الدنيا ليست جمع للنقاط من حسنات وسيئات دون النظر لما وقر فى القلب، بل ما فى النفس وصدقه العمل هو أساس الحساب
(لِّلَّهِ ما فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (سورة البقرة: الآية 284)، (لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرْ الْمُحْسِنِينَ ) (سورة الحج: الآية 37).
تفصيلات شريعة الله الكونية قد بينها الله سبحانه وتعالى فى القرآن الكريم وسنة نبيه؛ فى معاملات السُّلطة وتفصيلاتها فى سنة الرسول الكريم وخلفائه الراشدين فى الحكم والإدارة( )، وفى معاملات الثروة وتفصيلاتها فى أصول ومبادئ المعاملات المالية والتبادل العادل كما جاء فى القرآن الكريم وسنة نبيه، وفى المعاملات الاجتماعية فى القرآن والسنة .
فما هى المشكلة التى واجهها البشر بإخراجهم من الجنة، وما هو الحل الأمثل لتنظيم المعاملات بين البشر حتى يقتربوا على قدر الإمكان مما كانوا ينعمون به من أمنٍ وسلامٍ وخيراتٍ وثمارٍ فى الجنة .

4 – مشكلة الإنسان على الأرض والحل الأمثل

لقد نزل آدم إلى الأرض هو وذريته ليواجهوا واقعاً جديداً، فالموارد محدودة بعد أن كان له ألا يجوع فى الجنة ولا يعرى، ثم يواجه الموقف الأصعب وهو أن يتعرف على نفسه ومطالبها وكيفية إشباعها من موارد البيئة المحيطة له وفيها بشرٌ مثله ينافسونه على هذه الموارد ويمكن أن يتحالفوا معه فى التعرف عليها وتنميتها أو يقاتلوه ليستأثروا بها لأنفسهم مما يُعقِّد الموقف أشد التعقيد .
مطالب الإنسان الفيزيقية اللازمة لاستمرار حياته وحفظ نفسه ونوعه معلومة ومحدَّدة وتحرسها الغرائز الطبعية ؛ وهى غرائز حفظ النفس، ومثال لها العدوان الدفاعى عن النفس وغرائز الوظائف الفسيولوجية المحروسة بالتنبيه بالألم يتصاعد كلما اشتدت الحاجة إليها وباللذة لتذكر التمتع بها وتقترن بطلب الطعام والتنفس والعطش وطلب الماء وغير ذلك من مطالب الإنسان الضرورية لاستمرار حياته، والتنبيه بالألم عند تعرض أعضاء الجسد لما يهددها من حرارة وبرودة أو صدماتٍ وضغوط، ومن بعد ذلك غرائز حفظ النوع متمثلةً فى الغرائز الجنسية وغرائز الأمومة الطبعية الضرورية لحفظ النوع، لو تم جرد هذه المطالب لوجدنا أنها يُمكن أن تنقسم إلى مطالب ضرورية ومطالب تكميلية طابعها الرفاهية، أما المطالب الضرورية فتتمثل فى إشباع الغرائز الطبعية المصاحبة لأداء وظائف الجسد الحيوية الفسيولوجية والحصول على مأوى يقى الإنسان من تقلبات البيئة وتأمين الذات من العدوان الخارجى، وبمجرد إشباعها على أى وجهٍ من الوجوه ينتهى الطلب الطبيعى عليها لانتفاء الدافع الغريزى لطلبها، وتأمين الذات يتمثل فى تأمين هذه المطالب حالاً وفى المدى المرئى، أما المطالب الترفيهية فيتمثل فى التفنن فى ممارسة اللذات الحسية المصاحبة لإشباع المطالب الغرزية وقد خلقها الله زينةً لتشجيع الإنسان على ممارسة حفظ الذات وحفظ النوع ومنحه حوافز لممارسة أنشطة حفظها .
هذه الحالة الأولية التى واجهها آدم عليه السلام وذريته قد وصفها المفكرون السياسيون بأنها حالة الطبيعة «state of nature»، وهى حالة مواجهة الأفراد للطبيعة حيث تتميز بحرية كل الأفراد من بنى البشر state of perfect freedom مع تميزها بتساوى كل البشر الذين يمثل كلٌّ منهم كياناً منفصلاً حُراً تمام الحرية وله حقوقٌ متساوية مع الآخرين من ذوى الكيانات الأخرى سواءٌٌ من البشر أو من غيرهم من المنتفعين بالبيئة الطبيعية state of equality of its inhabitants والتساوى فى حقوق الانتفاع بالبيئة لا يعنى التساوى فى القوى والإمكانات( ) هكذا قال جون لوك وتوماس هوبز( ) ولم يختلف جان جاك روسو عنهما فى هذا الوصف لحالة الطبيعة( )، ولكن الثلاثة اختلفوا فى تفسير كيف نشأ المجتمع المدنى بعد ذلك وفى تفسير أسباب عدم التساوى بين أعضاء المجتمع المدنى بعد ذلك، تكمن أهمية نموذج حالة الطبيعة هى أنها الحالة الفطرية التى تنبع منها الحقوق الطبيعية الفطرية التى يحق لكل إنسان أن يطالب بها وهى الحرية المطلقة مع التساوى المطلق فى الحقوق بين البشر، ولولا اندفاع الناس إلى جنى مكاسب يتيحها لهم تقلب أسباب القوة بين البشر وغير ذلك من الفرص الوقتية لمن ينتهزها لتغير شكل العلاقات الاجتماعية بين الناس .
نحن جميعاً نتفق على أن آدم عليه السلام والأجداد الأوائل قد واجهوا البيئة على الأرض وكل منهم تحركه دوافعه الشخصية فى تأمين ذاته ولو على حساب الآخرين ومن بعد تأمين نفسه يتمتع إن استطاع باللذات التى يتيحها جهازة العصبى بموضوعات إشباعه بما يمثل رفاهية يسعى إليها الإنسان ولو على حساب زملائه من البشر لا يحده فى ذلك إلا حسابات الأرباح والخسائر وتوازنات القوى، ولا يربط الإنسان بالبيئة حوله إلا حواسه الخمس ولا يملك إلا جسده ولا يحركه إلا عقله وحريته فى اتخاذ قراره، ذلك العقل الذى يملك القدرة على جمع المعلومات وتبويبها وتصنيفها والاستفادة منها بما يُمكن أن نسميه بعد أن تطورت العلوم بقدرات بحوث العمليات .
الحتمية الفيزيقة لقرار الانضمام إلى مجتمع والحتمية الفيزيقية لنشأة السلطة المركزية فيه.
لقد نشأت المجتمعات الأولى إما بسبب اقتتال فردين أو أكثر أثناء تنافسهم على موضوعات الإشباع ثم احتفاظ الأقوياء بالضعفاء فى حيازتهم لاستغلال جهودهم فى العمل لصالح الأقوياء مع ترك حد الكفاف من الاحتياجات لهم (وهو الحد الكافى واللازم لإبقائهم أحياء صالحين للعمل فقط)، بما يعنى نشأة نظام العبودية، أو نشأة المجتمعات الأولى باتفاق مجموعة من الأفراد على التحالف فى موضوعات الأمن المشترك دفاعاً عن جماعتهم ضد الأخطار الخارجية والتعاون المشترك على تقسيم العمل وتكامله فيما بينهم ثم اقتسام الناتج لإشباع احتياجاتهم، إذن فقد نشأت المجتمعات الأولى إما على صورة مجتمع العبودية متمثلاً فى أسياد أقوياء ومعهم عبيدهم الذين وقعوا فى الأسر بعد اقتتال، أو على صورة تحالف مجموعة من الأحرار يجمعهم عقدٌ اجتماعى ضمنى أو متفق عليه.
أما وقد تجمع الناس فلابد من تولى أحدهم لتنظيم الشئون المشتركة فى هذا التجمع قد تكون الولاية هنا بالوكالة والاختيار من أفراد المجتمع الأحرار ثم التفويض المحدد بأعمال محددة، أو قد تكون بالرضا والوكالة الصامتة لأن من تولى الشأن يمثل قيادة طبيعية، وقد تكون القيادة للأقوى وفرضه لإرادته على التجمع سواءٌ بالاستيلاء على السلطة المفوضة إليه وإدارة الشأن العام لصالح نفسه أو لأن المجتمع قد نشأ تاريخياً مكوناً من سادةٍ وعبيد.
فى جميع الحالات ومن منطلق بحوث العمليات؛ الأفضل دائما أن يعيش الإنسان مُنضماً إلى مجتمعٍ قوى حتى يضمن عدم اعتداء الآخرين عليه وفقدانه لحريته، هذا فضلاً عما يتيحه تبادل السلع والتخصص وتقسيم العمل من فرص أفضل لإشباع الحاجات، بما يعنى أن الحياة متمسكاً بفرديته غير ممكن من الناحية العملية، وفى جميع صور التجمع هناك قيادة مركزية تتولى الشئون العامة فى المجتمع بالإدارة والتنسيق بما يعنى حتمية ظهور مفهوم السلطة ومن بعدها مفهوم النفوذ بجانب ما كان فى الأصل عن مفهوم القوة وتفاوتها بين الأفراد.
أما وأن تبادل السلع والخدمات نشاطٌ فيزيقى فى حياة البشر، فقد تم اكتشاف النقود لتكون مقياساً للقيمة وتكون هى نفسها أداةً ووسيطاً للتبادل ومستودعاً للقيمة حيث يحتفظ الناس بالفائض من النقود لمبادلته بالسلع فى الزمان والمكان عند اللزوم، وبذلك ظهر مفهوم الثروة .
المجتمع ودالة الإشباع
إذن الوحدة الأولية فى المجتمع هى الإنسان الفرد، وقد نشأت المجتمعات الإنسانية لأسبابٍ فيزيقية تتعلق بدالة الإشباع الطبعية للفرد Objective function وهى تأمين وتوفير الضرورات المادية للحياة والدفاع ضد الأخطار الخارجية ثم السعى إلى إشباعٍ أرقى ولذَّاتٍ أكثر بما يعنى الرفاهية إن استطاع إليها سبيلاً.
دالة الإشباع يٌمكن أن يكون قد طالها التطور لتتجه إلى السعى للحصول على أدوات الحصول على موضوعات الإشباع بدلاً من موضوعات الإشباع ذاتها، وتلك الأدوات هى:
العلم وبدائله من صور الخبرة بالبيئة الطبيعية والاجتماعية وقدرات بحوث العمليات متمثلة فى قدرات جمع المعلومات وتحليلها واتخاذ القرار الأمثل، والقوة ومن صورها السلطة والنفوذ، والثروة ومن صورها المقتنيات والممتلكات، ومن هذه الأدوات والوسائل منفردة أو مجتمعة يسعى كل فرد لاقتناء كل ما يستطيع .
وهكذا يطول التطور غرائز الإشباع، حيث ينضم إلى موضوعات الإشباع المباشرة، السعى إلى أدوات الإشباع أيضاً، ويصبح هناك مطالب اجتماعية تتعدى مطالب الإشباع المباشر للمطالب الطبعية والغرائز البشرية ولكن تتصل بها مثل التفاخر والتميز الاجتماعى لمن لديهم المستويات الأعلى من الإشباع، ومع تحسن مهارات وقدرات بحوث العمليات يصبح من الممكن استثارة العدوان الدفاعى عن النفس بالتبصر بالخطر لتواجد أسبابه وتحركها أو بإدراك وقوع الظلم، فى عصرنا الحديث علم السياسة هو علم السلطة، وعلم الاقتصاد هو علم الثروة .
إذا قام الفرد بإنتاج ما يستهلكه من موضوعات الإشباع أو ما يستخدمه من أدوات وهى العلم والقوة والثروة، فإن هذا النشاط لا يشمله أى مفهوم عن العلاقات الاجتماعية، وغرائز حفظ الذات وحفظ النوع كفيلةٌ بطبعها أن توجه الإنسان إلى القرار الأمثل فى هذا الشأن، أما إذا اتجه إلى تبادل موضوعات إشباعه أو التعاون معهم لإنتاجها هى وأدواتها من العلم والقوة والثروة فقد نشأ التعامل الاجتماعى بين البشر.
بحوث العمليات( ) Operations research هو علم معنى بالأساس بتحليل النظم الواقعية المعقدة التى تواجهنا بغرض تحسين قدراتنا على اتخاذ القرار الأمثل لمواجهة هذه المواقف، وبالتالى فهو يرتبط أشد الارتباط بعلم نظرية اتخاذ القرار( ) Decision theory، ويأتى من بعدهم علم نظرية المباريات( ) Game theory المعنى باتخاذ الاستراتيجية المثلى مقابل لاعبون مشاركون فى المباراة للحصول على العائد الأمثل .

