في موضوع الحوار بين الحضارات
(دفاعاً عن الإسلام وليس دفاعاً عن المسلمين)
الشريعة الإسلامية فى الحكم والإدارة ، الأصول والإحياء
دكتور/ بهاء الدين محمود محمد منصور
مجلة مركز صالح كامل للاقتصاد الإسلامى ، جامعة الأزهر ، السنة الحادية عشرة – العدد الثانى و الثلاثون ، 1428 هجرية – 2007 م
1 – مقدمة
لم يختلف المسلمون على شئٍ حقيقىٍّ من أمور العقيدة أو العبادات فهما من أمور الغيب بين العبد وربه ، ولكنهم اختلفوا على أصول الحكم والإدارة أشد الاختلاف لأنها ترتبط أشد الإرتباط بمعاملات السلطة والثروة وكلٍّ منهما مرتبطٌ أشد الارتباط بمصالح البشر وإشباعهم من الأمن والرفاهية .
فى البداية كان هناك نبأُ السماء ووحيه إلى رسول الله يعلمنا شريعة الله الكونية وهى ما طبقه الرسول الكريم فى سنته الواضحة فى الحكم والإدارة وهى نفس ما اتبع خلفاؤه الراشدون من بعده ، ولكن بعد الفتوحات الإسلامية على عهد عمر بن الخطاب واتساع الدولة أصبحت الأغلبية المطلقة لغير من تربوا على يد رسول الله ، حيث دخل فى مواطنة الدولة الطلقاء من أهل مكة بما لهم من نسبٍ ومكانةٍ اجتماعيةٍ بين العرب ، وغير ذلك من أهل البلاد المفتوحة مما فتح الباب إلى أحداث الفتنة الكبرى ومنذ ذلك الوقت وما بعده يتشعب المسلمون فى أمورٍ أساسها مبادئ الحكم والإدارة.
اليوم فى القرن الواحد والعشرين، يتشعب المسلمون إلى تيارين أساسين ؛ هما السنة والشيعة حيث يندرج تحت تيار السنة حوالى 90% من المسلمين .
تاريخياً اندرج تحت إسم السنة نمطين رئيسين فى موضوع الحكم والإدارة ؛ الأول هو صحيح سنة الرسول الكريم وخلفائه الراشدين فى الحكم والإدارة ويتميز بالشورى والتعفف عن المال العام ورد المظالم عند الوفاة أو ترك المنصب ، ولكن الحضارة الإنسانية فى القرن السابع الميلادى وهى بداية القرون الوسطى لم يكن لديها من الثقافة والعلوم والنظم السياسية والفقه القانونى ما يسعف هذا النمط الراقى من الحكم والإدارة أو يدعمه مما جعله يهتز بعد اتساع الدولة عما كانت عليه فى حدود المدينة المنورة الفاضلة لتشمل الطلقاء وأبناء البلاد المفتوحة ممن لم يتربوا على يد رسول الله ﷺ فيدركوا صحيح الشريعة الإسلامية فيحسنوا العمل سواءٌ كانوا حكاماً أو محكومين ، فقد يجد المسلم نفسه فى موقفٍ من المواقف حاكماً ثم يكون محكوماً فى موقفٍ آخر وفى الحالين عليه أن يُدرك ما عليه من واجبات حيال الآخرين وما له من حقوق وأن يلتزم بآداب آداء كلٍّ منهما .
ونمط الحكم الثانى يتداول أمره فقهاء الدين الإسلامى تحت إسم السنة أيضاً على الرغم من أنه يتميز باختلافاتٍ جذرية عن صحيح سنة الرسول الكريم وخلفائه الراشدين فى الحكم والإدارة ، وهو ذلك النمط الذى استحدثه معاوية بن أبى سفيان بن حرب فى بلاد المسلمين من بعد هدمه للخلافة الراشدة حيث يتميز نمط حكمه الأموى بالإبقاء على كل ما فى الدين الإسلامى من عقائد وعبادات ، ولكن يختلف أمر المعاملات عندما تكون بين المحكومين والحكام حيث تميز بالاستبداد ومنع الشورى واعتداء الحكام وأصحاب السلطة على المال العام وعدم رد المظالم عند ترك الحكم أو المنصب ، بل وتوريث الحكم ونكاد أن نقول بأنه استعار نظام حكمه من أعظم ما كان فى عصره من نظمٍ سياسية وهما نظامى كسرى وقيصر ، وبالاختصار ينتمى نمط الحكم الأموى إلى حضارات القرون الوسطى فى أمور السياسة والفقه القانونى ولكنه ينتمى أشد الانتماء إلى صحيح الدين الإسلامى فى أمور العقائد والعبادات والمعاملات الشخصية التى ليس فيها شئٌ من أمور الحكم والإدارة ، وقد تميز الفقه المنقول الذى كُتب فى القرون الوسطى بتسمية الحكام بألقابٍ دينية سواءٌ استحقوها أو لم يستحقوها ، وبتجاهل ارتكاب الحكام وأعوانهم للكبائر طالما كانت موجهةً لتثبيت استقرار نظم الحكم فى البلاد الإسلامية ، بل واعتداءات الحكام على المال العام فضلاً عن التعتيم عليها وعلى أى آراءٍ تنتقد تجاوزاتهم هذه ، ولعل الله قد أرسل سيدنا عمر بن عبد العزيز خامس الخلفاء الراشدين بإجماع الفقهاء ليكون حجة على ممارسات الحكام هذه يوم القيامة، ولكن تحت جميع الظروف ولطول الأمد يكاد العامة من المسلمين أن يصدقوا أن الاستبداد ومنع الشورى والاعتداء على المال العام وعدم رد المظالم هى من الحقوق الشرعية للحكام المسلمين .
اليوم فى القرن الواحد والعشرين وتحت ضغوط العولمة وتوازنات القوى الناتجة عنها فى الداخل والخارج نكاد أن نلاحظ نمطاً إضافياً جديداً فى الحكم والإدارة يروج له البعض فى بلاد المسلمين، فالحكام لهم كل الحقوق التى حصل عليها الحكام الأمويون فى القرون الوسطى ولكنهم لا يقدمون لبلادهم ما قدم حكام القرون الوسطى من قوةٍ للدولة وحضارةٍ فى عصرها ، أى أن الحكام قد تجاوزت حقوقهم ما يسمح به صحيح الشرع الإسلامى كما بيَّن رسول الله ﷺ فى سنته العطرة وهو ما التزم به الخلفاء الراشدون فى حكمهم ، وتجاوز الحكام أيضا حدود حقوق الحكام كما هى معروفة لدى الدول غير الإسلامية فى العصر الحديث لتمتد إلى ما كانت عليه فى القرون الوسطى فى عصور الأمويين ولم يقدموا ما قدم الأمويون لبلادهم ، أيضاً وفى ظروف العولمة وانفتاح الإعلام لم يعد ممكنا إخفاء تجاوزات الحكام مما أسمعنا بعض الآراء لبعض الفقهاء لا تكتفى بتجاهل الخوض فى جرائم الحكام وأعوانهم ، بل تطالب المحكومين بالسمع والطاعة حتى لو ارتكب الحكام الكبائر مما يبشرنا بفقه جديد يحصل فيه الحكام على حقوق تتجاوز ما حصل عليه الأمويون فى الفقه المنقول فقد ارتكب حكام القرون الوسطى من المسلمين الكبائر فى حق المحكومين دون أن يجاهروا بها ولم يكُفْ فقهاء القرون الوسطى عن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وإن صمتوا وتجاهلوا ارتكاب الحكام للكبائر ولم يذكروها وكأنهم لم يروها أو يسمعوا بها، أما الجديد فهو الدعوة إلى شرعية ارتكابها والمجاهرة بهذه الشرعية ردّاً على ما ينقله الإعلام العالمى والفضائيات من خروقات هؤلاء الحكام وفساد إدارتهم، كل هذا ينبئنا بأن هناك اختلافاً حقيقياً بين النمط الأموى فى القرون الوسطى والمتعلقين بأهدابه فى العصر الحديث .
هذا الانفتاح الذى يشمل كل الأطياف من الشورى إلى الاستبداد ومن تحريم الاعتداء على المال العام إلى عدم محاسبة الحكام عليه ومن رد المظالم إلى عدم رد المظالم بل وطاعة الحكام مرتكبى كبائر الإثم يستوجب الحاجة إلى صياغة مبادئ الشرعية الإسلامية للعلاقة بين الحكام والمحكومين فى العصر الحديث، تلك المبادئ التى يثبت بالضرورة المنطقية أن الخروج عليها يعنى خرق الإطار العام للمعاملات الشرعية الإسلامية ويستوجب أيضاً مراجعة أصول التشريع الإسلامى واستنباط الأحكام الشرعية وبيان الثغرات التى نفذت منها كل هذه التناقضات لسد منافذها.
الغرض من هذا البحث هو تحقيق هدفين الأول بيان أساس نظرية الحكم الإسلامى الشرعى المستمدة من القرآن والسنة النبوية الشريفة وكيفية تطبيقها فى العصر الحديث ، والثانى مراجعة أصول التشريع الإسلامى المستقرة فى الفقه الإسلامى وكيفية تحصينها وسد منافذ التشعب والاختلاف على النحو الذى نراه فيما هو متوارث عن المذاهب الفقهية والسياسية لدى المسلمين .
هذا البحث يبدأ بالإشارة إلى وجود الله سبحانه وتعالى وأن شرعه واحدٌ لا يتبدل فهو شريعة الله الكونية فى الأرض كما هى فى السماء ، وأن البشر جميعاً شركاء فى رحلة الإنسان على الأرض وبالتالى فنحن جميعاً أبناء آدم شركاء فى عالمية التزكية وشركاء فى عالمية التجربة الإنسانية والعلوم والمعارف ، ننتقل إلى الإطار العام للمعاملات الإسلامية وسنة الرسول الكريم وخلفائه الراشدين فى الحكم والإدارة التى لا تزيد عن كونها التطبيق الخاص للإطار العام للمعاملات الإسلامية الشرعية ولكن فى مجال الحكم والإدارة ، ثم الدين والدولة ومعاوية بن أبى سفيان بن حرب وابتداعه للنموذج الأموى فى الحكم والإدارة والنجاح السياسى لهذا النموذج وإقامته لحضارةٍ إسلامية ودولٍ قوية تسيدت النظام الدولى العالمى طوال حقبة القرون الوسطى الممتدة من القرن السابع الميلادى حتى القرن الخامس عشر ، ثم التراث السياسى الإسلامى الذى لم تبدأ كتابته إلا فى القرون الوسطى وبعد سقوط دولة الخلافة الراشدة، وأثر التناقض بين سنة الرسول الكريم وخلفائه الراشدين فى الحكم والإدارة والنظام الأموى فى إرباك الثقافة السياسية لدى المسلمين ، ثم بيان أصول التشريع الإسلامى وفتاوى الفقه المنقول وما هى الثغرات التى سمحت بهذا الارتباك الثقافى والفكرى ، ثم بيانٌ لآساس نظرية الحكم الإسلامى الشرعى الحديث، وأخيراً فقه القانون الدستورى الحديث وأوجه الاستفادة منه فى تطوير علوم أصول التشريع الإسلامى.
2 – الإطار العام للمعاملات الإسلامية وسنة الرسول الكريم وخلفائه الراشدين فى الحكم والإدارة( ):
الإطار العام للمعاملات الإسلامية أساساته هى العدل والرحمة والإحسان وتأدية الأمانات إلى أهلها ، وإذا حكموا بين الناس أن يحكموا بالعدل (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) (سورة النحل – 90) ، ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً ( (النساء – 58). وبخصوص السلطة والنفوذ فقد حرم الله البغى بغير الحق ) قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (الأعراف – 33)، أما بخصوص التعامل فى الأموال والتبادل الاقتصادى فقد حرم الله أكل أموال الناس بالباطل ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً ( (النساء – 29). وحرم التلاعب فى الكيل والميزان وبخس الناس أشياءهم لأكل حقوقهم فى تبادل السلع الاقتصادية ﴿ وَيَقَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ النّاسَ أَشْيَآءَهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرْضِ مُفْسِدِينَ ﴾( )، وحرم الإدلاء بأموال الناس بالباطل إلى الحكام (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (سورة البقرة – 188)
، وأوجب أيضا المحاسبة بين الناس على الأموال حفاظا على حقوق العباد (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلْ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (سورة البقرة – 282)
أما آداب التقاضى وواجباته فهى القسط فى الشهادة (وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (سورة الأنعام – 152) ، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (سورة المائدة – آية 8)، وعدم كتمانها، وتحريم قول (وَإِنْ كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تجِدُوا كَاتِباً فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) (سورة البقرة – 283)، (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمْ الأَنْعَامُ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) (سورة الحج – 30) (وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً) (سورة الفرقان – 72)، أما فى القصاص فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ) (سورة النحل – 126)
وهكذا وضع الله حدوداً للتعامل لا يتعداها أحدٌ مسلماً أو غير مسلم ، مثل جرائم القتل أو السرقة أو الزنا والاعتداء على الأنساب دون إقامة الحدود التى أوضحها الله سبحانه وتعالى فى شرعه الحنيف ، فضلاً عما هو محرم مما يندرج تحت صور البغى والتعدى على الآخرين ، فإذا اختلفوا فإن آساس التقاضى العادل وأركانه يرعاها الله بنفسه فى آيات محكمات ويتوعد الخارج عن هذه الآساس أشد العذاب، حيث تقع كل هذه المعاملات على أساس متين من وجوب القسط فى الشهادة وعدم كتمها وتحريم قول الزور، وتلك أهم آساس إقامة العدل فى جميع المعاملات بين الأفراد وفى ساحات القضاء بل تكفي وحدها لإقامة مجتمع العدل والاستقامه
سنة الرسول الكريم وخلفائه الراشدين فى الحكم والإدارة( ).