المنطق الفيزيقى الرياضى للعلاقات الاجتماعية
الظواهر الاجتماعية هى ظواهر فيزيقية ما كانت لتظهر على حالتها ما لم تكن محكومةً بمنطق دالة الإشباع وفيزيقا القوى والوسائل المؤدية إلى تحقيق هذا الإشباع المَسْعِى إليه، تدرس نظرية المباريات منطق الظواهر الاجتماعية، حيث تصنف المباريات إلى نوعين أساسين :
الأول هو المباريات التى مجموع ناتجها يساوى الصفر Zero-sum game ويُمكن أن تسمى المباراة الصفرية، وهذا يعنى أن أحد الطرفين لابد من أن يخسر لصالح الطرف الآخر .
والثانى هو المباريات التى مجموع ناتجها لا يساوى الصفر Non-zero sum game، وهذا يعنى تعاون أطرافها لتعظيم ناتج المباراة إلى أعلى مايُمكن، ثم يجتمع أطرافها فى مباراة صفرية تدور بينهم على تقسيم ناتج العمل الذى تعاونوا على إنجازه.

مباراة التبادل
مع افتراض الفردية المطلقة والسلوك البرجماتى المطلق، فإن الأمر يسير شأنه شأن أى عملية تفاوض، كل طرف يحاول أن يحصل على أقصى ما يستطيع على حساب الطرف المقابل من خلال استخدام كل وسائل الضغط الممكنة وهذا يعنى أنها أحد نماذج المباريات الصفرية Zero-sum game، وسنفترض أن هناك قيمة عادلة للتبادل بين الطرفين، فإذا كان التبادل على سلع وخدمات مما له قيمة مالية وتم الانحراف عن قيمة التبادل العادل فإن هذا يعنى أن الطرف القوى قد حصل على فائض قيمة من الطرف الضعيف .
سلم التبادل
سنفترض أن الطرف القوى يمتلك كل أسباب القوة فى المباراة مقابل الطرف الضعيف وكل ما عليه هو أن يصنف وسائله فى الضغط على الطرف الضعيف كى يحصل منه على أكبر ما يُمكن من فائض القيمة لا يمنعه من ذلك أى وازع أخلاقى ولا يحدُّه فى ذلك إلا توازنات القوى، هذه الوسائل بالترتيب التنازلى لحجم فائض القيمة الذى يُحصِّله الطرف القوى، هى على سبيل الحصر كلآتى :
الاستيلاء على موضوع الإشباع ووسائله من الطرف الضعيف، بما فى ذلك أسر الطرف الضعيف نفسه واستخدامه أداةً من أدوات الإنتاج أو أداةً من أدواة الإشباع.
التهديد باستخدام القوة ليدفع الطرف الضعيف إلى الخضوع لمطالب الطرف القوى تجنباً لتداعيات ونتائج الاشتباك والخسائر التى يُمكن أن تلحق به من جراءِ ذلك.
خداع القوة، وذلك بترتيب أوضاع تتصل بموضوع الإشباع أو وسائل الضغط على الطرف الضعيف لإجباره من خلال حسابات اتخاذ القرار على أن يسلم للطرف القوى بمطالبه المتصلة بالحصول على فائض القيمة، وهذا النوع من وسائل الضغط يتناسب أكثر ما يناسب أصحاب السلطة فى المجتمع للتربح منها.
الخداع المالى، حيث لا يبدوا فى ظاهر العلاقة أى استخدام للقوة المباشرة أوالتهديد باستخدامها أو بترتيب وسائل الضغط على الطرف الضعيف لإجباره من خلال ألاعيب السلطة، ولكن بأساليب شديدة النعومة، بحيث تبدوا فى ظاهرها أنها بالتراضى ولكن نظراً لضعف قدرات بحوث العمليات لدى الطرف الضعيف فإنه لا يُدرك وجه الخداع فيها فينزلق بطريق الخطأ إلى فقد فائض القيمة.
التبادل العادل، حيث يتم التبادل على مبدأ فائض قيمة يساوى الصفر
الأصل هو أن ما يُمكن الاستيلاء عليه يؤخذ بدون استئذان، ولا داعى لبذل الجهد وتضييع الوقت فى تبليغ التهديد للطرف الضعيف وانتظار استجابته من عدمها، أما الطرف الضعيف فلا يُترك له إلا حد الكفاف، ذلك الحد من الضرورات حتى يستمر على قيد الحياة صالحاً للعمل والاستفادة من وجوده.
ولكن مع نمو خبرة وقدرات بحوث العمليات لدى الطرف الضعيف فإنه يدرك الغبن الواقع عليه ويدرك أن سلب جهده لصالح الطرف القوى تهديداً لأمنه وتحقيراً لنفسه فيتحرك العدوان الدفاعى عن النفس لديه بناءً على تبصرٍ وإدراكٍ لحقيقة العدوان الواقع عليه، ولكن الطرف القوى لن يرتدع حتى يتحول الطرف الضعيف إلى القتال الانتحارى عندئذٍ فقط سيدرك الطرف القوى أنه سيفقد أداة الإنتاج التى يستفيد منها، التى هى شخص الطرف الضعيف، فيضطر إلى رفع الصورة الفجة من الاستعباد وينتقل إلى مرحلة أخرى من الخداع الأعلى؛ يُشعرة فيها بشيء من الحرية لا يتجاوزه ويشعره بشئٍ من التحسن فى أوضاعة الاقتصادية بتقليل حجم فائض القيمة فيقل الاحتقان ويعود للعلاقة اتزانها ولكن على أن يكون التهديد باستخدام القوة حالةً ماثلةً فى كل لحظة.
إذن التحرك إلى الدرجة الأعلى فى سلم التبادل، يتم بناءً على العوامل والخطوات الآتية:
العامل المحرك الأساس هنا هو نمو قدرات بحوث العمليات لدى الطرف الضعيف، ويمكن أن نستخدم اصطلاحٍ بديل هو نمو بصيرتهم التى تحوى قدرتهم على الفهم وسبر غور المواقف والأحداث التى يواجهونها.
العامل الثانى هو تحرك غريزة العدوان الدفاعى عن النفس نتيجةً لإدراك الغبن الواقع على النفس.
العامل الثالث هو اتخاذ قرار بالقتال الانتحارى دفاعاً عن النفس.
العامل الرابع هو اتخاذ الطرف القوى لقرار الإفراج عن جزءٍ من فائض القيمة يتركه للطرف الضعيف حتى يزيل شعوره بالغبن (لأن حجم فائض القيمة مؤشر قوى لحجم الغبن) وينتقل إلى مرحلة أعلى فى الخداع فتتزن العلاقة من جديد بعد تطور اجتماعى على درجة أعلى من سلم التبادل.
لعبة الخداع من جانب الطرف القوى مسألة هامة جدا لتجنب المقاومة من الطرف الضعيف لاستغلاله واقتناص فائض القيمة منه، ويفترض مؤلف هذه المقالة أن هذا السيناريو هو سيناريو التطور الاجتماعى على أساس برجماتى بحت وبدون أى وازع أخلاقى أو دينى من أى نوع، ويفترض أيضاً أن دورة التطور هذه ستتكرر وفى استكمال كل دورة يتم الصعود درجة من سلم التبادل حتى يصل إلى الاتزان النهائى على التعامل على مبدأ فائض قيمة يساوى الصفر، لا لشئ إلا لأن الطرف الضعيف قد استكمل وعيه وخبرته ولم يعد ممكناً خداعه دون أن يُدرك أنه يُسلب.
والسؤال هنا هل التطور الزمنى يزيد من بصيرة الطرف الضعيف أم لا، الخبرة الاجتماعية لدى البشر عامةً فى نمو دائم، هذا فضلاً عن أن تكنولوجيا العمليات الإنتاجية فى تعقيدٍ متواصل مما يستوجب تعليم الضعفاء الذين يأخذ الأقوياء جزءاً من ناتج عملهم، وهكذا فإن الخبرة الاجتماعية المتراكمة مع تعقد العملية التعليمية بغرض دعم تكنولوجيا الإنتاج يصقل قدرات الضعفاء المنتجون على التفكير والفهم عامةً، وكل ذلك فى صالح التصاعد إلى الدرجات العُلَى من سلم التبادل وهو ما يمثل الارتقاء والتحضر الاجتماعى.
مباراة الإنتاج