المبادئ العامة للمعاملات الإسلامية كُلٌّ لا يتجزأ ولو أخذنا واحدة منها بصدقٍ لقادتنا لاتباع باقى قواعدها ولو خرقنا إحداها لخرقنا الآخرين ، ولو طبقناها على معايير وخصائص ومؤشرات العلاقة بين الحكام والمحكومين فى السنة النبوية الشريفة لوجدنا أنها هى نفسها التى اتبعها الخلفاء الراشدون فى الحكم والإدارة ، ونجد أن خصائصها كلها تنتمى إلى أصل واحد هو شريعة الله الكونية وآساسها كالآتى :
العدل والمساواة والرحمة فعلى الرغم من مكانة الرسول الكريم العالية بين أصحابه إلا أنه لم يختص نفسه ولا أسرته بأبهة سلطة ولا ترف مال (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً (*) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً) (سورة الأحزاب – 28 ، 29)،
ولا شفاعة فى تطبيق الحدود ولو كانت فاطمة بنت محمد( ).
الشورى ، أمر الله سبحانه وتعالى بالشورى كما جاء فى الآيتين الكريمتين (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) (سورة آل عمران – 159)، و (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) (سورة الشورى – 38)، وأقل ما يعنيه ذلك هو حرية الرأى وألا يُضار أحدٌ من اختلافه فى الرأى مع أصحاب السلطة والنفوذ .
التعفف عن التمتع بأبهة السلطة أو اكتساب النفوذ الاجتماعي أو التربح منها كان الرسول الكريم عفيفاً عن السلطة والمال العام وكذلك حرم الله على أزواجه إن كُنّ يردن الله ورسوله فليس لهم إلا أن يكونوا مثله (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً (*) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً) (سورة الأحزاب – 28 ، 29)،
السلطة أمانة لا تُستخدم لغير الغرض التى فُوضت من أجله ، والاعتراف للرعية بحقها فى محاسبة الحاكم ومراجعته على السلطة العامة وعلى المال العام وهذا واضحٌ من خطبتى استهلال الحكم من أبى بكرٍ وعمر بطلب التقويم والنصيحة ، وقصة المرأة التى راجعت عمر بن الخطاب على مهور النساء، وقصة الرجل الذى حاسب عمر على طول حُلّته .
وأخيراً رد المظالم قبل مغادرة مقعد السلطة بالوفاة أو بغير ذلك وهذا واضحٌ من ذكر الخبر عن مرض رسول الله الذى توفى فيه( ) الدروس والعبر، وكذلك فعل خلفاؤه الراشدون وعلى رأسهم أبوبكر وعمر عند الوفاة ومحاسبة كلٍّ منهم لنفسه وسؤالهم عمن جلد له ظهراً أو شتم له عِرضاً أو كان له درهماً فى ذمته .
سنة الرسول الكريم وخلفائه الراشدين فى الحكم والإدارة ليست إلا التطبيق الخاص للمبادئ العامة للمعاملات الإسلامية فى مجال الحكم والإدارة وأن الخروج عليها يؤدى حتماً إلى الانزلاق خارج الإطار العام للمعاملات الإسلامية بما يؤدى بطبيعة الأمور إلى ارتكاب الكبائر .
نستطيع أن نلخص العقد الاجتماعى بين الحكام والمحكومين فى تطبيق الدستور الإسلامى فى الحكم والإدارة المأخوذ عن صحيح سنة الرسول الكريم وخلفائه الراشدين فى الحكم والإدارة يوم وقف رجلٌ من العامة يحاسب سيدنا عمر ابن الخطاب، «جاءت عمر برود من اليمن ففرقها بين المسلمين فخرج فى نصيب كل رجل برد واحد ونصيب عمر كنصيب واحد منهم . قيل: واعتلى عمر المنبر وعليه البرد وقد فصله قميصا، فندب الناس للجهاد ، فقال له رجل : لا سمعا ولا طاعة . فقال عمر : ولم ذلك؟ قال الرجل لأنك استأثرت علينا ؛ لقد خرج فى نصيبك من الأبراد اليمنية برد واحد، وهو لا يكفيك ثوبا ، فكيف فصلته قميصا وأنت رجل طويل ؟ فالتفت عمر إلى ابنه قائلاً: أجبه يا عبد الله . فقال عبد الله : لقد ناولته من بردى فأتم قميصه منه . قال الرجل : أما الآن فالسمع والطاعة»( ).
هذا عمر بن الخطاب يعلمنا شريعة الله الكونية فى الحكم واتزان العلاقة بين الحكام والمحكومين، إنها السمع والطاعة الضرورية لانتظام الحكم والإدارة مقابل قبول الحاكم لمبدأ المحاسبة من الرعية على السلطة والمال العام قبولاً مطلقاً لا اعوجاج فيه وبدون قيدً أو شرط كما فعل عمر .
الإطار العام للمعاملات الإسلامية هو الأصل أما سنة الرسول الكريم وخلفائه الراشدين فى الحكم والإدارة فهو الفرع ولو طبقنا الأصول الإسلامية فى المعاملات واحترمناها حق احترامها فى معاملات السلطة والمال العام لما نتج عنها إلا سنة الرسول الكريم وخلفائه الراشدين فى الحكم والإدارة ، وتتلخص سنة الرسول الكريم وخلفائه الراشدين فى الحكم والإدارة فى ثلاث سنن حاكمة:
الأولى : لا شفاعة فى تطبيق الحدود
الثانية: المساواة بين البشر جميعاً والقصاص من الحكام والأثرياء إذا اعتدوا على غيرهم بنفوذ السلطة أو نفوذ المال
والثالثة: هى محاسبة عمر بن الخطاب نفسه من قبل الرعية على ما فى يده وما يلبس من برود اليمن
لو افترضنا أن رئيس الدولة له كل السلطة ولا يحاسب إلا أمام الله كما يتطرف بعض الفقهاء فى التَشَيُّع لرئيس الدولة ولكنه التزم بصحيح الدين والسنة النبوية فى المساواة فى إقامة الحدود (بمعنى المعاقبة والمحاسبة حسب القانون السائد فى الدولة) بين كبار رجال دولته وأبناء أسرته الكرام غيرهم من المسلمين كما فعل الرسول الكريم والخلفاء الراشدون من بعده ومنهم عمر، ولو التزم بالقصاص من أعوانه لو اعتدوا على حقوق المواطنين فى الدولة ولو كانوا ممن هم تحت الفتح كما فى حالة عمر بن الخطاب والمصرى الذى سبق ابن عمرو بن العاص( )، لو فعل الحاكم ذلك وأقام صحيح أحكام الشريعة بأمانة فى أسرته وكبار أعوانه لاضطر هو نفسه إلى الاستقامة حتى ولو كان فى الأصل معوجّاً لأنه لن يجد أعواناً فلن يكون لأحدٍ مصلحةً فى اعوجاجه ولانصرفوا عنه .
لقد كانت تلك هى مبادئ العلاقة الشرعية بين الحكام والمحكومين فى المدينة المنورة الفاضلة حكاماً ومحكومين ، وهو نمطٌ متحضر لم تعرف البشرية مثيلاً له فيما سبق من النظم السياسية ولا معاصراً له فى القرن السابع الميلادى ، تلك كانت القرون الوسطى وأحدث ما يمثلها من وجهة نظر التحضر الإنسانى فى ذلك الوقت كان نظامى كسرى وقيصر وما يتسق معهما من فكرٍ سياسى، لقد كان اتحاد الدولة مع رئيس الدولة مطلوباً فى تلك العصور ولا يوجد حلٌّ آخر للسياسة والإدارة، ومسئولية الحاكم تجاه شعبه هى فى حقيقة الأمر هى مسئوليته تجاه نفسه فكل ما يملك موجود داخل المملكة فإذا أُ ضيف إلى ذلك توريث الحكم اكتملت الصورة ووجب اتحاد المالك وهو رئيس الدولة بما يملك وهو «الدولة وما عليها» لمصلحة المالك والمملوك والرعية وكل هذه المفاهيم والنظم تعطى الحاكم كل شئ، ولا يبقى للمحكومين أى فكر ولا تنظيمات سياسية معروفة فى ذلك الوقت تسمح بتنظيم الشورى وحرية الرأى ومحاسبة الحكام وهى أمور لا يمكن تنفيذها .
3 – الدين والدولة ومعاوية بن أبى سفيان بن حرب
لم يكن هناك نمط يعرفه الناس للحكم فى الدولة الإسلامية الناشئة غير سنة الرسول الكريم وخلفائه الراشدين فى الحكم والإدارة، ولكن شرعيته السياسية اهتزت على أواخر عثمان وبلغ الاهتزاز مداه فى عهد على بن أبى طالب حيث أثبتت الأيام فشل هذا النمط عمليا نتيجةً لعدم قدرته على التكيف وفشله فى التطور الضرورى للدولة للانتقال من القيام على المبادرات الشخصية القائمة على أفضل خلق الله وهم الرسول الكريم وخلفائه الراشدين ورعيةٍ من الصحابة الأجلاء من المهاجرين والأنصار ، والانتقال إلى دولةٍ اتسعت بعد الفتح لتستوعب دخول أعدادً كبيرة من طلقاء مكة وأهل الأمصار المفتوحة لم يتربوا على يد رسول الله ولم يستوعبوا قيم الإسلام الرفيعة ممن أسلموا ولم يدرك الإيمان قلوبهم وعقولهم مما كان يستوجب إعادة تنظيم الدولة الإسلامية من بعد عمر بن الخطاب بالاتجاه نحو بناء الأطر القانونية والمؤسسية والآليات السياسية فى الدولة الناشئة بما يضمن العلاقة بين الحكام والمحكومين وعدم خروج أحد منهم عن الإطار المسموح به بالخطوات المنطقية الآتية:
-وضع صيغة تبين ما تم استخلاصه من المبادئ الفقهية التى تقوم عليها العلاقة بين الحكام والمحكومين فى الدولة.
-وضع الإطار والصياغة القانونية المحكمة التى تتفق مع هذه المبادئ بما يعنى تطبيقها فى ظل أقل ما يمكن من الاختلاف على المفاهيم والمبادئ.
-وضع البناء المؤسسى للنظام السياسى والإدارى بما يتفق مع هذه المبادئ ويضعها موضع التنفيذ.
-وضع الآلية القانونية والمؤسسية التى تفسر وتفصل فى الخلافات التى تنشأ عند تطبيق هذه المبادئ.
فى هذه الظروف السياسية اعتلى معاوية رأس السلطة فى الدولة الإسلامية بعد أحداث الفتنة الكبرى وقد كان رجل دولة من الطراز الرفيع ، وبالتأكيد واجه نفس المشكلة الناجمة عن الفجوة الحضارية والتى تسببت فى عدم قدرة الدولة على بناء الأطر القانونية والمؤسسية والآليات السياسية بما يتفق وصحيح المبادئ السياسية الإسلامية كما علمنا الرسول الكريم وخلفاؤه الراشدون .
سواءٌ فعلها معاوية بن أبى سفيان بن حربٍ عن علمٍ أو لأغراضٍ شخصية ، إلا أنه اقتبس أحدث ما فى عصره من فكر وفقهٍ ونظمٍ سياسية مجرَّبةٍ وفعالة فى ظروف عصره وطبقها فى دولة الإسلام ، لقد حافظ على كل ما فى الإسلام من صحيح العقائد والعبادات ولكنه استخلص النظام السياسى لكسرى وقيصر وما يتفق بالضرورة معه من تنظيمٍ للدولة وفكرٍ سياسى وطبَّقَ ما استخلصه فى دولة الإسلام ، فكانت الدولة الأموية ، ذلك النمط من الحكم الذى تميز بالاستبداد بالسلطة والمال العام وتوريث الحكم وعدم رد المظالم ، إلى آخر ما نعلم عنه بالضرورة ويتفق مع مبادئه هذه( ).
يتميز المذهب الذى أنشأه معاوية بن أبى سفيان بن حرب فى علاقات الحكم والإدارة مع المحكومين بالخصائص والأمور الآتية( ):
منع الشورى ، سواء بمعنى حرية إبداء الرأى لكل فردٍ من أفراد الرعية ، وهذا أقل ما فى الأمر الإلهى بالشورى ، أو بمعنى محاسبة أولى السلطة على ما يُمارسونه من أوامر السلطة العامة كما بيَّن أبوبكر وعمر .
التحول إلى الملكية بتوريث الحكم ، وهو أمر لم يعرفه الإسلام على الإطلاق لا فى عهد الرسول الكريم ولا فى سنة حكمه ولا فى سنة خلفائه الراشدين .
التمتع بالسلطة ببعض صور البغى والتكبر على الرعية والضعفاء فى الدولة ، وهو الأسلوب الظاهر مثل سكنى القصور من المال العام واتخاذ المواكب ، وما منع الشورى والانفراد بسلطة الحكم والبطش بمن يتجرأ من الخصوم السياسيين إلا قمة البغى والتكبر بغير الحق .
التربح من السلطة ، عدم وضع حدود لاستحقاقات الملك أو رئيس الدولة نظير أعباء الوظيفة كما فعل أبوبكر وعمر رضى الله عنهما ، مما أدى إلى انعدام التفرقة بين ما يمتلكه الملك بشخصه وما تمتلكه الدولة ، ثم انتقلت العدوى إلى الموظفين العموميين بعدم التفرقة بين ما يجوز وما لا يجوز فى موضوعات المال العام .
عدم رد المظالم لا عند الوفاة ولا غيره ، بما فتح الباب أمام الموظفين العموميين ، كما يفعل ملوكهم ، إلى التوغل فى المظالم ، فلا رد لها لا الآن ولا غداً والحساب مؤجل لدى الغفور الرحيم الذى يغفر الذنوب جميعاً إلا الشرك به .
والسؤال الذى يفرض نفسه، هل يُمثِّل منع الشورى والتحول إلى الملكية بتوريث الحكم وعدم وجود حدود بين اقتناء المال عن طريق السلطة أو بالطرق الشرعية الإسلامية وعدم رد المظالم لا عند الوفاة ولا غيره تحوُّلاً يخرج عن الإطار العام للمعاملات والحدود الإسلامية، أم أنه صورة من صور التطبيق لسنة الرسول الكريم فى الحكم والإدارة ولا تؤدى إلى تناقضٍ رئيس مع ثوابت الشرع والحدود الإسلامية، لم يمر عهد طويل على خروج من حكموا بهذا المذهب عن سنة الرسول الكريم وخلفائه الراشدين فى الحكم والإدارة إلا واضطروا إلى خرق الإطار العام للمعاملات الإسلامية ، وكان ذلك بقتل حُجر بن عدى فى السنة الحادية والخمسين من الهجرة على يد معاوية بن أبى سفيان بن حرب نفسه وبعد توليته الحكم بإحدى عشر سنة( )، وهذا يُثبت أن السنة النبوية الشريفة التى اتبعها الخلفاء الراشدون فى الحكم والإدارة ليست إلا التطبيق الدقيق لصحيح المبادئ الإسلامية العامة فى موضوع الحكم والإدارة ولا يتسق مع الإطار العام للمعاملات الإسلامية إلا صحيح سنة الرسول الكريم فى الحكم والإدارة ، وأن الخروج عن هذه السنة يؤدى حتماً إلى خرق الإطار العام للمعاملات الإسلامية والوقوع فى المحرمات الشرعية ، وما قتل حُجر بن عدى إلا إثبات لذلك( ).
هذا النمط من الحكم قد استحسنه واتبعه كل الحكام المسلمين بدءاً من القرن السابع الميلادى وقت نشأة هذا النمط من الحكم على يد معاوية حتى القرن الخامس عشر الميلادى عندما تحولت القيادة الإسلامية إلى دولة الخلافة العثمانية ، لقد نجح معاوية ومن اتبعوا نمط حكمه فى بناء دولٍ إسلامية قوية تسيدت النظام العالمى طوال حقبة القرون الوسطى وأقامت حضارات ثقافية وسياسية وعلمية باهرة .
لقد قامت دولة الخلافة الراشدة على عفة الخلفاء الراشدين وورعهم بصفاتهم الشخصية ، واستمرار دولهم واستقرارها على أساس وجود مثل هذا النمط من الرجال دون مؤازرةٍ من بيئةٍ قانونيةٍ ومؤسسية وتوزنات قوىً فى الدولة والعصر الذى تعايشه ، وهذا من الناحية السياسية يعتبرُ أمراً غير واقعى ، ولذلك وعلى النحو المعروف فى التاريخ الإسلامى بلغت دولة الخلفاء الراشدين قمة نضجها فى عهد سيدنا عمر بن الخطاب قبل أن تهتز الشرعية السياسية للدولة فى عهد سيدنا عثمان بن عفان وتواجه أحداث الفتنة الكبرى على عهد سيدنا على بن أى طالب حتى سقطت فى ظروف القرن السابع الميلادى نتيجةً لوجود فجوة حضارية بين القيم السياسية التى تقوم عليها دولة الخلفاء الراشدين وتلك القيم السائدة لدى البشر عامة فى ظروف القرون الوسطى مما شكّل عقبة فى تطور الدولة القانونى والمؤسسى مع عدم وجود التكنولوجيا التى تساند هذه القيم بآليات التنقل والاجتماع والاتصال وتبادل المعلومات ولم يعد هناك أملٌ فى بعث مثل هذا النمط من الحكم فى الدولة الإسلامية إلا على آساس توازنات القوى والأطر القانونية والمؤسسية بالدولة والمجتمع والثقافة السياسية التى تساند وتحرس مثل هذا النمط من الحكم والعلاقات السياسية المرتبطة به .
4 – فى تقويم التراث السياسى الإسلامى
قامت دولة الخلافة الراشدة على عفة الخلفاء الراشدين وورعهم بصفاتهم الشخصية ، ثم سقطت بعد انتهاء وجود مثل هذا النمط من الرجال ذوى العفة والفضل ، ولم يعد هناك أملٌ فى بعث مثل هذا النمط من الحكم فى الدولة الإسلامية بغير أن يضطر الحكام إلى احترام الحقوق الشرعية للمحكومين على آساس من توازنات القوى والأطر القانونية والمؤسسية بالدولة والمجتمع والثقافة السياسية التى تساند وتحرس مثل هذا النمط من الحكم والعلاقات السياسية المرتبطة به ، بهذه الفكرة نعيد قراءة التراث السياسى الإسلامى بحثاً عما يؤازر تحقيق العلاقة بين الحكام والمحكومين على آساس مبادئ الخلافة الراشدة ، وبما يحفظ حقوق المحكومين الشرعية الإسلامية قِبَلَ الحكام المسلمين ، وليس على آساس مكارم الأخلاق والمثل العليا غير الملزمة ، بحثاً عن مبادئ الخلافة الراشدة وكيف تم تناولها فى التراث السياسى الإسلامى على آساسٍ من العلوم السياسية وبناء توازنات القوى بالدولة من خلال بناء الأطر القانونية والمؤسسية والثقافة السياسية وليس الوعظ والإرشاد.
يُبنى التراث السياسى الإسلامى على شقين ؛ الأول فقهى يبين ما جاء فى الموضوع السياسى مأخوذاً عن العقيدة والشريعة الإسلامية ، والثانى ما يخص الظاهرة السياسية فى المجتمع الإنسانى ، وكثيراً ما يتم خلط المصدرين فى مرحلة البحث عن الأحكام ، فتختلط الأدلة النقلية من القرآن والسنة مع الملاحظات والرؤى الواقعية مما يؤثر على منهج البحث والأدلة التى يقدمها الفقهاء والمفكرون الإسلاميون , وهذا يجعل هذا الفكر الإسلامى لا تنطبق عليه المعايير العلمية المتعارف عليها فى العلوم الغربية والخاصة بضمانات الإثبات المحسوسة للتأكد من تطابق هذا الفكر والواقع , ولا تنطبق عليه معايير التفلسف فى الأمور الواقعية (فى غير موضوعات ما وراء الطبيعة) كما تعارف عليها العلماء والباحثون فى المناهج الأكاديمية بالمعايير العامة ، مما يجعل الاعتراف بصحة هذا الفكر السياسى بصرف النظر عن صحة نتائجه أمراً صعباً على من لا يؤمن أصلاً بالكتاب والسنة ، فالعلم بمنهاجه وليس بموضوعه ، فمن المفترض حسب المعايير العلمية أن يُبنى النسق الفكرى كله على مقدمات أساسها الملاحظة للواقع والقوانين العلمية الثابتة والمنطق السليم , أما أن يدخل فى نسيج هذا النسق أدلة نقلية عن الكتاب ( القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة ) فيقطع الاتصال العلمى بين قضايا النسق والواقع المحسوس وليست له ولا لمنطقه من حجة إلا على من يُؤمن أصلاً بالكتاب والسنة ، أما غير المؤمنين فيمكن أن ينظروا إلى هذا الفكر على أنه فكر غيبى مبنى على مسلمات ليس لها إثبات فى الواقع ، ولكن هذه الإشكالية المنطقية يحلها أن هناك أسس فيزيقية للعقيد والشريعة الإسلامية وغاية لكل الأحداث التى تجرى على الأرض فى الواقع المحسوس( ) مما يسمح بدخول هذه الأدلة النقلية عن الكتاب والسنة فى النسيج المنطقى للفكر العلمى ويجعل منهج البحث والأدلة غير مقطوعى الصلة مع الواقع ، وحيث أن المعيار العلمى الهام لصحة القضايا العلمية «هو قابلية القضية العلمية للتحقق فى الواقع المحسوس» قد أصبح جزءاً أساساً مما نبحث عنه من فكرٍ سياسي قابلٍ للتطبيق ومعايشة الواقع وإعطاء نتائج يسبق توقعها بنجاح ، وإن منهج استنباط الأحكام الشرعية الإسلامية كما هو مبين فى «أصول التشريع الإسلامى» يحتاج إلى مراجعة للتأكد من معايير مطابقته الكلية للقرآن والسنة والواقع.
ونحن نبحث فى التراث السياسى الإسلامى سوف نرصد ما يخص الجزء العام من الظاهرة السياسية وهو الخاص بالحاجة البشرية العامة للاجتماع والحاجة إلى السلطة المركزية وتعاون الحكام والمحكومين لنجاح الدولة فى أعمالها ( وهو الجزء العام من مباراة مجموع ناتجها لا يساوى الصفر «Non-zero sum game»( )، ثم نرصد ما يخص الجزء الخاص بتقسيم ناتج العمل وهو الخاص بكيفية اقتسام السلطة والمحاسبة عليها (و هو المباراة الصفرية الداخلية لتقسيم ناتج المباراة بعد نجاحها «Zero sum game»( ), مع ملاحظة أن الجزء العام من الظاهرة السياسية وهو الخاص بالحاجة إلى تعاون الحكام والمحكومين لنجاح الدولة فى أعمالها لن يقاومه لا الحكام ولا المحكومين فكلٌّ منهما منفرداً أو مجتمعاً صاحب مصلحةٍ فى نجاحه ، أما وضع العلاقة بين الحكام والمحكومين فى موضعها الصحيح على آساس مبادئ الخلافة الراشدة ، وبما يحفظ حقوق المحكومين الشرعية الإسلامية قِبَلَ الحكام المسلمين فيقع فى الجزء الخاص بتقسيم ناتج العمل وهو الخاص بكيفية اقتسام السلطة والمحاسبة عليها (و هو المباراة الصفرية الداخلية لتقسيم ناتج المباراة بعد نجاحها «Zero sum game»( ))، وسيجد مقاومةً من قبل الحكام حتى يسمحوا للمحكومين بمشاركتهم القرار والمحاسبة على النتائج لأن الحكام بحكم التفويض بالسلطة الذى يمارسونه ، تقع فى أيديهم كل الأمانه ، فهل سيسمحون لأحدٍ أن يقاسمهم إياها .
فى المقدمة عن منهاجية مصادر التراث الإسلامى كما جاءت فى كتاب «فى مصادر التراث السياسى الإسلامى» للدكتور / نصر عارف( )، حيث يكتب فيه «ذلك أن التراث الإسلامى – عند فريقٍ من الباحثين – يشمل النص الإسلامى الموحى ، المنزَّل على رسول الله ﷺ – المتمثل فى كتاب الله وبيانه فى سنة رسول الله ﷺ – كما يشمل سائر ما أنتجه العقل المسلم من خلال تفاعله مع هذين المصدرين الأساسين لمعرفته، ومع الواقع الذى عاشه، واللغة العربية التى مثلت وعاء هذا النص، ووسيلة الإفصاح عن مكنونه وبيان معانيه. فحول النص الموحى استطاع العقل المسلم أن يبنى مجموعة من المعارف والعلوم التى استندت إلى النص فى مرحلة تكوينها ثم تحولت إلى أدواتٍ لفهمه وأدواتٍ لتفسيره وتأويله وتنزيله على الواقع المُعاش».