هى مباراة مجموع ناتجها لا يساوى الصفر Non-zero sum game، وتتطلب تعاون طرفيها لتعظيم ناتج المباراة ثم اقتسامه فى مباراة صفرية، ولنا أن نفترض ونتوقع أن يكون التعاون مخلصاً إذا شعر طرفى المباراة بعدالة العائد وجدواه لكل منهما، والطرف الضعيف هو الذى يهمنا شأنه لأنه هو الذى يفقد فائض القيمة، وبالتالى فإن إخلاص العاملين فى العمل يزداد كلما ارتقى التعامل فى المجتمع الدرجات العلى من سلم التبادل حتى يصل إلى كمال الإخلاص والتعاون بين أطراف العملية الإنتاجية عند وصول المجتمع إلى درجة التبادل العادل، وبالتالى كلما جرى التعامل على فائض قيمة أقل ارتفعت إنتاجية المجتمع.
مباراة الحكم
هى مباراة مجموع ناتجها لا يساوى الصفر Non-zero sum game، وتتطلب تعاون طرفيها الحاكم والمحكوم لتعظيم أمن الدولة وقوتها ونظامها ورفاهيتها ومكانتها، أما وقد تعاون الجميع للصالح العام فى الدولة، فإن هناك المباراة الصفرية لتعظيم العائد منها، وهو هنا اقتسام السلطة بالعدل وهذا يعنى محاسبة الحاكم وأعوانه من قبل المحكومين حساباً تاما يستغرق كل السلطة المفوضة إليهم من قبل المجتمع بحيث لا تُستخدم فى غير الأمور المفوضة من أجلها، فإذا حصل الحكام على سلطة لا يستغرقها الحساب فقد حصلوا على فائض سلطة يستخدمونه لحساب أنفسهم للبغى على المحكومين بما يهدد أمنهم، أو لاستغلال سلطة الدولة وأبهة الحكم أو للتربح من السلطة والحصول على فائض القيمة، أى هنا يكون فائض السلطة طريقاً للحصول على فائض القيمة.
الحكام وأعوانهم بما جًبلوا عليه من برجماتية طبعية لدى البشر جميعا يحاولون التهرب من المحاسبة على السلطة المفوضة إليهم ولا يمكن أن يقبلوا بذلك إلا إذا أُجبروا عليها والمباراة بين الحكام والمحكومين على فائض السلطة تمر بنفس الأطوار التى توقعنا أن تمر بها تلك المباراة على فائض القيمة، وأن تتطور من استيلاء الحكام على كل السلطة كما فعل الحكام فى النموذج الفرعونى، إلى التهديد بالقوة كما فعل حكام القرون الوسطى، إلى خداع السلطة كما يفعل حكام دول العالم الثالث اليوم حيث يمارسون إطارٍ شكلىٍّ من الشرعية الزائفة لدولة تمارس خداع السلطة مع التهديد والبطش بالمعارضين من خلال الألاعيب القانونية شكلا والفاسدة موضوعاً، ويتربحون من مناصبهم فى إطارٍ من انعدام الشفافية وإخفاء المعلومات.
اليوم فى القرن الواحد والعشرين، الدول الصناعية المتقدمة، وهى التى تمثل قمة التحضر الاجتماعى الذى وصلت إليه الإنسانية، تمارس مرحلة الخداع المالى حيث لا يوجد فى القاموس السياسى لتلك الدول مسئول فى الحكم أو الإدارة لا يُحاسَب حساباً يستغرق كل السلطة المفوضة إليه بما يعنى أن فائض السلطة قد دخل مرحلة الصفر، وكل المعاملات تسير بالتراضى المطلق المحمى بالقوانين ظاهرةً وباطنةً ولكن فى هذه المجتمعات يزداد الغنىُّ غنىً والفقير يزداد فقراً بما يعنى أن أصحاب الثروة يحصلون على فائض القيمة من غيرهم من أبناء المجتمع فى إطارٍ من التراضى الظاهر.
الخطير فى الدول الصناعية المتقدمة اليوم فى القرن الواحد والعشرين هو اتجاه مالكوا الثروة إلى الحصول على فائض السلطة فيها بتأثيرهم على الناخبين من خلال امتلاكهم للإعلام، وتمويل البحوث السياسية والاقتصادية والاجتماعية فى الجامعات ومراكز البحوث بما يسمح بتوجيه القرار السياسى ولو بطريق غير مباشر من خلال التأثير على فكر المستشارين والفنيين، بل والحصول على معلومات قد تخدم أغراضهم فى الحصول على السلطة، ثم التأثير على أصحاب القرار فى درجات سلم الحكم من خلال قدراتهم المالية التى تتيح لهم التبرع المباشر لحملاتهم الانتخابية، وهذه كلها فى الإطار القانونى للدول التى تعتنق الديموقراطية الليبرالية أساساً لنظامها، وهذا يعنى أن أصحاب الثروة يأخذون فائض القيمة طريقاً إلى فائض السلطة.
إذن التزاوج بين أصحاب السلطة وأصحاب الثروة مسألةٌ منطقية وأن من حصل على إحداها سعى إلى الحصول على الأخرى لأن كلاهما من أدوات الإشباع ويكملان بعضهما فى ذلك الشأن، وأن كشف ألاعيب السلطة أسهل من كشف ألاعيب الخداع المالى، وأن المجتمع الذى تسير فيه معاملات الدولة على مبدأ خداع الشعب بالسلطة يكون فيه فائض السلطة طريقاً إلى فائض القيمة، أما بعد نمو قدرات بحوث العمليات لدى جموع الشعب لما بعد ذلك بما يستوجب لجوء الأقوياء إلى مرحلة خداعه بألاعيب مالية، حيث يكون فائض القيمة هو الطريق إلى فائض السلطة.
التطور الحضارى إلى مرحلة التعامل العادل على مبدأ فائض سلطة وفائض قيمة يساويان الصفر.
الشرط اللازم للمعاملات العادلة أن تتم على مبدأ فائض سلطة وفائض قيمة يساويان الصفر، بمعنى ألا يستفيد صاحب السلطة أو الثروة من أى منهما لسلب الآخرين حقوقاً لهم فى الحرية أو المساواة أو فى ناتج عملهم، إنها عودةٌ إلى الحقوق الفطرية (إلى حالة الطبيعة state of nature ) حيث الحرية المطلقة state of perfect freedom والمساواة المطلقة بين أبناء المجتمع الطبيعية state of equality of its inhabitants، ولكن الفرق بين ما كان عليه الحال يوم نزل آدم من الجنة والأمر فى نهاية الزمان هو أن بنى آدم لم يرعوا هذه الحقوق التى وهبهم الله إياها بصورة طبعية باعتبارها شريعته الكونية وكان الاعتداء عليها من بنى آدم أنفسهم حيث قتل قابيل أخاه هابيل وهما من أبناء آدم نفسه، حيث لم يدركوا معنى العقد الاجتماعى ولا أهمية الإخلاص فى احترامه، ولكن فى نهاية الزمان يدرك أبناء آدم أنفسهم ضرورة مراعات هذه الحقوق، وبحق كل مخلوقات الله فى العيش فى سلامٍ دون اعتداءٍ من أحدٍ على الحقوق الفطرية للآخر، وهذا ما نلاحظه فى تشريعات المناطق الحرام والأشهر الحُرُم حيث حرم الله الصيد وحرم الجدال والرفث والفسوق فى الحج.
شريعة الله الكونية تستوجب ألا يستفيد صاحب السلطة أو الثروة من أى منهما لسلب الآخرين حقوقهم فى الحرية والمساواة أو فى ناتج عملهم، وهذا يعنى التعامل على مبدأ «فائض سلطة وفائض قيمة يساويان الصفر معاً» وفى اتباع هذا المبدأ يعلو التعاون بين أبناء المجتمع إلى أقصى درجاته ويهبط الصراع بينهم إلى أقل مستوياته وهذا يعنى ارتفاع إنتاجية المجتمع إلى أعلى درجاتها وتلك قمة التحضر الاجتماعى.
تنظيم المعلاملات فى المجتمع على مبدأ «فائض سلطة وفائض قيمة يساويان الصفر معاً» إما أن يتم من خلال التطور الحضارى البحت بدون أى خلفية دينية، أو يتم التوصل إليه عفةً وطاعةً لله سبحانه وتعالى كما فعل الرسول الكريم محمدٌ صلى الله عليه و سلم وخلفاؤه الراشدون المتبعين لسنته فى الحكم والإدارة( ).

5– سنة الرسول الكريم وخلفائه الراشدين فى الحكم والإدارة( ).

الإطار العام للمعاملات الإسلامية أساساته هى العدل والرحمة والإحسان وتأدية الأمانات إلى أهلها، وإذا حكموا بين الناس أن يحكموا بالعدل (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) (سورة النحل، آية 90)، (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً ) (سورة النساء، آية 58). وبخصوص السلطة والنفوذ فقد حرم الله البغى بغير الحق (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ) (سورة الأعراف، آية 33)، أما بخصوص التعامل فى الأموال والتبادل الاقتصادى فقد حرم الله أكل أموال الناس بالباطل (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيما ) (سورة النساء، آية 29)، وحرم التلاعب فى الكيل والميزان وبخس الناس أشياءهم لأكل حقوقهم فى تبادل السلع الاقتصادية (وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ ) (سورة هود، آية 85)، وحرم الإدلاء بأموال الناس بالباطل إلى الحكام (وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ) )سورة البقرة، آية 188 )، وأوجب أيضا المحاسبة بين الناس على الأموال حفاظا على حقوق العباد (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ وَلاَ تَسْأَمُوْاْ أَن تَكْتُبُوْهُ صَغِيرًا أَو كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللّهِ وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوْاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) (سورة البقرة، آية 282) .
أما آداب التقاضى وواجباته فهى القسط فى الشهادة (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) (سورة الأنعام، آية 152)، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) (سورة المائدة، آية 8 )، وعدم كتمانها، وتحريم قول الزور (وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) (سورة البقرة، آية 283 )، (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمْ الأَنْعَامُ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ ) (سورة الحج، آية 30)، (وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً ) (سورة الفرقان، آية 72 )، أما فى القصاص فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ) (سورة النحل، آية 126 ).

العلاقة الإسلامية الشرعية بين الحكام والمحكومين
المبادئ العامة للمعاملات الإسلامية كُلٌّ لا يتجزأ ولو أخذنا واحدة منها بصدقٍ لقادتنا لاتباع باقى قواعدها ولو خرقنا إحداها لخرقنا الآخرين، ولو طبقناها على معايير وخصائص ومؤشرات العلاقة بين الحكام والمحكومين فى السنة النبوية الشريفة نجد أنها هى نفسها التى اتبعها الخلفاء الراشدون فى الحكم والإدارة، ونجد أن خصائصها وأساسها كالآتى :
العدل والمساواة والرحمة فعلى الرغم من مكانة الرسول الكريم العالية بين أصحابه إلا أنه لم يختص نفسه ولا أسرته بأبهة سلطة ولا ترف مال (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً (*) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً ) (سورة الأحزاب، آية 28، 29 ) .
الشورى، أمر الله سبحانه وتعالى بالشورى كما جاء فى الآيتين الكريمتين (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ) (سورة آل عمران، آية 159)، (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ) (سورة الشورى، آية 38)، وأقل ما يعنيه ذلك هو حرية الرأى وألا يُضار أحدٌ من اختلافه فى الرأى مع أصحاب السلطة والنفوذ.
التعفف عن التمتع بأبهة السلطة أو اكتساب النفوذ الاجتماعي أو التربح منها كان الرسول الكريم عفيفاً عن السلطة والمال العام وكذلك حرم الله على أزواجه إن كُنّ يردن الله ورسوله فليس لهم إلا أن يكونوا مثله (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً (*) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً ) (سورة الأحزاب، آية 28، 29 ) .
السلطة أمانة لا تُستخدم لغير الغرض التى فُوضت من أجله، والاعتراف للرعية بحقها فى محاسبة الحاكم ومراجعته على السلطة العامة وعلى المال العام وهذا واضحٌ من خطبتى استهلال الحكم من أبى بكرٍ وعمر بطلب التقويم والنصيحة، وقصة المرأة التى راجعت عمر بن الخطاب على مهور النساء، وقصة الرجل الذى حاسب عمر على طول حُلّته.
وأخيراً رد المظالم قبل مغادرة مقعد السلطة بالوفاة أو بغير ذلك وهذا واضحٌ من ذكر الخبر عن مرض رسول الله صلى الله عليه و سلم الذى توفى فيه( ) الدروس والعبر، وكذلك فعل خلفاؤه الراشدون وعلى رأسهم أبوبكر وعمر عند الوفاة ومحاسبة كلٍّ منهم لنفسه وسؤالهم عمن جلد له ظهراً أو شتم له عِرضاً أو كان له درهماً فى ذمته .

شريعة الله الكونية بين جورج بوش وعمر بن الخطاب( )
جاء فى جريدة الأهرام المصرية يوم الجمعة 9 من ربيع الأول 1427هـ، 7 أبريل 2006م، الصفحة الأول «بوش يعترف لأول مرة بارتكاب أخطاء في العراق‏.، ويعتبر الانتخابات الفلسطينية تطورا إيجابيا، شاب يوجه أعنف توبيخ للرئيس الأمريكي ويدعوه إلى الخجل من نفسه» ثم جاء فى تفصيلات الخبر «في كلمة ألقاها بوش أمام حشد من مؤيدي الحزب الجمهوري‏,‏ في مدينة تشارلوت بولاية نورث كارولينا‏,‏ وتعرض الرئيس الأمريكي لنقد لاذع غير مسبوق من أحد الحاضرين الذي فاجأ رئيس الولايات المتحدة بقوله‏:‏ أنت لا تتوقف أبدا عن الحديث عن الحرية‏,‏ لكنك تسمح لنفسك بمراقبة هاتفي‏,‏ والقبض علي واحتجازي دون توجيه تهم‏.‏ وأتمني أن تمتلك الشجاعة لتوبيخ نفسك وجاء هذا الهجوم المباغت في إشارة لبرنامج التنصت على الأمريكيين المثير للجدل‏».
هذه الواقعة تذكرنا بما حدث لسيدنا عمر بن الخطاب رضى الله عنه فى تطبيق الدستور الإسلامى فى الحكم والإدارة المأخوذ عن صحيح سنة الرسول الكريم وخلفائه الراشدين فى الحكم والإدارة يوم وقف له رجلٌ من العامة يحاسبه، «جاءت عمر برود من اليمن ففرقها بين المسلمين فخرج فى نصيب كل رجل برد واحد ونصيب عمر كنصيب واحد منهم . قيل: واعتلى عمر المنبر وعليه البرد وقد فصله قميصا، فندب الناس للجهاد، فقال له رجل : لا سمعا ولا طاعة . فقال عمر : ولم ذلك؟ قال الرجل لأنك استأثرت علينا ؛ لقد خرج فى نصيبك من الأبراد اليمنية برد واحد، وهو لا يكفيك ثوبا، فكيف فصلته قميصا وأنت رجل طويل ؟ فالتفت عمر إلى ابنه قائلا : أجبه يا عبد الله . فقال عبد الله : لقد ناولته من بردى فأتم قميصه منه. قال الرجل: أما الآن فالسمع والطاعة»( ).
تأمل هذه الواقعة وتعجب، هذا رئيس الدولة يتعامل مع المال العام باعتبار أن له حرمة كحرمة مال اليتيم فلم يأخذ منه إلا ما تشتد حاجته إليه ومثله مثل غيره، ثم هذا رجل من العامة يحاسبه على المال العام فيجيب عليه ولا يتكبر. رئيس الدولة يسير بين الناس ويتحاور معهم بلا حراسة ولا جند ولا حملة مباخر يُسكتون له الناس بالذوق وبالعافية، وهذا يعنى أيضاً حرمة السلطة العامة حرمة مساوية لحرمة المال العام؛ أى لا تُستخدم إلا فيما فوضت له. أما عن قبول مبدأ محاسبة رئيس الدولة (وما دونه من الموظفين العموميين) من قبل رعايا الدولة فمبدأ كان ينفذه عمر ببساطة وعفوية وكأن الناس قد جبلت عليه( ).
لقد طبق عمر بن الخطاب هذه المبادئ فى الحكم والإدارة اقتداءً بالرسول الكريم وسنته فى الحكم والإدارة وبعد 1400 سنة تطور الغرب العلمانى واكتشف مميزات تطبيقها وبمرجعيةٍ علمانية بحتة بما يؤكد أن الإسلام هو دين الفطرة (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) (سورة الروم، آية 30)، وأن له أسس فيزيقية تتصل بطبائع البشر وفيزيقا العلاقات الاجتماعية بحيث تتقارب العلاقات الاجتماعية طبعياً من الاتزان على أكثر صور العلاقات توافقاً مع مصالح البشر وإنها ليست صدفةً أن تكون على نفس صور العلاقات التى أمر الله بها فى شريعته الكونية، وصدق الله سبحانه إذ يقول (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) (سورة فصلت، آية 53 ) .
وتلك هى شريعة الله الكونية بياناً وتطبيقا على مبدأ ضمان وتأكيد على ألا يبغى أصحاب السلطة ولا أصحاب الثروة على خلق الله، طبقها الرسول الكريم وخلفاؤه الراشدون عفة وفهماً وتزكيةً لأنفسهم وطاعة لله سبحانه وتعالى، وأدركها الغرب العلمانى على مبدأ ترتيب الدولة على المبادئ المثلى التى تحقق أقل صراع وأعلى تعاون وأفضل إنتاجية للمجتمع البشرى متقاربين من مبدأ «فائض سلطة وفائض قيمة يساوى الصفر».