ومؤلف هذه المقالة يأسف لكل من لا يفرق بين النور الإلهى المتمثل فى القرآن الكريم وسنة الرسول الكريم وخلفائه الراشدين فى الحكم والإدارة، وما يكتبه البشر أيًّا كانت مكانتهم من الأئمة والمفكرين الإسلاميين، سواءٌ كان عن عدم إدراك كما يفعل المستشرقون أو جاء نتيجةً لرفع الأئمة إلى درجاتٍ عُلَى بحيث لا يمكن نقدهم فيكتسبون حصانةً فتصبح أحكامهم وآراءهم فوق النقد وتختلط عملياً مع الوحى المنزه عن الخطأ، فتختلط الرؤى وتختلط الأحكام وتختلط المعايير.
ومن مبدأ استبعاد القرآن والسنة مما يندرج تحت مسمى «التراث السياسى الإسلامى»، فالقرآن والسنة معا (كلاً متكاملاً) هما المرجع السامى والمهيمن الذى يجب أن يقاس عليه مدى صحة الفكر السياسى الذى أدركه المسلمون، الفكر السياسى الإسلامى كم هائل وكبير وقد وصل إلى مسامع وقراءات مؤلف هذه المقالة الكثير منه فى مواقف وصفحاتٍ متفرقة ولكن من مبدأ المحافظة على الهدف من قراءتنا الحالية للتراث السياسى الإسلامى وهو البحث عما يؤازر أو يساعد على قيام دولة الخلافة الراشدة وإحياء مبادئها فى الحكم والإدارة، نعيد قراءة التراث السياسى الإسلامى وأفضل ما يفى بغرضنا هذا هو ذلك المسح العام الشامل الذى قام به الدكتور نصر عارف للتراث السياسى الإسلامى مبينا تلخيصاً بغرض التعريف abstract»» لأعمال مؤلفى هذا التراث، وهو ما سنعتمده فى عرضنا هذا مع تنويهٍ خاصٍ بأعمال الفارابى والماوردى والإمام الغزالى والإمام ابن تيمية وابن خلدون باعتبارهم أهم المفكرين السياسيين المسلمين فى عرف كثيرٍ من دارسى موضوع الفكر السياسى الإسلامى( ).
تبدأ كتابات المسلمين فى موضوعات الظاهرة السياسية مع البدايات الأولى للتاريخ الإسلامى حيث يرصد الدكتور نصر عارف «المؤلف عبد الحميد الكاتب( )، وقد (توفى 132 هجرية / 750 م ) حيث كان الرجل من خاصة مروان بن محمد آخر ملوك بنى أمية فى المشرق، وقُتل معه على أيدى العباسيين، بما يعنى أنه لا يوجد لدينا فكر سياسى مدون قبل أحداث الفتنة الكبرى واستيلاء معاوية بن أبى سفيان ابن حرب على الحكم وتمكن النمط الأموى فى الحكم والإدارة من الدولة الإسلامية حتى اليوم فى القرن الواحد والعشرين، وقد رصد عدد 224 مؤلِّفاً قاموا بكتابة 288 كتاباً معروفاً بعضها يحتوى على مجلداتٍ عدة بما يعنى أن هناك كم كبير ومتعدد من هذه المؤلفات، ولكن كلها تتواتر حول موضوعات معينة يُمكن أن نصنفها تحت تيارين رئيسين:
التيار الأول: يتناول الموضوعات الفكرية والفلسفية الخاصة بموضوع الحكم
و يندرج تحت هذا التيار موضوعات الإمامة واستقراء التاريخ فى كيفية الوصول إلى الحكم وصعود وسقوط الدول والممالك والموقف من السلطان الجائر، وأبرز من كتب فى هذه الموضوعات الفارابى والماوردى والإمام الغزالى والإمام ابن تيمية وابن خلدون ، وهم فى عرف كثيرٍ من دارسى موضوع الفكر السياسى الإسلامى يُعتبرون من أهم المفكرين السياسيين المسلمين( ).
التيار الثانى: يتناول استشارات فنية للحكام وصلاح الحكم وقوة الدولة وحسن تدبيرها
وقد كتبها هؤلاء المؤلفون من موقعهم الخاص والمهنى حيث كانوا يعملون فى أغلب الأحوال مستشارين للسلاطين ويكتبون هذه المؤلفات بتكليفٍ من السلاطين، والأمثلة متواترة على ذلك، وهى أقرب إلى خلاصة الحكمة والتجربة أكثر من قربها من معايير الفكر والتفلسف.
ويندرج تحت هذا التيار بيان وظائف الدولة، واجبات الحكام والمحكومين ، وعظ وإرشاد الملوك وتقديم النصيحة لهم فى الخاص والعام من الأمور ومساعدة الحكام على التنظيم الداخلى للدولة وفهم مؤسساتها والعلاقة بينهم وتكاد أن تقوم هذه المؤلفات بدور وضع الإطار الدستورى والتنظيمى للدولة قبل أن يعرف العالم شيئاً عن الدساتير المكتوبة وفقهها، «القضاء، والحسبة» ودور كلٍّ منهما فى الدولة ، الخراج والسياسة الاقتصادية للدولة.
فإذا أردنا أن نصنف الموضوعات لما يخص بحثنا عما يساعد على بعث الخلافة الراشدة لوجدنا أن الموضوعات التى تناولها التراث المنقول عن الفقهاء والمفكرين المسلمين ينقسم إلى قسمين رئيسين :
الأول: يتناول موضوعات تعضد الجزء العام من مباراة الحكم؛ وهو الجزء العام من مباراة مجموع ناتجها لا يساوى الصفر «Non-zero sum game»( )، أى يتناول ضرورة الاجتماع وضرورة قيام قيادة لهذا المجتمع تتولى الأمور العامة ومبررات ذلك الدنيوية والدينية ، وهذا يندرج تحت موضوع الإمامة حيث تنتهى كلها إلى وجوبها شرعاً وواقعاً وجوب الإمامة من الناحية الدينية ومبررات ذلك من ناحية الظاهرة السياسية ، وحول وجوب طاعة الإمام ومبرراته من الناحيتين الدينية والسياسية وقد وصل ابن تيمية فى هذا الأمر إلى أبعد مدى فعلى الرغم من أنه شديد التعلق بالعدل قيمةً خلقية وقيمةً عملية إلا أنه «يوضح أن نتائج الثورة والخروج على الحكام أشد مفسدةً من المحافظة على الدولة بحالتها تحت حكم الإمام الجائر»( )، هذا على الرغم من أن ابن تيمية كان من أشد المؤكدين على ضرورة الشورى ووجوب طلبها من العلماء بوساطة الحكام ووجوب تقديم النصيحة من العلماء إلى الحكام والعامة( ) وسُجن مراتٍ ثلاث لأسبابٍ تتعلق بآرائه وفتاواه فى أمور الدين حيث توفى فى السجن فى آخر مرة سُجن فيها( )، ووظائف الدولة وواجبات الحكام والمحكومين ، التنظيم الداخلى للدولة ومؤسساتها , مبادئ الحكم والإطار التنظيمى للدولة تناوله بإسهاب بعض الأئمة مثل الماوردى حيث يُعتبر كتابه «الأحكام السلطانية والولايات الدينية» دستوراً عاماً للدولة يحتوى كافة الأسس التى تقوم عليها( ) وفيه يتناول كل الموضوعات؛ حقوق الأمة على الإمام وحقوق الإمام على الأمة وتنظيم الدولة والحسبة والقضاء حيث تميز الماوردى ببحوثه السياسية «حيث قدم أفكاراً سياسية خالصةً دون خلطٍ بالفكر أو الفلسفة»( )، وقد تناول الماوردى الخراج والسياسة الاقتصادية للدولة ، وكذلك تناول كثيرٌ من الأئمة تلك الأمور الاقتصادية بإسهاب حيث نذكر منهم الإمام ابن تيمية( )، وبالاختصار تذخر كتب التراث السياسى الإسلامى بالكثير من المبررات الدينية والسياسية فى وجوب تآزر كل من ينتمى للدولة فى نجاح أنشطتها هذه.
ثانياً: إذا جئنا إلى الجزء الهام من موضوعنا لنرصد ما يخص الجزء الخاص بحقوق المحكومين كما تبينت فى سنة الرسول الكريم وخلفائه الراشدين فى الحكم والإدارة فنرصد فى واجبات الإمام وواجبات الرعية؛ النصح بالشورى حيث يغلب على الؤلفات أن يُنصح الإمام (وهو رئيس الدولة) بالالتصاق بأهل العلم والأخذ بنصيحتهم، وعلى الأغلب لا يوُجد أحدٌ من المفكرين السياسيين المسلمين إلا وكتب فى نصائح للحكام وتحت عنوانٍ صريحٍ للمؤلف بأنها نصائح وقد فعلوها باعتبار أنهم من أهل الحل والعقد وأهل المشورة والمقربين من الحكام والوزراء، وكتب كثيرٌ من المفكرين الإسلاميين عن القضاء واختصاصاته وكذلك الحسبة، أما القضاء فهو رد المظالم بناءً على طلبٍ من المظلوم، وأما الحسبة فهى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر بمبادرةٍ من المحتسب «ويتضمن مراقبة سلوك الأفراد فى الدين والاقتصاد وفى كافة مجالات النشاط تحقيقاً للعدل والفضيلة وفقاً لمبادئ الشرع ويأمر المحتسب الناس بصدق الحديث وأداء الأمانة وينهى عن المنكرات والكذب والخيانة وتطفيف الميزان وغيرها»( ).
هذا القسم الثانى يقع فى الجزء الخاص بتقسيم ناتج العمل وهو الخاص بكيفية اقتسام السلطة والمحاسبة عليها (وهو المباراة الصفرية الداخلية لتقسيم ناتج المباراة بعد نجاحها «Zero sum game»)( )، وسبق أن توقعنا أن نجد مقاومةً من قبل الحكام حتى يسمحوا للمحكومين بمشاركتهم القرار والمحاسبة على النتائج لأن الحكام بحكم التفويض بالسلطة الذى يمارسونه حيث تقع فى أيديهم كل الأمانة، فهل سيسمحون لأحدٍ أن يقاسمهم إياها ، وقرأنا التراث لنجد فيه ما يساعدنا على إعطاء المحكومين حقوقهم الشرعية وكان لدينا الأمل أن نجد ذلك فيما قرأناه عن واجبات الإمام وواجبات الرعية ، والشورى ، وولاية أهل الحل والعقد الأدبية، والقضاء بسلطتهم، والحسبة بسلطتهم الأدبية وحق الضبطية القضائية التى من المفترض أن تكون ممنوحةً لهم، ولكن كل هذه النظم التى يمكن أن يلجأ إليها المظلوم لإنصافه بمحاسبة أهل السلطة، يجلس على رأسها رئيس الدولة ولا تُطبق عليه ، بل تُطبق على كل من دونه، حيث لا يوجد فى النظام من يُحاسبه صراحة لأنه هو الذى يعين رجال القضاء ورجال الحسبة ، فكيف يحاسبون من اختارهم وعينهم ثم إنه على الأغلب يملك سلطة التعيين ويملك سلطة العزل، بل أقصى ما يُمكن لتصويب أعمال رئيس الدولة هو أن يتقدم إليه أحدٌ من الناس بالنصيحة وله أن يقبلها أو لا يقبلها، وقد يصل الأمر به إلى الغضب فيبطش بمن نصحه وكثيرٌ من الفقهاء والمفكرين السياسيين المسلمين قد زُج بهم فى السجن سواءٌ بسبب الاختلاف فى الرأى أو غير ذلك من أمور السياسة وألاعيب السلطة نذكر منهم ابن تيمية( ) وابن خلدون( ) وأفضل من يعبر عن هذا الموقف كلمات الإمام الغزالى فى النصح بعدم مصاحبة الملوك بقوله: «لا تصحب السلطان وإياك خدمته لأنك إن كنت له مطيعاً أتعبك، وإن خالفته قتلك وأعطبك»( )، وهذا يختزل قدرة النظام السياسى الذى نستطيع أخذه عن هذا التراث السياسى الإسلامى يندرج تحت باب الوعظ والإرشاد وللحكام أن يأخذوا بالنصيحة أو لا يأخذوا فالأمر خيارٌ لهم والعمل بالنصيحة وبالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر يندرج تحت باب مكارم الأخلاق والمثاليات .