6 – مغالطات متواترة فى الفكر الإنسانى
هناك مغالطتان شديدتا الخطورة على مسيرة الفكر الإنسانى للتقارب من شريعة الله الكونية الأولى هى الخلط بين سنة الرسول الكريم وخلفائه الراشدين فى الحكم والإدارة والنمط الأموى فى الحكم والإدارة، والثانية هى الظن بأن الإقراض بالربا هو أحد أنشطة اقتصاد السوق المفتوحة التى تساوى بين أطراف النشاط الاقتصادى.

الخلط بين سنة الرسول الكريم وخلفائه الراشدين، والنمط الأموى فى الحكم والإدارة
قام نظام دولة الخلفاء الراشدين على أساس المبادرات الشخصية للرسول الكريم وخلفائه الراشدين بإعطاء المحكومين حقوقهم الشرعية تقوىً وطاعة لله سبحانه وتعالى، ولكنه نظام لم يملك مقومات الشرعية السياسية بعد اتساع الدولة من المدينة المنورة الفاضلة إلى حدودها المترامية بعد الفتوحات على عهد سيدنا عمر بن الخطاب ودخول أفواجٍ هائلة من البشر تحت رعاية الدولة مسلمين وغير مسلمين لأنه يعلِّم ويعطى المحكومين حقوقاً لا يملك العلم ولا الآلية لتنظيم الدولة بما يناسبة ممارسة هذه الحقوق ولا كيفية فض المنازعات بين الحكام وأعوانهم من جانب والمحكومين من جانبٍ آخر، وكانت فترة المنازعات على عهد الخليفة الراشد عثمان ابن عفان ثم استفحال الأمر والتحول إلى الفتنة الكبرى أدلَّة على فشل هذا النظام السياسى فى ذلك العهد مما أفقده شرعية الاستمرار فى السلطة( ).
بعد الفتنة الكبرى واستيلاء معاوية بن أبى سفيان بن حرب على الحكم وهدمه دولة الخلافة الراشدة ابتدع نظاما يتلافى هذا العيب حيث أبقى على كل ما فى الإسلام من عقائد وعبادات ومعاملات عدا ما له علاقة بالحكم والإدارة، حيث جعل العلاقة بين الحكام والمحكومين تتسم بمنع الشورى والاستبداد بالسلطة والمال العام وتوريث الحكم وعدم رد المظالم عند الوفاة أو ترك الحكم، بل والوصول فى بعض الأحيان إلى خرق الإطار العام للمعاملات والحدود الإسلامية لإسكات المعارضين، إلى آخر ما نعلم من اختلافاتٍ مؤكدة لنمط حكمه عما جاء فى سنة الرسول الكريم وخلفائه الراشدين، باختصار لقد أبقى على كل ما فى الإسلام من عقائد وعبادات ومعاملات واقتبس من إمبراطوريات الفرس والروم أحدث ما فيها من معاملات ونظم للحكم والإدارة، فهى النظم التى أثبتت بالتجربة نجاحاً عملياً فى ظروف عصره وبذلك أضاف أسس الشرعية السياسية إلى نظام حكمه، بل واستمر نظامه هذا نظاماً ناجحاً حيث قامت عليه دول إسلامية عظيمة من بعده تسيدت النظام العالمى طوال القرون الوسطى التى امتدت من القرن السابع الميلادى، تاريخ بدء نظامه السفيانى وحتى نهاية القرن الخامس عشر الميلادى، وبذلك نخلص إلى أن النظام السفيانى فى الحكم والإدارة وإن كان قد فقد الكثير من شرعيته الدينية الإسلامية بانحرافه المؤكد عن سنة الرسول الكريم وخلفائه الراشدين فى الحكم والإدارة وخروقاته للإطار العام للمعاملات والحدود الإسلامية إلا أنه اكتسب الشرعية السياسية فى ظروف القرون الوسطى بنجاحه فى القيام بوظائف الدولة بامتياز فى ذلك الوقت( ).
لأسباب تارخية بحتة ساد الخطاب الدينى الإسلامى القول بأن النظام الأموى فى الحكم والإدارة بخروقاته للشرع الإسلامى هو نظامٌ سنى، وفى ذلك خلط للخطاب مع صحيح سنة الرسول الكريم فى الحكم والإدارة، ولو كان هذا القول يُمكن التجاوز عنه فى القرون الوسطى إلا أنه يمثل اليوم مغالطة خطيرة تمنع فهم صحيح الإسلام وصحيح تطبيقه نتيجة لخلط نظام ينتمى شكلاً وموضوعاً للقرون الوسطى، وهو النظام الأموى الذى ابتدعه معاوية بن أبى سفيان بن حرب وصحيح سنة الرسول الكريم وخلفائه الراشدين فى الحكم والإدارة الذى يمثل قمة من قمم الحضارة نتوقع أن يصل إليه العالم بعد الخروج من حقبة سيطرة الرأسمالية العالمية المتوحشة الحالية وما تثيره من حروب ومشاكل على مستوى العالم كله.
منطق مسلسلة ماركوف والإقراض بالربا
القيمة الزمنية للنقود مسألة مفهومة كظاهرة اقتصادية لا يختلف عليها أحد وهى أن النقود تختلف قيمتها باختلاف ميعاد استحقاقها، على مبدأ وجوب عدم اكتنازها ووجوب نزولها إلى الاستثمار فى المجتمع، هذا المبدأ الاقتصادى يتحسب له نظام السوق بإضافة قيمة متوقعة للعائد interest rate على رأس المال باختلاف استحقاقه على محور الزمن، ويتحسب له الشرع الإسلامى بحساب قيمة الزكاة الواجبة على المال بمرور الحول عليها بما يُجبر من يكتنـز المال دون استخدام على أن ينزل به إلى الاستثمار فى السوق .
مسلسلة ماركوف
مسلسلة ماركوف هى نموذج رياضى لتمثيل احتمالات تقلب نظام ما بين حالات مختلفة، كل صف فيه يمثل متجه مجموع حدودة يساوى واحد صحيح وكل حدٍّ منها يمثل الاحتمال المقابل للانتقال من حال أوَّلِى إلى حال جديد بعد مرحلة زمنية واحدة، ولذلك تسمى هذه المصفوفة بإسم Transition matrix ( )،( )، حاصل ضرب هذه المصفوفة فى نفسها يمثل مصفوفة الاحتمالات فى بداية المرحلة الانتقالية التالية، بالمثل حاصل ضرب المصفوفة فى نفسها n من المرات معناه الحصول على مصفوفة الاحتمالات بعد n من المراحل الزمنية .
الجدول الأول الآتى هو نموذج مُفترض لمصفوفة ماركوف لتمثيل حالة ابتدائية لفرد فى الحالة العامة ينتمى إلى أحد الطبقات كما فى العامود أقصى الشمال ومقابل كل حالة صف من المدخلات يمثل احتمال انتقال حالة الفرد من طبقته إلى إحدى الطبقات الأخرى فى المجتمع كما فى رأس كل عامود.
فى الحياة الاجتماعية وفى مباريات الحكم والسلطة كما فى النشاط التجارى لا يسلم أحد من تقلبات الزمن وهذا يعنى أنه لا يصح أن نضع فى أى حد من حدود المصفوفة قيمة صفر لأن هذا معناه أن الفرد محصَّن من الانتقال من طبقته إلى الأخرى وهذا غير صحيح بملاحظتنا للمجتمع وللتاريخ، وكذلك تم التمثيل لمتجهات الاحتملات الممثلة فى صفوف هذا الجدول، أيضاً تم الافتراض بأن كل فرد سيكون على الأغلب فى نفس طبقته بعد تمام المرحلة الزمنية وباحتمال 90% ومن المحتمل أن ينزلق إلى الطبقة الأقرب باحتمال 8% والأبعد باحتمال 2%.

الانتماء الحالى الطبقة الفقيرة الطبقة المتوسطة الطبقة العليا
إنتماء إلى الطبقة العليا 9,0 08,0 02,0
إنتماء إلى الطبقة المتوسطة 02,0 9,0 08,0
إنتماء إلى الطبقة الفقيرة 02,0 08,0 9,0
مصفوفة ماركوف التى لا يوجد فى أى حدٍّ من حدودها قيمة الصفر تسمى مصفوفة منتظمة Regular Markov chain، حاصل ضرب المصفوفة فى نفسها n من المرات بحيث تكون n عدد كبير بما يكفى، ينتج من الناحية الرياضية صفوفاً ثابتة متطابقة Unique fixed probability vectors وهذه خاصية من منطق رياضى بحت لا علاقة له بموضوع المصفوفة( )،( )، وهذا معناه أن هناك احتمالات متساوية للانتقال إلى كل الحالات فى المصفوفة بصرف النظر عن موقفنا الابتدائى، فمثلا المصفوفة الانتقالية السابقة بعد ضربها فى نفسها 64 مرة نحصل على المصفوفة الآتية:
إنتقال إلى الطبقة الفقيرة الطبقة المتوسطة الطبقة العليا
إنتماء إلى الطبقة العليا 166667,0 444444,0 388889,0
إنتماء إلى الطبقة المتوسطة 166667,0 444444,0 388889,0
إنتماء إلى الطبقة الفقيرة 166667,0 444444,0 388889,0
حيث نلاحظ أن كل صفوفها، وهى تمثل احتمال انتقال الفرد من طبقته إلى العليا أو المتوسطة أو الفقيرة لا يتوقف على موقعه الطبقى الابتدائى بل يتوقف على توزيع الطبقات الإحصائى فى المجتمع، وهذا يعنى أنه بعد عدد كافٍ من الأجيال سوف يجد الأحفاد أنفسهم على نفس التوزيع بصرف النظر عن الموقع الابتدائى الطبقى للأجداد، هذا التواجد هو نفسه التوزيع الإحصائى لتواجد الطبقات الثلاثة فى المجتمع.
الدلالة الفيزيقية للنموذج الرياضى الخاص بمسلسلة ماركوف المنتظمة والتى كل حدودها موجبة ولا تساوى الصفر – وهى الحال الذى عليه تقلب الأيام على الناس جميعاً يعنى الآتى:
1 – الطريقة الوحيدة لتحسين حال الأحفاد على المدى الطويل هو ترقية المجتمع ككل أما الصعود الداخلى إلى طبقات المجتمع العليا دون تنمية المجتمع نفسه فيمثل حلاً مؤقتاً يزول أثره مع الزمن، وهذا يعنى أن من يخرب المجتمع من أجل حصوله على مصلحة خاصة لا يستحقها فإنه يخون المجتمع المعاصر له ويخون أحفاده أيضاً.
2 – فى النشاط التجارى والاقتصادى لا يسلم أحد من تقلبات السوق عدا من يمارس الربا هو وأحفاده ـ فسوف تؤول إلى الأحفاد كل ثروة المجتمع بعد عدٍ كافٍ من الأجيال.
وهذا يعنى أن الربا هو أحد مغالطات فائض القيمة وأشدها خبثاً لأن طرفيها يبدوان مستفيدين، وأن الاتفاق يتم بالتراضى الظاهر، أما الخاسر فهو الأجيال التالية، لذلك حرم الله الربا فى الإسلام حتى لا يحتكر الثروة آكلوا الربا، وذلك تطبيقاً للشريعة الكونية فائض سلطة يساوى الصفر وفائض قيمة يساوى الصفر .

7– نهاية التاريخ

تعرض كل من هيجل وماركس وفوكوياما لفكرة نهاية التاريخ، حيث تعنى الفكرة لديهم أن تطور العلاقات فى المجتمعات البشرية لها اتجاه وأن هذا الاتجاة له غاية وليس اتجاها مفتوحاً بلا نهاية، وأن التطور سوف يستقر على نهاية تحقق صورة من صور المجتمع تشبع حاجاته الأساسية والعميقة على الصورة المثلى ؛ بالنسبة لهيجل هى الدولة الليبرالية فالحرية الكاملة هى الهدف النهائى للإنسان وتتحقق عندما يفهم كل الناس هذه الفكرة وبذلك يعيش الجميع بعقلانية لأن هذه هى طبيعة البشر عندما يكونون أحراراً( )، وبالنسبة لماركس كانت الاشتراكية العلمية حيث انتقد الفكر المثالى لهيجل وبنى كل توقعاته عن تطور المجتمع البشرى وصراع الطبقات على أسس مادية بحتة هدفها السيطرة على وسائل الإنتاج باعتبارها المصدر الأساس لإشباع حاجات البشر وأن علاقات الإنتاج هى الأساس المحرك الذى تتوافق معها كل المعايير الإنسانية فى المجتمع لتحقيق الفوائد المادية بناءً عليها، وعرَّف فائض القيمة حيث يمثل مغالطة ليحصل بها أصحاب رؤوس الأموال على فائض القيمة من موقع الأفضلية على القدرة على المساومة مقابل الأجراء بما يتوقع أن يتطور المجتمع الرأسمالى فى اتجاه صراع الطبقات لتنتصر الطبقة الأقوى فى الصراع والأكثر عدداً وهى طبقة الأجراء لتقيم دكتاتورية الطبقة العاملة dictatorship of the proletariat وتلك نهاية التاريخ فى مفهومه( )، أما بالنسبة لفوكوياما فقد استقرأ لحظة تاريخية هى لحظة سقوط المعسكر الشيوعى فى التسعينيات من القرن العشرين، حيث سقط لأسباب داخلية بما يعنى فقدان دكتاتورية البروليتاريا لشرعيتها السياسية وفشلها داخل المجتمع الشيوعى ورفض مواطنيها لهذا النموذج من الفكر السياسى والنظام المتوافق معه، لقد استقرأ فوكوياما هذه اللحظه ليُعلن الانتصار المطلق والنهائى «لليبرالية الديموقراطية المبنية على اقتصاد السوق الرأسمالى الحر» ويعلن تفوق هذا النموذج على كل ما عرف البشر حالياً ومن قبل بدليل بنائه لمجتمعات ودول قوية علميا واقتصادياً ومستقرة سياسياً أكثر من أى مجتمعات أو دول أخذت بغير هذا النمط الفكرى/السياسى/الاقتصادى( ).
القول بنهاية التاريخ يعنى القول ضمناً بوجود الإرادة العامة للأمة كما قال جان جاك روسو فى القرن الثامن عشر الميلادى واستقر فى الفكر السياسى، وأن هذه الإرادة لها اتجاه ثابت يدفع التطور فى اتجاه واحد هو تحقيق صورة من صور المجتمع تشبع الحاجات الأساسية والعميقة على الصورة المُثلى لدى جموع أبناء المجتمع الذين يتكون من جمع إرادتهم الإرادة العامة للدولة( )، نفس الفكرة موجودة لدى بنـتام ومذهب المنفعة حيث يعتبر العمل خيراً إذا كان يحقق حساباً عاماً من المنافع الحسية يتفوق على الحساب العام للألم الناتج عنه وبالتالى فهو يأخذ تأييداً عاماً أكبر من المعارضة له( )، بما يدفع الأعمال العامة والتشريعات فى اتجاه أكثر تحقيقاً للمنفعة، ونفس الفكرة لدى بودان من اتجاه تغير التاريخ إلى الأفضل( ).
فكرة نهاية التاريخ تعتبر فكرة محورية فى البحث الحالى، لأن القول بأن الغرض من رحلة الإنسان على الأرض هو تزكيته بنقله من حال الجهل والسذاجة اللذان مكنا إبليس من إغوائه فأخطأ وأنزله الله ليعيش حالة الطبيعة ليتقارب من اكتشاف شريعة الله الكونية ويتمرس فى العمل بها حتى يستطيع الالتحاق بملكوت الله فهماً وسلوكاً، هذا معناه أن التطور يسير فى اتجاه واحد هو التقارب من اكتشاف تلك الشريعة وجدوى العمل بها .
فى بحثنا هذا تم اتخاذ القوى الطبيعية المكونة للذات البشرية أساساً للتعرف على دالة المنفعة للفرد والتى تم تلخيصها فى طلب الأمن والرفاهية، وبافتراض تحرك الإنسان تحركاتٍ عقلانية بين الخيارات المتاحة له فى البيئة التى وجد نفسه فيها بعد النزول إلى الأرض وهى حالة الطبيعة، بناءً على ظروف حالة الطبيعة كان القرار العقلانى الأولى هو تجمع الأفراد فى كيانات مجتمعية تشترك فى أنشطة الدفاع ضد الاعتداءات وتتبادل فيما بينها السلع والخدمات .
هذا المجتمع لابد من أن ينشأ فية بداهةً سلطة مركزية تتولى قيادة المجتمع وتنظم إدارة الأمور العامة فيه.
فى أى مجتمع بشرى لابد من ظهور ثلاث مباريات أساس؛ الأولى هى مباراة التبادل وهى مباراة صفرية Zero-sum game مكسب أحد طرفيها يكون على حساب الطرف الآخر، حيث يستخدم الطرف القوى وسائل الضغط على الطرف الضعيف بالترتيب الآتى.
الاستيلاء – التهديد باستخدام القوة لإرهاب الضعيف – الخداع السياسى باستخدام السلطة والنفوذ – الخداع المالى .
فإذا فقد الطرف القوى كل الوسائل، لم يعد أمامه إلا التبادل العادل وإعطاء الطرف الآخر حقه كاملاً.
التصاعد فى سلم التبادل من الاستيلاء إلى الخداع المالى ثم اضطراراً إلى التبادل العادل هو نفسه تصاعد فى سلم التحضر الاجتماعى، ليس من وجهة نظر القيم ولكن من وجهة نظر ارتفاع إنتاجية المجتمع لارتفاع مشاركة المحكومين فى السلطة فى مباراة الحكم وارتفاع مشاركة العاملين فى الثروة فى مباراة الإنتاج .
هذا التحول ليس نوعاً من المثالية ولكنه يتم مع إدراك المحكومين لوجه سوء المعاملة والخداع الذى يتواجد مع ارتفاع بصيرة الضعفاء فى المجتمع، حيث القوة المحركة للتحضر الاجتماعى فى بحثنا هذا هى العدوان الدفاعى عن النفس الذى يتحرك مع إدراك وجه الغبن الذى يتعرض له الطرف الضعيف نتيجةً لفقده فائض السلطة أو فائض القيمة وهذا يحدث مع نمو البصيرة لدى الطرف الضعيف التى هى فى تصاعد مستمر بحكم التجربة الاجتماعية وتعقد العملية الإنتاجية بما يستوجب على الحكام وأصحاب الثروة إلى الارتقاء بمستوى تعليم المحكومين والمشاركين بجهدهم حيث يرفع التعليم قدرات بحوث العمليات لديهم كناتج جانبى للتعليم عامةً.