وبذلك يكون التراث السياسى الإسلامى الموروث عن الأجداد خالياً من القدرة على بعث نمط الخلافة الراشدة فى الحكم والإدارة إلا على أساس استجداء حقوق المحكومين الشرعية فى الشورى وحرية إبداء الرأى جهراً أمام الحكام ومطالبتهم بالإفصاح عما فى أيديهم من المال العام والسلطة ، إن شاء الحكام أن يهبوها وهبوا وإن شاءوا منعوا .
تلك هى الحدود السياسية القصوى لإمكان بعث الخلافة الراشدة من جديد كما وصلت إليها الأفكار والرؤى فى التراث السياسى الإسلامى ، وهذا ليس عيباً فيه ، فقد كان آخر الكتاب ذوى الأصالة ممن كتبوا فى الموضوع السياسى الإسلامى هو ابن خلدون الذى توفى عام 808 هجرية/1406 ميلادية( )، ومن بعد ذلك اندثرت الحضارة فى الدول الإسلامية وسقطت أغلب هذه الدول فى براثن الاحتلال من قِبل الدول الأوروبية، أى أن آخر من كتب فكراً أصيلاً قد كتبه فى القرن الخامس عشر الميلادى قبل أن تدخل الدول الإسلامية فى غيبوبة التخلف ، وحتى ذلك القرن لم تعرف البشرية بما فى ذلك الدول الأوروبية إلا النظم الاستبدادية ولم تعرف أوروبا ولا البشرية عامةً فكراً نظرياً أكثر تحضراً مما قدمه هؤلاء المفكرون المسلمون حتى وإن كانوا قد طلبوا الحرية والعدل بالنصيحة والوعظ والإرشاد ولم يكتشفوا بعد الآلية السياسية التى تفرض على الملوك الالتزام برد الحقوق للمحكومين ، ويستطيع القارئ أن يرجع إلى الفكر السياسى الكنسى ليتبين أقصى ما وصلت إليه البشرية من فكرٍ سياسي فى ذلك الوقت»( ).
ولا يسعنا فى ختام استعراضنا للتراث السياسى الإسلامى إلا أن نختم بالإشارة إلى تحليل ابن خلدون فى طبيعة تحول الخلافة إلى المُلك الأمر الذى يتضح من التغير فى الوازع: حيث الملك تقتضى طبيعته الانفراد و استئثار الواحد به ، وغلبة الوازع الدنيوى على الوازع الدينى الذى يميز الخلافة( )، ثم ذكره كيف «ذهبت معانى الخلافة ولم يبق إلا إسمها وصار الأمر ملكاً بحتاً، وجرت طبيعة التغلب إلى غايتها واستعملت فى أغراضها من القهر والتقلب فى الشهوات والملذات»( )، وهذا بيانٌ للفرق بين الخلافة والملك وكيف يتم التحول إلى الأخير، واليوم ونحن فى القرن الواحد والعشرين مطالبون بأن نبين كيف نرد الملك إلى الخلافة الراشدة .
5 – دولة الخلافة الراشدة الحديثة
الفكر السياسى الإسلامى مبنى على الفقه الإسلامى وأحكامه فى الموضوع السياسى (موضوع السلطة وما يتصل بها) ومبنى أيضاً على العلوم المتصلة بالظاهرة السياسية، ولذلك يتخلله الاستشهاد بآيات القرآن الكريم والقياس على السنة النبوية الشريفة والأحاديث المنقولة عن الرسول الكريم ، هذا بينما الفكر السياسى الغربى مبنى على التفلسف والمشاهدة الواقعية للتاريخ والواقع و لكل ما يتصل بالظاهرة السياسية ، ولذلك من المطلوب أن نبين أن الفكر السياسى الإسلامى يتواصل مع الواقع ويتواصل أيضاً مع الفكر السياسى لدى غير المسلمين طالما كان نقيا ويختص بالظاهرة السياسية من حيث أنها علاقات السلطة والظواهر المتصلة بها، فالبشر جميعاً متشابهون فى الدوافع ويمارسون واقعاً متشابها فيما يخص بحثهم عن إشباع حاجاتهم الأمنية والمعيشية وهذه الأمور كلها هى البنية الأساسية للظاهرة السياسية ، مما يجعل الظاهرة السياسية ظاهرة فيزيقية تتعدد الرؤى البشرية فى التعامل معها بحثاً عن الأمن والرفاهية ، حيث تنقسم هذه الرؤى إلى رؤى مثالية تتحدث عما يجب أن يكون ، و رؤى واقعية تتحدث عما هو قائمٌ بالفعل وأفضل ما يمكن للتعامل معه ، أما أن الشريعة الإسلامية مرتبطة بالواقع فما ذلك إلا لأن الخالق سبحانه وتعالى واحد ، هو الذى خلق الدنيا بمافيها من ماديات وكذلك أرسل هديه بما يؤكد أن هناك آساساً فيزيقية للعقيدة والشريعة الإسلامية( )، وهذا يفتح الباب للتبادل مع الفكر السياسى النقى الذى يتعامل مع الظاهرة السياسية ، و مع كل التطبيقات السياسية التى حولت الأحلام البشرية فى الحرية والمساوات والعدل الاجتماعى من رؤى مثالية إلى واقع ، وأفضل ما يُمكن أن نتواصل معه هو سيادة الدولة داخل حدودها (بودان) والفصل بين السلطات بحيث لا تنبع جميعها من رئيس الدولة ( مونتسكيو) والعقد الاجتماعى ( جان جاك روسو ) ونظرية المنفعة (بنتام)( ).
الخلاصة ؛ هى أنه لا يوجد فى التراث السياسى الإسلامى الموروث عن الفقهاء والمفكرين الإسلاميين ما يؤازر قيام دولة الخلافة الراشدة الإسلامية الشرعية على آساس توازنات القوى فى الدولة وبناءً على أطرٍ قانونية ومؤسسية وآليات تحفظ حقوق المحكومين الشرعية الإسلامية قِبَلَ الحكام المسلمين ، وليس على آساس مكارم الأخلاق والمثل العليا غير الملزمة ، وما ذلك إلا لأن العلوم الإنسانية الخاصة بالظاهرة السياسية كانت فى مرحلة الطفولة ولم يكن فيها ما يُؤازر بالحل لهذا اللغز السياسى، حيث لم تعرف الإنسانية كيفية إقامة توازنات القوى داخل الدولة إلا فى القرن الثامن عشر الميلادى مع مونتسكيو والفصل بين السلطات ، ثم الرقابة الدستورية على التشريعات وظهور أول دستور مكتوب فى تاريخ البشرية وهو الدستور الأمريكى عام 1778 ميلادية( ) ليضع إطاراً عاماً لا يُسمح لأحدٍ من الحكام أو المحكومين بأن يتجاوزه بما يعنى إقامة دولة القانون ، مصاحباً لكل ذلك تنظيم الدولة على أساس المراجعات والتوازنات المتبادلة بين سلطات الدولة التى جرى التأسيس لفصلها من الأساس ، بهذه الأساس وعليها يُمكن للمسلمين أن يأملوا فى أخذ حقوقهم التى شرعها الله لهم واحترمها الخلفاء الراشدون اختياراً وزكاةً لأنفسهم ولم يحترمها أحدٌ من الحكام من بعد أحداث الفتنة الكبرى إلا عمر بن عبد العزيز رضى الله عنه ليكون حجةً على الأقدمين والآخرين ، ولم يجد علماء الدين الإسلامى وكتاب التراث السياسى الإسلامى إلا اللجوء للنصيحة والتذكرة بفضل مكارم الأخلاق ليحثوا الحكام على الشورى والكف عن المظالم حيث تحولت مبادئ الخلافة الراشدة التى لم ينكر صحتها أحدٌ نوعاً من المثالية ومكارم الأخلاق وليست حقوقاً وتشريعاً.
الظاهرة السياسية واحدة لدى البشر جميعا والخبرة مشتركة وإن اختلفت الرؤى بحثاً عن الحل الأمثل وكل أبناء آدم شركاء فى حضور خلقة فى الجنة والخروج منها بحثاً عن التزكية فى الأرض وهدى السماء، وبالتالى فإن التجربة السياسية لدى كل أبناء آدم تتكامل فى اتجاهٍ واحد والبشر جميعاً شركاء فى حلها والاستفادة من تبادل خبراتها ، أما وأن هناك تجربة ناجحة لدى مجتمعاتٍ غير مسلمة فى ضع حكامهم فى حجمهم الصحيح بما يلزمهم بحقوق المحكومين ويلزمهم بالقبول بالمحاسبة على السلطة المفوضة إليهم فى الإدارة والمال العام ويجبرهم على مغادرة السلطة سلمياً بناء على قواعد محددة وإلا تعرض الحكام إلى المساءلة والعقاب القانونى ، أما وأن هناك مثل هذه التجربة الناجحة فلم لا نأخذ بقواعدها وآلياها لنملأ الفجوة القائمة فى الفكر السياسى الإسلامى لدى المسلمين لإجبار الحكام على قبول مبادئ الحكم المبينة فى سنة الرسول الكريم وخلفائه الراشدين فى الحكم والإدارة بدلاً من استجدائها منهم ، تارةً يقبلون النصح والإرشاد وعلى الأغلب يرفضوه .
الأساس التى قامت عليها الدول التى بُنى نظامها على أساس توازنات القوى فى الدولة وبناءً على أطرٍ قانونية ومؤسسية وآليات تحفظ حقوق المحكومين الشرعية، بحيث لا يستطيع الحاكم هو وأعوانه إلا أن يسلم بما هو مكتوب فى الأطر القانونية طوعاً أو كرهاً وإلا تعرض للمساءلة القانونية التى لا تفرق بين عظيمٍ وغفير، هذه الأساس تتلخص فى مبادئ ثلاثة رئيسه، هى كلآتى :
1ـ إقامة توازنات القوى داخل الدولة، وذلك بالفصل بين السلطات الداخلية الرئيسة فى الدولة عن بعضها البعض وعن ولاية رئيس الدولة باستقلالها إدارياً ومالياً؛ السلطات الأساس الرئيسة هى السلطة التنفيذية والسلطة القضائية والسلطة التشريعية ، ونضيف فى الدول الإسلامية المؤسسة الدينية الإسلامية واستقلالها ماليا وإداريا عن ولاية رئيس الدولة وغيره حتى تقوم بدور الولاية الأدبية وبيان الصواب من الخطأ شرعاً دون شبهة تعيين كبرائها عن طريق رئيس الدولة أو التربح من فتاواهم ، ونؤكد أيضاً على ألا تكون لها أى سلطة إدارية أو مالية أو قضائية أو تشريعية فى الدولة حتى تبقى كياناً أدبياً مبجلاً “يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر”.
2ـ تنظيم الدولة على أساس المراجعات والتوازنات المتبادلة بين سلطات الدولة التى جرى التأسيس لفصلها من الأساس .
3ـ كتابة نص دستورى يبين الإطار التنظيمى للدولة ومكونات كل منها واختصاصاته بحيث تمارس السلطات الداخلية فى الدولة أعمالها داخل أطر وعلاقاتٍ قانونية واضحة ، وبحيث يبين هذا الدستور وبوضوح مبادئ وأطر الفصل بين السلطات وما بينها من مراجعاتٍ وتوازنات ، وذلك للرجوع إلى هذا النص لفض المنازعات، مع وضع نظامٍ محكم للرقابة الدستورية على التشريعات .
هذه هى المبادئ السياسية التى يُمكن أن تملأ الفجوة السياسية فى التراث السياسى الإسلامى ، تلك الفجوة التى تجعل المسلمين يستجدون حقوقهم المشروعة والمبينة فى الخلافة الراشدة من الحكام إن شاءوا منحوا وإن شاءوا منعوا كما يحدث فى غالب الأحيان .
التراث السياسى الإسلامى الموروث عن المفكرين والفقهاء المسلمين يحتوى على بذورٍ مفيدة يُمكن أن تخدم هذه المبادئ السياسية ، وما ذلك إلا لأن العقد الاجتماعى لدولة الخلافة الراشدة لم يكن إلا “السمع والطاعة من قِبل المحكومين مقابل المحاسبة على السلطة المفوضة إلى الحكام” ، وهذا ما بيناه فى “بند 2 ” بعاليه عندما حاسب رجلٌ من العامة سيدنا عمر بن الخطاب على طول ثوبه وهذا واضح فى كثيرٍ مما كتبه المفكرون السياسيون المسلمون وقد كتب كثيرٌ من المفكرين السياسيين الإسلاميين بعضاً من ذلك فى واجبات الحكام وواجبات المحكومين ، وأما البيعة التى انتهجها الخلفاء الراشدون لاختيار من يتولى رئاسة الدولة هى الانتخاب فى السياسة الحديثة ، وأما أهل الحل والعقد فهم الهيئة الناخبة ، وأما الشورى فهى الحقوق المدنية السياسية حيث يحق للمواطن فى الدولة الحديثة أن يمارس حرية إعلان رأيه والحهر بمساءلة رئيس دولته دون حرجٍ ولاخوف تماماً كما فى دولة الخلافة الراشدة وكما فعل الرجل من العامة مع سيدنا عمر بن الخطاب ، وأما القضاء فأساسه العدل والمساواة بين العظيم والغفير والغنى والفقير وليس هناك أعظم من عمر بن الخطاب فى عدله يوم اقتص للمصرى من ابن عمرو بن العاص لأنه سبق أن ضربه ويرد عليه نفس كلماته قائلاً “اضرب بن الأكرمين” ، وأما الحسبة فهى الجمعيات الأهلية ومجالس الشيوخ واللوردات.
هذا التطابق بين الشريعة الإسلامية كما بينها الرسول الكريم فى سنته فى الحكم والإدارة وكما اتبع خلفاؤه الراشدون ، ليس مصادفةً أن تتوافق مع أحدث ما لدى البشرية من مبادئ فى الحكم والإدارة ، وما ذلك إلا لأن الخالق سبحانه وتعالى واحد، هو الذى أرسل البشر إلى الأرض ليتزكوا بالكشف عن صحيح شريعته الكونية من خلال تجربتهم على الأرض وهو نفسه الذى أرسل لهم الهدى ليقرِّب لهم التزكى كما وعد بذلك يوم أُخرج آدم عليه السلام من الجنة( )، وإنها ليست مصادفةً أيضاً أن تكون الاستعانة الصحيحة بنصوص القرآن والسنة النبوية المشرفة فى بناء الفكر السياسى الإسلامى لا تفصله عن الواقع ، بل تؤدى إلى نتائج متفقة معه لأن الخالق واحد والتزكية واحدة( )، وكانت هناك فجوة سياسية أدت إلى عدم القدرة على إجبار الحكام على الالتزام بحقوق المحكومين الشرعية فلم يجد الفقهاء والعلماء سبيلاً إلا أن يقولوا الحق للحكام باعتباره مواعظ وإرشادات ونصائح وفضائل ومحاسن أخلاق ، ليس لأنه كذلك فى الشريعة الإسلامية ولكن لأنه لا سبيل لإلقائه على الحكام إلا كذلك فإذا أمدَّنا العصر الحديث بأدواتٍ سياسية لفرض مبادئ الخلافة الراشدة على الحكام، إذن لوجب التمسك بفرضها وتعويض ما فات من بعد الفتنة الكبرى .
6– فقه القانون الدستورى الحديث والقرآن الكريم
فى القرن الثامن عشر الميلادى ، وعندما أُعلن قيام دولة الولايات المتحدة الأمريكية ، دولةً مترامية الأطراف مواطنوها من المهاجرين من كل أرجاء المعمورة من أعراقٍ وثقافاتٍ متعددة ، ظهرت الحاجة إلى وضع إطارٍ مُحكم للتشريعات فى الدولة الناشئة بحيث تتسق كلها على فكرٍ واحدٍ ومقاصد واحدة ، وإلا تشتت التشريعات والقوانين وتفككت أوصال الدولة ، وكان الحل فى ظهور أول دستور مكتوب فى تاريخ البشرية وهو الدستور الأمريكى عام 1776 ميلادية ليضع إطاراً عاماً لا يُسمح لأحدٍ أيّاً كان موقعه بأن يتجاوزه بما يعنى إقامة دولة القانون ، ومكملاً لهذا الدستور المكتوب ظهر فقه الرقابة الدستورية على التشريعات والآليات المصاحبة له ، واليوم فى القرن فى القرن الواحد والعشرين استقر بناء النظرية العامة للقانون الدستورى على القواعد الآتية( ):
1ـ مبدأ تدرج التشريعات وسمو الدساتير
2ـ ينبع من مبدأ سمو الدساتير “أن يكون للدستور السمو على ما عداه من تشريعات وأن تكون له مكانة الصدارة عليها ، ومن ثم تلتزم جميع السلطات فى النظام السياسى فى الدولة بوجوب التقيد بنصوصه واحترامه وعدم الخروج على حدوده والالتزام به”( ).
و هذا يعنى أن يكون الدستور مهيمناً على كل التشريعات التى يجب ألا تصدر إلا “فى إطاره وطبقاً لنصوصه وروحه ، أياًّ كان مضمونها أو نصوصها أو طبيعتها فهى كلها يجب وبالتعريف وبالتحديد الدقيق أن تصدر وتدور فى فلك الدستور”( ).
3ـ منذ بداية القرن التاسع عشر مارست البشرية مشكلة الرقابة الدستورية على التشريعات( ) وكيفية تنفيذها ووضع فقه الرقابة وآليات تنفيذها ومن داخل ذلك تفسير النصوص الدستورية نفسها عند التنازع على مفهومها ، ونستطيع اليوم فى القرن الواحد والعشرين بعد أن استقرت السوابق القضائية فى هذا الموضوع أن نبين أن الرقابة على دستورية القوانين تأخذ أحد قرارين بخصوص القانون المطعون فيه بعدم الدستورية وذلك عند معارضته لنص من نصوص الدستور أو مبادئه المستقرة ؛ الأول رقابة الامتناع بمعنى امتناع القاضى عن تطبيقه وتعطيل الاعتبار به فى القضية المطروحة أمامه ، وهذا القضاء لا يُنهى حياة القانون الدستورى فى غير حالة هذا القاضى وهذه القضية ، وإنما يستمر هذا القانون المعيب دستوريا ، والثانى رقابة الإلغاء وهذا معناه إنهاء وجود هذا القانون المطعون عليه بعدم الدستورية ومن ثم اعتباره كأن لم يكن( ).
إذن هناك مبادئ ثلاثة لوضع إطار تشريعى فى الدولة بهدف خلق الاتساق فى التشريعات وعدم خروج الأحكام لما هو مُنكر شرعاً ، تلك المبادئ هى: تدرج القوانين وسمو الدساتير، هيمنة الدستور على كل التشريعات (والقرارات القانونية فى الدولة) ، وإلغاء أى قانون أو قرار يتعارض مع الدستور ومبادئه .
هذه المبادئ الثلاثة، المسلمون أولى بتطبيقها احتراماً للقرآن الكريم خاصةً أن لدى المسلمين من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة نصوصاً محكماتٍ عن تدرج التشريعات وسمو القرآن الكريم عليها جميعاً ، وهيمنته على التشريعات السماوية جميعاً، والتشريعات الإسلامية أولى، ولم يبق إلا أن يتطور المسلمون فى تمكين القرآن الكريم من تشريعاتهم وأحكامهم مستفيدين من فقه القانون الدستورى الحديث فى موضوع الرقابة الدستورية على القوانين والتشريعات.
مبدأ سمو الدساتير وتدرج القوانين يقابلها هنا مبدأ سمو وهيمنة القرآن الكريم وتدرج مصادر التشريع الإسلامى .
دستور التشريع الإسلامى أساسه الآيات المحكمات والثابت من السنة النبوية الشريفة :
(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ) (سورة آل عمران – 7)،
ومعنى أن تكون الآيات المحكمات هن أم الكتاب ، أن يُرد تأويل الآيات المتشابهات إليها ولا يتعداها .
هيمنة القرآن الكريم وشموليته على غيره من الكتب السماوية ، وهيمنته على الأحكام الإسلامية وكل ما يصدر عن الفقهاء أولى، وصدق الله العظيم إذ يقول:
(وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنْ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (سورة المائدة – آية 48)، ويؤكد الله سبحانه وتعالى على عدم قيام الأحكام والفقه على جُزئياتٍ من الكتب ، بل لابد من صدور الأحكام متوافقةً مع كل الآيات المحكمات ، ومُحرمٌ على المؤمن أن يفعل غير ذلك:
(ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَتَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (سورة البقرة – 85)
و هذا أساس رقابة الامتناع ورقابة الإلغاء فى فقه القانون الدستورى الحديث.
والسنة النبوية الشريفة مكملةٌ ومفصِّلةٌ لما جاء فى القرآن الكريم، وذلك بنص القرآن الكريم نفسه (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً )(النساء – 59) و(مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً )(النساء – 80) ، و(وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ) ( سورة النجم 1-5) مع ملاحظة أن الوحى الذى يوحى به الله إلى رسوله المقصود به هو أقوال الرسول الكريم وأفعاله فيما يخص العقيدة والشريعة الإسلامية وفى بيان وتفصيل الحقوق والواحبات فى المعاملات وليس فى غير ذلك من أمور الحياة البشرية وآلياتها التى تتطور وتتغير بتطور البيئة ، أما العقيدة والشريعة التى أوحى الله بها فلا تتغير لأنها صالحةٌ لكل زمان ومكان .
فى حديث رسول الله ﷺ مع معاذ بن جبل عندما أرسله عاملاً على اليمن ، أوضح أسس التشريع الإسلامى وتسلسلها وكيفية القضاء بما ليس فى القرآن الكريم ولا السنة النبوية المشرفة ، حيث سأله الرسول قائلاً : كيف تقضى إذا عرض عليك قضاء؟، قال أقض بكتاب الله ، قال: فإن لم تجد فى كتاب الله ؟ ، قال: فبسنة رسول الله ، قال: فإن لم تجد فى سنة رسول الله ؟ قال: أجتهد برأى ولا آلو، قال : فضرب رسول الله ﷺ على صدره وقال : الحمد لله الذى وفق رسول رسول الله لما يرضى به رسول الله( ).
وبذلك أرسى رسول الله بحديثه هذا مبادئ تدرج مصادر الشريع الإسلامى ، الأمر الذى تطور إلى ظهور علم أصول التشريع الإسلامى التقليدية وفيها تفصيل لكيفية الاجتهاد وأشكاله وضوابطه»( )، «وكان الإمام الشافعى (150 – 204 هجرية) هو أول من قدَّم من بحوثٍ فى هذا العلم وقواعده، وذلك فى صورة مجموعةٍ مستقلة قيمة تُعد نواةٍ لما جاء بعدها ، فقد وضع كتابه الموسوم باسم (الرسالة) وتكلم فيه عن بيان القرآن، وبيان السنة للقرآن، والبيان بالإحتهاد، أى القياس وغير ذلك من أصول الاستنباط، ثم تتابع العلماء من بعده فى التأليف والتكميل والتنسيق ، فكان لهم فى ذلك طريقتان:
1ـ طريقة المتكلمين أو الشافعية، وهى تحقيق القواعد تحقيقاً منطقياً، وإقرار ما يؤيده البرهان العقلى والنقلى منها، لا يتقيدون فى ذلك بمذهب إمام، ولا بحكمٍ مأثورٍ عنه فى فرعٍ من الفروع.
وعلى هذا النحو جرى أكثر الأصوليين من الشافعية: كأبى حامد الغزالى (المتوفى 505 هجرية) فى كتابه ( المستصفى) ، وفخر الدين الرازى ( المتوفى 606 هجرية) فى كتابه ( المحصول) ، وأبى الحسن الآمدى ( المتوفى 631 هجرية) فى كتابه ( الإحكام).
2ـ طريقة الحنفية، وهى تحقيق القواعد على ضوء ما نُقل عن الأئمة من الفروع، فإذا وجدوا من القواعد ما لا يتسع لبعض الفروع تصرفوا فيه ، وقرروه على نحوٍ يتسع لها ولا يضيق عنها، فكأنهم إنما كانوا يقررون الأصول التى بنى عليها أئمتهم ما نُقل عنهم من فروع، ولهذا كثُرت الفروع فى كتبهم( ).
وننوه هنا إلى أن وسائل الاجتهاد العقلية التقليدية أساسها القياس وغير ذلك من أصول الاستنباط التى كانت احدث ما فى عصور هؤلاء الفقهاء العظام ، ومصدر حجيته فى التشريع الإسلامى «قول عمر بن الخطاب رضى الله عنه لأبى موسى الأشعرى: اعرف الأشباه والأمثال، وقس الأمور عند ذلك » ( )، وننوه أيضاً إلى أن الإمام الغزالى وهو من أساطين الفكر الإسلامى ومن أكثرهم استنارة بالمناهج العقلية، قد تأثر بفكر الأشاعرة ، وقد اتخذوا من المنطق الأرسطى وسيلةً للوصول إلى هدفهم( ).
من هذه المقدمة عن علم أصول التشريع الإسلامى التقليدية وطريقة تناول الفقهاء المسلمين لموضوع الاجتهاد ، نجد بذور الاعتماد المتزايد من الخلَف على مذاهب السلَف، وهو الاتجاه الذى بدأ مع طريقة الحنفية وتبلور بعد ذلك مع تعاظم تجربة الاجتهاد وخبرات التطبيق على مدى أربعة عشر قرناً هجرياًّ، وأساسها المنهج الذى أرساه عمر بن الخطاب رضى الله عنه لأبى موسى الأشعرى بمعرفة الأشباه والأمثال للقضايا التى سبق الحكم فيها فى صحيح القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة ، والقياس عليها ، أى بالأخذ بالحكم الشرعى مماثلاً لما جاء فى الكتاب والسنة ، وكذلك يتم الأخذ بالأحكام الفقهية التطبيقية التى استنبطها الفقهاء أصحاب المذاهب باعتبار صحتها.
واليوم، فى القرن الواحد والعشرين يرث المسلمون المذاهب الرئيسة التالية( ):
1 – مذاهب سياسية مثل السنة والشيعة والخوارج
2 – مذاهب اعتقادية مثل الأشاعرة والماتريدية والمعتزلة والوهابية
3 – مذاهب فقهية مثل الفقه السنى والشيعى والإباضى
وعلى هذا المنوال أعلن الشيخ على جمعة فى جريدة الأهرام المصرية( )، «إن الأزهر الشريف قد اعترف بالمذاهب الفقهية الثمانية التى يقلدها المسلمون فى العالم فى عصرنا الحاضر وهى الأربعة السنية (الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة ) وإثنان من الشيعة (وهما الجعفرية والزيدية) وإثنان من خارج ذلك (وهما الإباضية والظاهرية) وهذه المذاهب الثمانية هى التى تكون الموسوعة الفقهية التى بدأت فى سنة 1960م بالمجلس الأعلى للشئون الإسلامية والتى وضع برنامجها العلامة المرحوم محمد فرج السنهورى ومعه آخرون من كبار رجال الفقه فى مصر وكان قبل ذلك قد أصدر الإمام الأكبر الشيخ محمود شلتوت قراراً باعتماد المذهب الجعفري واعتماد الأخذ منه عند أهل السنة».
وعلى الجانب الآخر يجب التأكد بما لا يدع مجالاً للشك من أن النقل عن أى فتوى سابقة يجب أن يأتى فى إطارٍ محكمٍ من تطابق الوقائع وتطابق البيئة لأن اختلاف أيهما يعنى اختلاف المقدمات بما يستوجب اختلاف النتائج ، خاصةً وأن الكثير من المعاملات ومنها المعاملات السياسية والتى تتناول علاقات السلطة لها شقين الأول فقهى إسلامى يتناول الحقوق والواجبات بين أطراف العلاقة والآخر من الظاهرة السياسية نفسها باعتبارها ظاهرةً محسوسة تتناولها العلوم الإنسانية بالرصد والتحليل بما يأتى بمدخلاتٍ جديدة حيث يتطور إدراك الإنسان وعلمه عنها كل يوم ، وفى هذا الشأن يتبيَّن أن النقل عن السلف فى أحكام العبادات لن يتأثر كثيراً باختلاف الزمان باعتبار أن العبادات من شئون الغيب المأخوذة مباشرةً عن الكتاب والسنة ولا تتأثر بالبيئة، وبالتالى هى من أنجح ما يُؤخذ عن السلف الصالح ومذاهبهم، أما الفكر السياسى فإن الفهم البشرى للظاهرة السياسية المعقدة بطبيعتها يتعاظم مع الوقت مما يجعل النقل عن السلف محفوفا بالمخاطر والشبهات لاختلاف البيئة فما كان يُمكن القبول به سابقاً لم يعد جائزاً فى الحاضر ، ويرث المسلمون اليوم، عن السلف الصالح تراثاً كبيراً ومتنوعاً إلى درجة قد تُفقده طابع الاتساق والتماسك، وقد رصد د / محمد عمارة ذلك فى مقدمة مؤلفه «رسائل العدل والتوحيد» تحت عنوان تراث متنوع أن: «القضية الأولى التى يجب أن نشير إليها ، وأن ندلى فيها برأى نعتقده صواباً ، بل نعده من البدهيات ، على الرغم مما نقرأ حوله، أحياناً، من وجهات نظر متعارضة ، وغير واعية ولا صائبة ، هى أن فى تراثنا العربى الإسلامى تيارات فكرية متعارضة ومتناقضة»( ).
وهذا قد أدى إلى الظن لدى بعض الناس بأن كل هذا التشتت مصدره القرآن الكريم نفسه وليس فكر المسلمين نتيجةً لنقصٍ فى قدرتهم على التعامل مع القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة ، مثالٌ لذلك ما قاله الدكتور حسن حنفي أستاذ الفلسفة الإسلامية بجامعة القاهرة في «ورشة عمل الحريات الفكرية في مصر» التي نظمتها مكتبة الإسكندرية، حيث قال: إن بعض الآيات القرآنية تتناقض مع بعضها البعض، خصوصا فيما يتعلق بآيات التسامح والأخرى التي تحض علي القتال ، مما أثار جدلا بين المشاركين في الورشة ، ونُشر فى جريدة المصرى اليوم القاهرية تحت عنوان «د. حسن حنفي: «النص القرآني» يشبه السوبر ماركت يمكن للمجتهد أن يختار منه ما يشاء»( ).
وهذا الظن بوجود التشتت غير صحيح ، حيث العيب والقصور فى مناهج أصول التشريع الإسلامى التقليدية ، لقد أرسى القرآن الكريم فى محكم آياته أوامر التعامل مع الآيات المحكمات وموقع الثابت من السنة النبوية الشريفة من الوحى حيث بين لهما صفتى السمو والهيمنة على غيرهما من النصوص بما فى ذلك الآيات المتشابهات وهذا هو التعريف الحديث الدقيق للنصوص الدستورية ، وأرسى الرسول الكريم بحديثه إلى معاذ بن جبل مبدأ التشريعات والقوانين الإسلامية ، إذن نحن أمام دستورٍ مُحكم النصوص ، لم يعرف المسلمون من قبل كيفية التعامل معه بصفته الدستورية هذه ، مما تسبب فى هذا التشتت فى المذاهب والأحكام ، بل وقيام البعض بإنشاء نسقٍ كاملٍ من الفكر والأحكام على آيةٍ واحدة أو نصف آية ، وعلينا اليوم أن نتخذ منهج الرقابة الدستورية (رقابة الامتناع ورقابة الإلغاء) كما عرفته البشرية حديثاً وطبقته فى القرن العشرين ونضيفه إلى مناهج أصول التشريع الإسلامى التقليدية لملئ الفجوة التى ينفذ منها الفكر المبنى على الجزئيات متجاهلاً الكليات وتهذيب المذاهب الموروثة وتطبيقاتها من كل ما يأت بالمنكر من الفكر أو العمل .
تداعيات تطبيق مبدأ الرقابة الدستورية للقرآن الكريم على الفكر والفتاوى الإسلامية
تطبيق مبدأ الرقابة الدستورية للقرآن الكريم وتضمينه فى أصول التشريع الإسلامى سوف يؤدى إلى النتائج الآتية :
• الفصل من البداية والمبدأ بين ما هو وارد عن الوحى الإلهى متمثلاً فى القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة وما هو من أعمال البشر فى الفكر والمذاهب الإسلامية ( تغطية ملاحظة دكتور / نصر عارف السابق ذكرها فى هذه المقالة ) .
• الفصل بين ما هو معنىٌّ من السنة النبوية المشرفة باعتباره تشريعٌ وعقيدةٌ ، وما هو منتمىٌ لشخص رسول الله ﷺ ، فما كان يفعله الرسول ﷺ ويقول وله أصلٌ فى الآيات المحكمات فهو المعنى فى الأساس وهو الوجوبىُّ حقاً فيما يُؤخذ عن الرسول الكريم باعتباره شرحٌ وتفصيلاٌ لما أجمله الله سبحانه وتعالى فى قرآنه الكريم ، وغير ذلك يعتبر من الأمور الكمالية ويحتاج إلى إثبات وجوبية اتباعه .
• سوف يتم وبتداعيات الأمر تطهير الفكر السياسى والفتاوى الإسلامية من كل ما يخالف سنة الرسول الكريم فى الحكم والإدارة ، بما يعنى إحياء الخلافة الراشدة فى العصر الحديث بطريقةٍ طبعيةٍ تماماً مع اختفاء وذوبان الفتاوى الشاذة التى تسمح للحكام وأعوانهم بارتكاب الكبائر والمنكرات والاعتداء على المال العام والاعتقال للمعارضين .
• انتهاء التحزب إلى ما يُسمى بالسنة والشيعة بتطهير كل منهما مما يخالف سنة الرسول الكريم فى الحكم والإدارة وإضافة ما هو وجوبى فى شأن العقيدة والشريعة مما يؤدى إلى تقارب المذهبين إلى أبعد الحدود ، ولو تم ذلك لتبين الفرق الواضح بين سنة الرسول الكريم وخلفائه الراشدين فى الحكم والإدارة وما يتبعه شيعة معاوية بن أبى سفيان بن حرب فى مناهج الحكم الأموية التى تتجاوز الإطار العام للمعاملات الإسلامية ، ذلك الإطار الذى حصنه الله سبحانه وتعالى بالحدود الإسلامية فى آياتٍ محكمات ، ولتم أيضاً تهذيب كل البدع التى تطرف إليها بعض من تشيعوا لسيدنا على بن أبى طالب متجاوزين ما بينه الله سبحانه وتعالى فى آياتٍه المحكمات.
• إنهاء التشتت فى الفكر (ملاحظات د/ عمارة الملطَّفة وملاحظات د/حسن حنفى العنيفة) .
• القضاء على الرؤى والفتاوى والمذاهب التى تبنى على آيةٍ واحدة أو عددٍ من الآيات ، وأحياناً نصف آية دون اعتبارٍ لباقى الآيات المحكمات
• إيجاد حلٍّ للمعضلة القديمة الحديثة ، وهى معضلة الاحتكام إلى القرآن والسنة؛ تلك التى بدأت برفع أتباع معاوية للمصاحف فى واقعة صفين وطلب الاحتكام إلى القرآن من فاتحته إلى خاتمته( ) والتى لم تُؤد إلا إلى واقعة التحكيم المفجعة بتداعياتها( )، وتثار حالياً فى القرن الواحد والعشرين فى الحديث السياسى الإسلامى عن مبدأ الحاكمية بمعنى أن تكون المرجعية النهائية فى الدولة لله سبحانه وتعالى وليست للشعب ، ثم معضلة الحلال والحرام فى مناصرة الحاكم الظالم ونظامه المستبد على خصومه من المعارضين السياسيين.
الاحتكام إلى القرآن من فاتحته إلى خاتمته حق ولكن تنفيذ ذلك يحتاج إلى مناقشات دقيقة لا يحسمها إلا العمل بمبدأ الرقابة الدستورية للقرآن الكريم، تلك الرقابة التى تبدأ ببيان الدستور الإسلامى المكون من الآيات المحكمات فقط دون توسع والثابت فقط من السنة النبوية الشريفة دون توسع بحيث نضع الإطار العام للمعاملات الشرعية فقط بحيث يتبين أن من يخرج عنها يكون قد خرج عن الشرعية الإسلامية العامة ، والتضييق عن هذا الإطار معناه التعامل من داخل ضوابط داخلية تعطى الشرعية لفئةٍ من الأعمال داخل الإطار العام بما يعنى أننا داخل فئةٍ خاصة من فئات المسلمين وهذا يُدخلنا فى جدلٍ مذهبىٍّ لا نريده ، ثم تطبيق رقابة الامتناع ورقابة الإلغاء على ما يُذكر من تأويلات للآيات المتشابهات وما تشابه مما نُقل عن الرسول الكريم من السنة ومن أحكام الفقهاء والمذاهب ، عندئذٍ سوف يُرد النظام السياسى الإسلامى إلى الخلافة الراشدة بما فيها من حقوقٍ وواجبات وحلالٍ وحرام وقيودٍ على الحكام وأعوانهم ترفع من حقوق المواطنين إلى ما لا يحصل عليه أحدٌ من العدل والحرية والكرامة البشرية واقتسام السلطة والثروة ، وأيضاً تضع قيوداً على الإرادة العامة للشعب بما يجعل التشريعات لا تتجاوز حقوق الإنسان الطبيعية إلى الغلو بإباحة ما حرَّم الله مثل تشريعات إباحة الشذوذ الجنسى والزواج المثلى ، إلى آخره ، ودون تضييقٍ على الحريات الشخصية أو الحريات العامة غير مبررٍ مما هو بالضرورة من الشريعة الإسلامية .
7ـ الخلاصة
قد وضع الله سبحانه وتعالى فى الإسلام مبادئ عامةً للمعاملات الشرعية ووضع لها إطاراً عاماً حماه بالحدود (العقوبات الشرعية) حتى لا يتعدى هذا الإطار أحدٌ أياًّ كان موقعه ، ولم يستثن فى ذلك أحداً ، فى موضوع السلطة والثروة ؛ هذه المبادئ للمعاملات الشرعية هى التمسك بالشورى والمساواة بين أصحاب النسب والجاه وغيرهم من خلق الله والتعفف عن المال العام وعدم التربح من السلطة ورد المظالم ، وسنة الرسول الكريم هى نفس ما اتبع الخلفاء الراشدون فى ممارسات الحكم والإدارة ، وهذه السنة هى التطبيق الخاص لمبادئ وإطار المعاملات فى موضوع الحكم والإدارة ومن يخرج عنها ينزلق إلى خرق الإطار العام للمعاملات الإسلامية ، وبالتالى هى نمط الحكم والإدارة الوحيد الذى ينطبق عليه تمام الانطباق كل معايير الشرعية الدينية، بعد اتساع رقعة الدولة الإسلامية وازدياد أعداد المسلمين من غير من تربوا على يد الرسول الكريم وصحبته المباشرة اهتزت الدولة لأنها تشرع للمحكومين حقوقا فى الشورى والعدالة لا يستطيع النظام السياسى بآليات القرون الوسطى وعلومه وثقافاته أن يتجاوب معها أو يفسرها بدقة ويضع الحكام وأعوانهم فى داخل حدودهم الشرعية لا يتعدونها، من أجل ذلك اهتز النظام السياسى لدولة الخلفاء الراشدين على عهد سيدنا عثمان وغرق فى الفتنة الكبرى على عهد سيدنا على بن أبى طالب وانتهى الأمر باستيلاء معاوية بن أبى سفيان بن حرب على الحكم حيث استحدث معاوية نمطاً سياسياً يتمسك بصحيح الإسلام عقيدةً وعبادة ومعاملات فى كل نواحى الحياة، عدا ما يمس الحكم والإدارة ، فقد اقتبس فى هذا الشأن الكثيرٍ من ملامح ذلك النمط الذى حكم به كسرى وقيصر، فتميز نمط حكم معاوية ومن تبع نمطه من الحكام بالاستبداد بالسلطة ومنع الشورى وتوريث الحكم ، فضلاً عن التربح من السلطة واقتناء المال العام حسب ما تطوله أيديهم وحسب ما يريدون، ولا يردون المظالم .
قامت دولة الخلافة الراشدة فى صدر الإسلام على عفة الخلفاء الراشدين وورعهم بصفاتهم الشخصية، ثم سقطت بعد انتهاء وجود مثل ذلك النمط من الرجال ذوى العفة والفضل، ولم يعد هناك أملٌ فى بعث مثل هذا النمط من الحكم فى الدولة الإسلامية بغير أن يضطر الحكام إلى احترام الحقوق الشرعية للمحكومين على آساس من توازنات القوى والأطر القانونية والمؤسسية بالدولة والمجتمع والثقافة السياسية التى تساند وتحرس مثل هذا النمط من الحكم والعلاقات السياسية المرتبطة به.
الفكر السياسى الإسلامى له شقان ؛ الأول فقهى ولا يُمكن أن يكون قائماً إلا على شرعية الخلافة الراشدة وتحريم ما يخرج عن مبادئها وصحيح معاملاتها والآخر يتناول الظاهرة السياسية وهذا لا يتجاوز الزمان والظروف التى ينشأ فيها ، بحثاً عما يساند قيام دولة الخلافة الراشدة بغير تطوعٍ من الحكام ، أى على أسس سياسية.
فى موضوع التراث السياسى الإسلامى، تبدأ كتابات المسلمين فى موضوعات الظاهرة السياسية مع البدايات الأولى للدولة الإسلامية مع «المؤلف عبدالحميد الكاتب» فى القرن الثانى الهجرى / الثامن الميلادى ، واستمرت الكتابة من بعد ذلك وكان آخر الكتاب ذوى الأصالة ممن كتبوا فى الموضوع السياسى الإسلامى هو ابن خلدون الذى (توفى عام 808 هجرية/1406 ميلادية)، ومن بعدها اندثرت الحضارة فى الدول الإسلامية وسقطت أغلب هذه الدول فى براثن الاحتلال من قِبَل الدول الأوروبية، أى أن آخر من كتب فكراً أصيلاً قد كتبه فى القرن الخامس عشر الميلادى قبل أن تدخل الدول الإسلامية فى غيبوبة التخلف ، وحتى ذلك القرن لم تعرف البشرية بما فى ذلك الدول الأوروبية إلا النظم الاستبدادية ولم تعرف أوروبا ولا البشرية عامةً فكراً نظرياً أكثر تحضراً مما قدمه هؤلاء المفكرون المسلمون.
إذا جئنا إلى الجزء الهام من موضوعنا لنرصد ما يخص الجزء الخاص بحقوق المحكومين كما تبينت فى سنة الرسول الكريم وخلفائه الراشدين فى الحكم والإدارة فنرصد فى واجبات الإمام وواجبات الرعية النصح بالشورى حيث يغلب على مؤلفات التراث السياسى الإسلامى أن يُنصح الإمام (و هو رئيس الدولة) بالالتصاق بأهل العلم والأخذ بنصيحتهم، وعلى الأغلب لا يوُجد أحدٌ من المفكرين السياسيين المسلمين إلا وكتب فى نصائح للحكام وتحت عنوانٍ صريحٍ للمؤلف بأنها نصائح وقد فعلوها باعتبار أنهم من أهل الحل والعقد وأهل المشورة والمقربين من الحكام والوزراء، وكتب كثيرٌ من المفكرين الإسلاميين عن القضاء واختصاصاته وكذلك الحسبة، أما القضاء فهو رد المظالم بناءً على طلبٍ من المظلوم، وأما الحسبة فهى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر بمبادرةٍ من المحتسب، وهذا يختزل قدرة النظام السياسى الذى نستطيع أخذه عن هذا التراث السياسى الإسلامى إلى وضع اتباع نمط حكم الخلافة الراشدة يندرج تحت باب الوعظ والإرشاد، وللحكام أن يأخذوا بالنصيحة أو لا يأخذوا فالأمر خيارٌ لهم وخاصةً أن الإمام رئيس الدولة هو الذى يعين القاضى والمحتسب، فكيف يحاسبونه حقًّا، أما العمل بالنصيحة وبالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، إذا قَبِلَ الإمام رئيس الدولة أن يقبله فيندرج تحت باب مكارم الأخلاق والمثاليات .
وبذلك يكون التراث السياسى الإسلامى الموروث عن الأجداد خالياً من القدرة على بعث نمط الخلافة الراشدة فى الحكم والإدارة إلا على أساس استجداء حقوق المحكومين الشرعية فى الشورى وحرية إبداء الرأى جهراً أمام الحكام ومطالبتهم بالإفصاح عما فى أيديهم من المال العام والسلطة، إن شاء الحكام أن يهبوها وهبوا وإن شاءوا منعوا.
إذن هناك فجوة سياسية بين ما يجب أن تكون عليه المعاملات بين الحكام والمحكومين فى الدولة الإسلامية الشرعية (دولة الخلافة الراشدة) ، وما هو كائن بالفعل فيها نتيجةً لعجز الفكر السياسى الإسلامى عن بيان كيفية إقامة توازنات القوى والأطر القانونية والمؤسسية بالدولة والمجتمع والثقافة السياسية بحيث يضطر الحكام إلى احترام الحقوق الشرعية للمحكومين ، هذه الفجوة كانت موجودة فى القرون الوسطى على مستوى العالم كله حتى اكتشف العالم معرفةً أعمق عن الظاهرة السياسية على يد المفكرين السياسيين الغربيين فى القرن الثامن عشر، ذلك الفكر الذى أرسى سيادة الدولة داخل حدودها (بودان) والفصل بين السلطات بحيث لا تنبع جميعها من رئيس الدولة ( مونتسكيو) والعقد الاجتماعى ( جان جاك روسو ) ونظرية المنفعة (بنتام)، إلى آخره، وهذا هو الفكر الذى أسس للديموقراطية السياسية الحديثة، بحيث يتم اقتسام السلطة والثروة مع الحكام ومحاسبتهم عليها مقابل تفويضهم إيَّاها، دولة الخلافة الراشدة الحديثة تتلخص أساساتها فى المبادئ الرئيسه الآتية:
1 – العقد الاجتماعى بين الحكام والمحكومين فى الدولة الإسلامية هو ذلك العقد الذى علمنا إياه سيدنا عمر بن الخطاب، إنه السمع والطاعة الضرورية لانتظام الحكم والإدارة مقابل قبول الحاكم لمبدأ المحاسبة من الرعية على السلطة والمال العام قبولاً مطلقاً لا اعوجاج فيه وبدون قيدً أو شرط كما فعل عمر يوم حاسبه رجلٍ من العامة على برودٍ جاءت المسلمين من اليمن.
2ـ إقامة توازنات القوى داخل الدولة ، وذلك بالفصل بين السلطات الداخلية الرئيسة فى الدولة عن بعضها البعض وعن ولاية رئيس الدولة باستقلالها إدارياً ومالياً؛ السلطات الآساس الرئيسة هى السلطة التنفيذية والسلطة القضائية والسلطة التشريعية، ونضيف فى الدول الإسلامية المؤسسة الدينية الإسلامية واستقلالها ماليا وإداريا عن ولاية رئيس الدولة وغيره حتى تقوم بدور الولاية الأدبية وبيان الصواب من الخطأ شرعاً دون شبهة تعيين كبرائها عن طريق رئيس الدولة أو التربح من فتاواهم ، ونؤكد أيضاً على ألا تكون لها أى سلطة إدارية أو مالية أو قضائية أو تشريعية فى الدولة حتى تبقى كياناً أدبياً مبجلاً «يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر».
3ـ تنظيم الدولة على آساس المراجعات والتوازنات المتبادلة بين سلطات الدولة التى جرى التأسيس لفصلها من الأساس .
4ـ كتابة نص دستورى يبين الإطار التنظيمى للدولة واختصاصات أطرافها ، وذلك للرجوع إلى نصوصه لفض المنازعات ، مع وضع نظامٍ محكم للرقابة الدستورية على التشريعات .
هذه هى المبادئ السياسية التى يُمكن أن تملأ الفجوة السياسية فى التراث السياسى الإسلامى ، تلك الفجوة التى تجعل المسلمين يستجدون حقوقهم المشروعة والمبينة فى الخلافة الراشدة من الحكام، إن شاءوا منحوا وإن شاءوا منعوا كما يحدث فى غالب الأحيان .
حتى يتم تهذيب كل هذا الكم الهائل من التراث السياسى الإسلامى وحتى يتم عمل مرجعية إسلامية ، يتم وضع القرآن الكريم فى موضعه الصحيح كدستور للتشريع ببيان الدستور الإسلامى المكون من الآيات المحكمات اللائى هن أم الكتاب والثابت من السنة النبوية الشريفة بحيث نضع الإطار العام للمعاملات الشرعية، بحيث نبين أن من يخرج عنها يكون قد خرج من الشرعية الإسلامية العامة، والتضييق عن هذا الإطار معناه التعامل من داخل ضوابط داخلية تعطى الشرعية لفئةٍ من الأعمال داخل الإطار العام بما يعنى أننا داخل فئةٍ خاصة من فئات المسلمين وهذا يُدخلنا فى جدلٍ مذهبىٍّ لا نريده ، ثم إدخال مبدأى سمو الدساتير و “رقابة الامتناع و رقابة الإلغاء” كمبادئ مكملة على أصول التشريع الإسلامى التقليدية .
تطبيق مبدأ الرقابة الدستورية للقرآن الكريم وتضمينه فى أصول التشريع الإسلامى سوف يؤدى إلى النتائج الآتية:
• سوف يتم وبتداعيات الأمر تطهير الفكر السياسى والفتاوى الإسلامية من كل ما يخالف سنة الرسول الكريم فى الحكم والإدارة ، بما يعنى إحياء الخلافة الراشدة فى العصر الحديث بطريقةٍ طبعيةٍ تماماً مع اختفاء وذوبان الفتاوى الشاذة التى تسمح للحكام وأعوانهم بارتكاب الكبائر والمنكرات والاعتداء على المال العام والاعتقال للمعارضين .
• انتهاء التحزب إلى ما يُسمى بالسنة والشيعة بتطهير كل منهما مما يخالف سنة الرسول الكريم فى الحكم والإدارة وإضافة ما هو وجوبى فى شأن العقيدة والشريعة مما يؤدى إلى تقارب المذهبين إلى أبعد الحدود .
• القضاء على الرؤى والفتاوى والمذاهب التى تبنى على آيةٍ واحدة أو عددٍ من الآيات، وأحياناً نصف آية دون اعتبارٍ لباقى الآيات المحكمات.
وأخيراً نذكر فى مقامنا هذا حديث رسول الله ﷺ «تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدى أبدا، كتاب الله وسنتى».