8 – الخلاصة

الله موجود، هكذا تشير الفيزيقا عن القانون الثانى للثرموديناميكا، وصفاته المؤكدة تنبع من ممارسته لخلق الإنتروبى السالب فى الكون، فهو بحق نور السماوات والأرض، يعلم ويخلق العلم وهذا هو أول أشكال الإنتروبى السالب، ويدبر وينشئ النظم الكونية وسننها وهذا هو الشكل الثانى من أشكال الإنتروبى السالب، وخالق الحياة والطاقة المحركة لكل شئٍ فى الكون، ولولا وجوده لما نشأ شئ ٌ من ذلك فى الكون ولكان عدماً مواتاً كما تشير قاعدة اتجاه الإنتروبى إلى نهايته Maximum entropy principle المستقرة فى علوم الثرموديناميكا منذ اكتشاف هذا العلم.
كل مخلوقات الله وكل الأحداث التى تجرى فى الكون وفى الأرض بل وفى نفوس البشر يعلمها الله مسبقاً مسجلة فى كتابٍ لديه سبحانه ومن قبل أن تحدث، وكل مخلوقاته لا يعصون الله ما أمرهم، ولكن آدم وذريته لهم شأنٌ آخر فقد وهب الله لهم عقولاً يفقهون بها وترك لهم أن يختاروا طريقهم (إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً ) (سورة الأحزاب، آية 72) وحمل آدم وذريته لهذه الأمانة يرفع مكانته فى الكون رفعة عالية بين مخلوقات الله المقربة، ولكن فى ذلك محاذيرٌ كثيرة لمثل هذا المخلوق فقد يكون مصدراً لكثيرٍ من الاضطراب فى الكون حتى يتفهم ويفقه الصواب من الخطأ ويتوافق مع شرائع الله الكونية فلا يكون مصدراً لأعمال تؤدى إلى اضطراب الكون بجهله وسذاجته، لقد تُرك له أن يختار فما الذى يضمن أن يهديه عقله إلى ما أراده الله منه، وهذا ما حذر منه الملائكة ولكن الله أعلم بمن خلق ( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَـؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ * وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِن الْكَافِرِينَ * وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ * فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ * فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُولَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) (سورة البقرة، آية 30 – 39 )، (وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (115) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى (116) فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنْ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117) إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى (119) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى (120) فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122) قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى (126)) (سورة طه: الآيات 115 ـ 126) ، (وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنْ السَّاجِدِينَ (11) قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنْ الصَّاغِرِينَ (13) قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنْ الْمُنظَرِينَ (15) قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17) قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُوماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18) وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنْ الظَّالِمِينَ (19) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنْ الْخَالِدِينَ (20) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنْ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ (23) قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24) قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25) ) (سورة الأعراف: الآيات 11ـ25)، لقد خلق الله آدم وأخبر الملائكة أنه سيجعله فى الأرض خليفة، وعلى الرغم من ذلك خلقه فى الجنة حيث ملكوت الله الأعلى حيث ملائكته ومخلوقاته المقربة، وأخبر آدم بشرطٍ واحدٍ من شريعة الله الكونية ؛ ألا يقرب شجرةٍ معينةٍ، ولكن آدم بنقص خبرته وعجز إرادته أمام المغريات وقلة تدريبه على استخدام عقله وإرادته، فضلاً عن عدم استيعابه لأحكام شريعة الله الكونية انزلق بطريقةٍ طبعية إلى الاستجابة لغرائزه وأكل من الشجرة فحق عليه النزول إلى الأرض، ليس كعقوبة إذلال لأكثر من سبب؛ أولاً لأنه تلقى كلماتٍ من ربه فتاب عليه ( فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) (سورة البقرة، آية 37)، (ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى ) (سورة طه، آية 122)، (فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ (23) ) (سورة الأعراف، آية 22 – 23) فلا يليق إذلاله بعد ذلك، ثانياً لأن الله يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء (لِّلَّهِ ما فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (سورة البقرة، آية 284 ) فلا يحتاج لأن يقيم الحجة على أحدٍ لكى يعذبه فلا معقِّب لكلماته سبحانه، وأخيرا وفى نهاية الرحلة على الأرض يعيد الله الصالحين من البشر إلى الجنة خالدين فيها (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمْ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) (سورة الحديد آية 12)، لا يسمعون فيها لغواً ولا تأثيماً إلا قيلاً سلاماً سلاماً (لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا تَأْثِيماً (*) إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً ) (سورة الواقعة آية 25 – 26)، فهل يعودون إليها على نفس حالهم لكى تتكرر أخطاؤهم فى الجنة حيث ملكوت الله الأعلى الذى قال عنه الله لإبليس فما يكون لك أن تتكبر فيها (قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنْ الصَّاغِرِينَ ) (الأعراف، آية 13)، أم أن علم الله المحقق بخلود أبناءِ آدم الصالحين فى الجنة يعنى أنهم قد تزكوا إلى درجة رفعتهم إلى التوافق مع فهم وفقه شريعة الله الكونية وتؤهلهم للعودة للعيش فى الجنة حيث ملكوت الله الأعلى المحكوم بشريعته الكونية .
لقد أُخرج آدم من الجنة حيث النعيم المقيم بالأمن فى ملكوت الله الأعلى حيث تحكم شريعة الله الكونية بين مخلوقات الله وحيث الرزق الوفير، لكى يواجه آدم وذريته مشكلة تدبير حياته على على الأرض ويواجه ما استقر فى الفكر السياسى والاقتصادى بوصفه «حاله الطبيعة»، حيث تتميز بحرية كل الأفراد من بنى البشر state of perfect freedom مع تميزها بتساوى كل البشر الذين يمثل كلٌّ منهم كياناً منفصلاً حُراً تمام الحرية وله حقوقٌ متساوية مع الآخرين من ذوى الكيانات الأخرى سواءٌٌ من البشر أو من غيرهم من المنتفعين بالبيئة الطبيعية state of equality of its inhabitants مع حقوق متساوية فى الانتفاع بالبيئة، وعلى الجانب الآخر هناك الموارد محدودة والأمن مهدد من احتمال نقص الموارد واعتداء المعتدين من زملائنا من المخلوقات الأخرى والبشر حيث لا توجد سلطة عامة تنظم الحقوق والواجبات بين من يقتسمون حالة الطبيعة .
ممارسة الحياة ومحاولة استعادة الأمان من اعتداء المعتدين فى الأرض وتأمين الموارد هى بداية المسئولية الثقيلة على أبناء آدم أجمعين، مسئولية مشتركة لاكتشاف «الحل الأمثل لإدارة هذه الموارد المحدودة والتشريع لمجتمعهم على الصورة المثلى لتحقيق الحد الأقصى من السلام والأمن والرفاهية لأفراد مجتمعهم» وإذا كان هذا هو الهدف النهائى المنطقى من رحلة آدم وذريته على الأرض فهل نجد التطور الاجتماعى البشرى يتقارب بطريقة طبعية حسب مجرى الحوادث على الأرض مع هدف تحقيق «الحد الأقصى من السلام والأمن والرفاهية» فى المجتمع، وإن صح هذا فما هى معايير التحضر الاجتماعى وكيفية تحقيقها وما هو حدها الأقصى الذى إذا تحقق وصل العالم به إلى نهاية التاريخ فلا تطور حضارى بعده، وإن صحت كل هذه المنظومة الفكرية واتسقت مع نفسها ألا نتوقع أن نجد الأسس التشريعية المثلى للوصول بالمجتمع إلى مرحلة تحقيق «الحد الأقصى من السلام والأمن والرفاهية» فى المجتمع هى نفسها الأسس التشريعية التى أمر بها الله فى رسالته الخاتمة إلى البشر وهى الإسلام.
فكرة نهاية التاريخ تعتبر فكرة محورية فى البحث الحالى، لأن القول بأن الغرض من رحلة الإنسان على الأرض هو تزكيته بنقله من حال الجهل والسذاجة اللذان مكنا إبليس من إغوائه فأخطأ وأنزله الله ليعيش حالة الطبيعة ثم تقاربه من اكتشاف شريعة الله الكونية وتمرسه فى العمل بها، هذا معناه أن التطور يسير فى اتجاه واحد هو التقارب من اكتشاف تلك الشريعة وجدوى العمل بها.
فى بحثنا هذا تم اتخاذ القوى الطبيعية المكونة للذات البشرية أساساً للتعرف على دالة المنفعة للفرد والتى تم تلخيصها فى طلب الأمن والرفاهية، وبافتراض تحرك الإنسان تحركاتٍ عقلانية بين الخيارات المتاحة له فى البيئة التى وجد نفسه فيها بعد النزول إلى الأرض وهى حالة الطبيعة، تلك الحالة الأولى التى نعم فيها بالحرية المطلقة والمساواة المطلقة مع رفقاء البيئة الآخرين ولكن دون وجود سلطة مركزية تنظم الحقوق والواجبات بين شركاء البيئة مما وفر تربة صالحة للأقوياء للاعتداء على الضعفاء والحصول منهم على ما ينفعهم مما استوجب تجمع الأفراد فى مجتمعاتٍ يتعاونون فيها على الدفاع المشترك ضد الاعتدءات الخارجية وبالإضافة إلى ذلك فإن تبادل السلع والخدمات مع الآخرين قد عضَّدَ هو الآخر من وجوبية اتخاذ الفرد اختيار الانضمام إلى مجتمعٍ قوى منتج.
بناءً على تكوُّن المجتمع كان لابد من وجود سلطة مركزية تنظم وتدير الأمور العامة فيه من دفاع وقضاء وتنظيم للحقوق والواجبات وحل منازعات وخلافة من الأمور العامة وبالتالى وبذلك وُجِدَ الأساس الفيزيقى للسلطة العامة والثروة كأدوات إشباع، وباتخاذ نموذج نظرية المباريات باعتباره المكون المنطقى النهائى للعلاقات الاجتماعية نجد لدينا ثلاث مباريات أساس فى المجتمع هى مباراة التبادل ومباراة الحكم ومباراة الإنتاج.
مباراة التبادل مباراة أولية صفرية Zero-sum game وهى الأقدم بين جميع صور المعاملات الاجتماعية تدور على أساس المنافسة بين طرفيها للحصول على مكاسب على حساب الآخر، تظهر فى التبادل على السلع والمنافع بين طرفى التبادل حيث يحاول كل طرفٍ منهما الضغط على الآخر أثناء عملية التفاوض ليأخذ منه كل الممكن مقابل أقل المدفوعات، وتظهر فى مباراة الحكم حيث يطلب الحكام من المحكومين بذل كل غالٍ ونفيس من أجل الوطن والتفانى فى خدمته والدفاع عنه ولكن عند اقتسام السلطة ومنافع المال العام هناك سادة وعبيد والوضع المميز لأصحاب السلطة العامة، وسائل اقتناص ناتج مباراة التبادل من الطرف المقابل هى بالترتيب التنازلى من حيث الفاعلية وقلة التكلفة وتعظيم العائد كالآتى:
الاستيلاء – التهديد باستخدام القوة لإرهاب الضعيف – الخداع السياسى باستخدام السلطة والنفوذ – الخداع المالى.
و نلاحظ أيضاً أن الانتقال من الاستيلاء إلى التهديد إلى الخداع السياسى إلى الخداع المالى هو تصاعد فى درجة تعقيد الوسائل بحيث تستعصى تكتيكات المباراة على فهم الطرف الضعيف وقدرات بحوث العمليات لديه فلا يدرك أوجه الخداع التى يواجهها على وجه التحديد فلا تتحرك لديه غريزة العدوان الدفاعى عن النفس بناء على إدراكه لأبعاد الموقف فإذا فقد الطرف القوى كل الوسائل، لم يعد أمامه إلا التبادل العادل وإعطاء الطرف الآخر حقه كاملاً.
مباراة الحكم هى مباراة غير صفرية Non-zero sum game يتعاون فيها الحكام والمحكومين لإعلاء كل مصالح الدولة وتقويتها ثم تدور بين الحكام والمحكومين مباراة صفرية لتقسيم ناتج المباراة الذى هو ناتج العمل العام الذى تعاون الطرفان على تعظيمه حيث تدور المباراة على «فائض السلطة» وهو حصول رئيس الدولة والموظفين العموميين على سلطة لا ينالها المحاسبة حيث تستغل للحصول على مكاسب شخصية من صور الأبهة الاجتماعية فضلاً عن صور التربح من السلطة.
مباراة الإنتاج هى مباراة غير صفرية Non-zero sum game يتعاون فيها المالكون لرأس المال وباقى أطراف العملية الإنتاجية لتعظيم حجم وقيمة الإنتاج ثم تدور مباراة صفرية بين المالكون لرأس المال ومن شاركوا بجهدهم لتقسيم ناتج المباراة الذى تعاون الجميع على تعظيمه حيث تدور المباراة على فائض القيمة بين مالك رأس المال من جهة مقابل من شاركوا بجهدهم على الجهة الأخرى، حيث يكون الطرف القوى على الأغلب هو مالك رأس المال باعتباره المنظم والمدير للعملية الإنتاجية.
كلما تقارب نمط التعمل فى المجتمع من التبادل العادل كلما قويت الدوافع للإخلاص فى المشاركة من جموع العمال والمحكومين فى الإنتاج والحفاظ على المجتمع والدفاع عن الملكية العامة والشأن العام فى المجتمع وبالتالى نستطيع أن نعتبر الانتقال التصاعدى من «الاستيلاء – التهديد باستخدام القوة لإرهاب الضعيف – الخداع السياسى باستخدام السلطة والنفوذ – الخداع المالى» حتى نصل فى النهاية إلى التبادل العادل بسلم التبادل هو نفسه مقياس التحضر الاجتماعى من وجهة نظر بحثنا هذا حيث يصل المجتمع إلى قمة تحضره بسيادة مبدأ التعامل العادل أى «فائض سلطة يساوى الصفر وفائض قيمة يساوى الصفر».
هذا التحول ليس نوعاً من المثالية ولكنه يتم مع إدراك المحكومين لسوء المعاملة والخداع الذى يتواجد مع ارتفاع بصيرة الضعفاء فى المجتمع، حيث القوة المحركة للتحضر الاجتماعى فى بحثنا هذا هى العدوان الدفاعى عن النفس الذى يتحرك مع إدراك وجه الغبن الذى يتعرض له الطرف الضعيف نتيجةً لفقده فائض السلطة أو فائض القيمة وهذا يحدث مع نمو البصيرة لدى الطرف الضعيف التى هى فى تصاعد مستمر بحكم التجربة الاجتماعية وتعقد العملية الإنتاجية بما يستوجب على الحكام وأصحاب الثروة إلى الارتقاء بمستوى تعليم المحكومين والمشاركين بجهدهم حيث يرفع التعليم قدرات بحوث العمليات لديهم كناتج جانبى للتعليم عامةً.
مبدأ التعامل العادل أى «فائض سلطة يساوى الصفر وفائض قيمة يساوى الصفر» كان هو نفسه مبدأ التعامل الذى شرع له القرآن الكريم وبينه الرسول الكريم وخلفاؤه الراشدون فى حكمهم وإدارتهم وكافة معاملاتهم وهو نفسه نهاية التاريخ وهو نفسه شريعة الله الكونية لمن أراد أن يتزكى فليأخذها مبدأ لمعاملاته عن قناعة واختيار ولا ينتظر حتى يُجبر عليه، مثالٌ لذلك واقعة محاسبة الرئيس بوش وعمر بن الخطاب التى تم بيانها فى هذا المقال، لقد فعلها عمر لأنه يمتثل لشرع الله إيماناً واحتساباً وزكاةً أما بوش فإن توازنات القوى فى دولته هى التى أجبرته على قبول المحاسبة على مضض، وبالتالى فإن إجبار الحكام المارقين فى دول الإسلام على الامتثال للمحاسبة على السلطة المفوضة إليهم هو عمل شرعى تماماً وتنظيم الدولة على آليات وتشريعات الديموقراطية عملٌ شرعى تماماً فنحن جميعاً أبناء آدم شركاء فى التقارب من شرع الله وحراسة حرماته بمنع الظلم وعدم المشاركة فيه أو مساندة ظالم، إن ما يجرى من حوادث وتحولات على الأرض ليس إلا جزءًا من المنظومة الكونية الإلهية ولا يمكن أن نقرأه خارج سياقها الأصلى، وإلى كل من يظن غير ذلك أذكره بآيات الله المحكمات :
(وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ) (سورة البقرة: الآية 30).
(مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23) ) (سورة الحديد: الآيتين 22ـ23).
(وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً ) (سورة الطلاق، آية 3).
النظرة التقليدية لدى أناسٍ كثيرين هى أن الأحكام الشرعية الإسلامية أساسها حركة عقائدية لا تتعامل مع الواقع الفيزيقى بل تطبق عليه معاييرها وثوابتها التى أساسها من أنباء الغيب، وهذا لا يُمكن أن يكون صحيحاً إذا كان الخالق لحياتنا الدنيا وحياتنا فى عالم الغيب واحد ‏حيث لابد من وجود غاية ورباطٍ منطقى فيزيقى يربط بينهما، وهذا ما تبينه طريقة بحثنا هذا فى تداول الموضوع، وصدق الله العظيم إذ يقول:
(وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ (*) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) (سورة الدخان: الآيتين 38ـ39)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *