العولمة، والإسلام ونهاية التاريخ

في موضوع الحوار بين الحضارات
(دفاعاً عن الإسلام وليس دفاعاً عن المسلمين)

العولمة، والإسلام ونهاية التاريخ

دكتور/ بهاء الدين محمود محمد منصور

مجلة مركز صالح كامل للاقتصاد الإسلامى ، مركز صالح كامل للاقتصاد الإسلامى ، جامعة الأزهر ، السنة التاسعة – العدد السابع و العشرون ،1426 هجرية – 2005 م

1ـ مقدمة:
مارس العالم فى النصف الثانى من القرن العشرين ظواهر عدة تتمثل فى تعاظم وتطور العلوم والمعارف الإنسانية والفيزيقية عامة، مصحوبةً بتطور التقنيات التطبيقية لهذه العلوم والمعارف، مع تراكم الثروات والامكانات المادية لدى عموم البشر، ومع بداية التسعينيات من ذلك القرن أضيفت ظواهر أخرى ذات تأثير خاص على حياة البشر الإنسانية والفكرية تتمثل فى تعاظم علوم وتكنولوجيا الاتصالات والانتقالات ونقل النعلومات، هذا التطور العام قد استحدث على المجتمع البشرى مجموعة من الظواهر تمس الكثير من جوانبه الثقافية والسياسية والاقتصادية وسلوكياته الاجتماعية، نحن نعيش اليوم عصر انفتاح الاتصالات المسموعة والمرئية والإلكترونية وسهولة الانتقال وحمل الأفراد والبضائع، بإمكانات أصبحت فى متناول الكثير من البشر، ويتواصل الانسان مع الآخرين فى أى مكان فى العالم بالصوت والصورة والمحادثة بالتليفون المحمول وتصله الأخبار فور حدوثها بالفضائيات بالصوت والصورة فى أى مكان من أرجاء المعمورة، ولولا تقسيم البشر للحدود بين الدول لاستطاع أى إنسان أن ينتقل إلى أبعد مكان على وجه الأرض فى أقل من أربع وعشرين ساعة .
و هكذا نستطيع أن نقول بأن انتشار وسائل الاتصالات ونقل المعلومات وسهولة التنقل قد أدى إلى التقارب المادى والمعرفى بين البشر جميعاً حتى يكاد العالم أى أن يصبح وكأنه قرية واحدة منفتحة على بعضها مادياً ومعنوياً، تلك هى الظاهرة الفيزيقية البشرية التى يطلق عليها البعض إسم ظاهرة العالمية (Globalism).
أيضاً، ومع بداية التسعينيات من القرن العشرين إنهار الاتحاد السوفياتى وتناثر إلى دولٍ متعددة منفصلة مما أتاح فرصةً للولايات المتحدة الأمريكية لمحاولة فرض الهيمنة على العالم وإعادة صياغة نظامه بما يناسب مصالحها، وذلك باعتبارها القطب الأوحد بلا منافس حقيقى سياسياً واقتصادياً مما دفع جماعات المصالح داخلها وخارجها لإحكام السيطرة وقدرات الثأثير على سلطة القرار فيها وتوجيهه، يتربع على رأس هذه القوى الرأسمالية العالمية وقوى أخرى ترتبط بها حتى ليكاد المرء أن لا يفرق بين إدارة الولايات المتحدة والرأسمالية العالمية والقوى الأخرى المرتبطة بالإثنين ليعرف من يملك القيادة والتأثير الأعلى فى هذا التجمع .
هذا هو موقفنا اليوم فى القرن الواحد والعشرين، حيث يتناول المحللون الأكاديميون والتطبيقيون ظاهرة العالمية هذه، بجوانبها المادية والبشرية الإنسانية، ويتسابق السياسيون والاقتصاديون وجماعات المصالح من كل نوع وفى كل مجال لاستغلالها، كل بما يناسبه سواء كان ذلك للأمانة العلمية أو انحيازاً للإنسانية وخدمتها، أو لخدمة أغراضه الخاصة فرداً أو جماعة، أو للسيطرة على الظاهرة وتوجيهها لخدمة القوى المسيطرة على عناصر عوالم المال والسياسة اليوم، وفى هذا الشأن يميز الباحثون بين ما ينتمى للظاهرة بالطبيعة فيسمونه بالعالمية (Globalism) وذلك الذى ينتمى لمراكز القوى العالمية للسيطرة على الظاهرة ودفع الأحداث إلى حيث يتم صياغة العالم بالصورة التى تتفق ومصالحهم فيسمون ذلك بالعولمة (Globalization) .
فى الموضوع الإسلامى، من البدهى أن تتسبب ظاهرة العالمية وسهولة التنقل والاتصال بين البشر فى تلامس الثقافات والحضارات، فإن تم الأمر بحسن نية بحثاً عن أفضل ما يفيد البشر وينفعهم فهو الحوار، وإن تم الأمر بغير ذلك فى إطار من ممارسة الضغوط فهو الصراع، من بين هذه التحليلات فى هذا الشأن يختار مؤلف هذا المقال ما كُتِب عن موضوعى صراع الحضارات ونهاية التاريخ لتأثيرهما على واقع الإسلام وما يراد به، وخاصة أن فى موضوع صراع الحضارات قد ذكِر الكثير عن الإسلام وأنه طرف سيشمله الصراع، ويأتى ذلك مصحوباً بتواتر الحديث فى داخل بلاد المسلمين وخارجها عن الإرهاب الذى يتواتر الحديث فى خطاب القوى المسيطرة على العولمة بأنه إسلامى، يأتى ذلك مصحوباً بتوالى الضربات بالداخل والخارج للسيطرة على الخطاب الإسلامى وموضوعاته وتوجيهه إلى حيث يريد الفاعلون، فإذا انتهى بنا الحوار أو الصراع أو كلاهما فهى نهاية التاريخ، وكلها أمور تلقى ظلالاً ثقيلة على الموضوع الإسلامى وتستوجب الفحص والتحليل.
فى موضوع الحوار بين الحضارات، ودفاعاً عن الإسلام وليس دفاعاً عن المسلمين يتقدم المؤلف بهذا البحث لاستشراف ما يُمكن أن يكون عليه حاضر ومستقبل الإسلام فى عصر العالمية والعولمة، وفى العرض والتحليل سوف تتنقل المقالة بين الموضوعات الثلاثة العولمة والإسلام ونهاية التاريخ حسب ما يقتضيه السياق حتى يتم التعرض للتفاعل بين الموضوعات الثلاثة .

2ـ الإسلام والمسلمون

الأصل فى البيان الإسلامى هو ما جاء بالقرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة، والإسلام لا نعرفه إلا مما عرفنا به الرسول الكريم نقلاً عن الله سبحانه وتعالى من القرآن الكريم وبياناً فى سنته النبوية الشريفة، والقرآن والسنة هما وحدهما المرجعية الفاصلة لكل ما يختلف عليه المسلمون، وأن السنة النبوية الشريفة هى وحىٌ يوحى من لدن شديد القوى ?وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى??? مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى??? وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى??? إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى??? عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى????(النجم، 1-5) و?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً?????(النساء، 59)، فلا يحق لأحدٍ مهما على شأنه وعلمه أن يحيد عن صحيح اتباعها إلا للحظة شاذةٍ فى الزمان والمكان وعليه أن يدافع عن أسباب اضطراره لذلك .
الإسلام عقيدة وشريعة، ولا يختلف على ذلك أحدٌ وأركانة شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، والصلاة والصوم والزكاة والحج إلى بيت الله الحرام لمن استطاع إليه سبيلاً، وهى كلها تنتمى إلى العقيدة والعبادات، وفى هذا الأمر نستطيع أن نقول أن العقائد والعبادات هى أمورٌ بين العبد وربه يغفر فى شأنها لمن يشاء ويعذب من يشاء، ولكن فوق هذه الأركان يأتى بناء الإسلام نفسه متمثلاً فيما أوصى به الله من صحيح السلوك ومكارم الأخلاق وما شرع من حقوقٍ وواجباتٍ بين البشر .
فى مقال سابقٍ للمؤلف( )، بين المقال أن هناك مبادئ إسلامية عامة وإطاراً عاماً واضحاً وصريحاً يبين حدوداً لا يُحتمل اللبس فيها فى موضوع التعامل بين أفراد البشر جميعاً لا يفرق بين أحدٍ من البشر، هم جميعاً سواءٌ ومتكافئون فى منع وتحريم تجاوز هذه الحدود، لا فرق بين مسلم وغير مسلم، غنى وفقير، شريفٍ وغير ذى نسب، حاكم ومحكوم، وهناك أيضاً سنة نبوية واضحة وصريحة ولا تحتمل اللبس فى موضوع الحكم والإدارة على الحاكم وأعوانه أن يلتزموا بصحيحها وألا يلتفوا على أحكامها فى تعاملهم وتصريفهم للسلطة العامة فى الدولة والمجتمع لأنها ليست إلا التطبيق الخاص للمبادئ الإسلامية العامة فى موضوع الحكم والإدارة، وصحيح الاتباع لهذه السنة النبوية الشريفة فى الحكم والإدارة هو نفس ما سار عليه الخلفاء الراشدون وصحيح الاتباع لهذه السنة هو معيار التفريق بين الحكام ممن هم الخلفاء الراشدون، وغيرهم ممن يأخذون من المحكومين ما لم يأذن به الله لرسولة مستغلين ما تتيحه لهم الفرصة الزمنية التى يعيشونها من سلطة لظلم المحكومين وتجاوز لشرع الله .

الإطار العام للمعاملات الإسلامية( )
الإطار العام للمعاملات الإسلامية أساساته هى العدل والرحمة والإحسان وتأدية الأمانات إلى أهلها، وإذا حكموا بين الناس أن يحكموا بالعدل ?إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ? (النحل، 90)، ?إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا? (النساء، 58). و بخصوص السلطة والنفوذ فقد حرم الله البغى بغير الحق ?قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ? (الأعراف، 33)، أما بخصوص التعامل فى الأموال والتبادل الاقتصادى فقد حرم الله أكل أموال الناس بالباطل ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا? (النساء، 29)، وحرم التلاعب فى الكيل والميزان وبخس الناس أشياءهم لأكل حقوقهم فى تبادل السلع الاقتصادية ?وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ?(هود، 85)، وحرم الإدلاء بأموال الناس بالباطل إلى الحكام ?وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ? (البقرة، 188)، وأوجب أيضا المحاسبة بين الناس على الأموال حفاظا على حقوق العباد ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ? (البقرة، 282) .

أما آداب التقاضى وواجباته فهى القسط فى الشهادة ?وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ?(الأنعام، 152)، ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ? (المائدة، 8)، وعدم كتمانها، وتحريم قول الزور ?وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ? (البقرة، 283)، ?ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأَنْعَامُ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ? (الحج، 30) ?وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا?(الفرقان، 72)، أما فى القصاص فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ?وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ? (النحل، 126).
و هكذا وضع الله حدوداً للتعامل لا يتعداها أحدٌ مسلماً أو غير مسلم، مثل جرائم القتل أو السرقة أو الزنا والاعتداء على الأنساب دون إقامة الحدود التى أوضحها الله سبحانه وتعالى فى شرعه الحنيف، فضلاً عما هو محرم مما يندرج تحت صور البغى والتعدى على الآخرين، فإذا اختلفوا فإن آساس التقاضى العادل وأركانه يرعاها الله بنفسه فى آيات محكمات ويتوعد الخارج عن هذه الآساس أشد العذاب، حيث تقع كل هذه المعاملات على أساس متين من وجوب القسط فى الشهادة وعدم كتمها وتحريم قول الزور، وتلك أهم آساس إقامة العدل فى جميع المعاملات بين الأفرد وفى ساحات القضاء بل تكفي وحدها لإقامة مجتمع العدل والاستقامه.

العلاقة الإسلامية الشرعية بين الحكام والمحكومين( )
المبادئ العامة للمعاملات الإسلامية كُلٌّ لا يتجزأ ولو أخذنا واحدة منها بصدقٍ لقادتنا لاتباع باقى قواعدها ولو خرقنا إحداها لخرقنا الآخرين، ولو طبقناها على معايير وخصائص ومؤشرات العلاقة بين الحكام والمحكومين فى السنة النبوية الشريفة نجد أنها هى نفسها التى اتبعها الخلفاء الراشدون فى الحكم والإدارة، ونجد أن خصائصها وآساسها كالآتى :
العدل والمساواة والرحمة فعلى الرغم من مكانة الرسول الكريم العالية بين أصحابه إلا أنه لم يختص نفسه ولا أسرته بأبهة سلطة ولا ترف مال ?يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً???? وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا?????( الأحزاب، 28، 29) .
الشورى، أمر الله سبحانه وتعالى بالشورى كما جاء فى الآيتين الكريمتين ?فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ??آل عمران، 159) و?وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ?( الشورى، 38)، وأقل ما يعنيه ذلك هو حرية الرأى وألا يُضار أحدٌ من اختلافه فى الرأى مع أصحاب السلطة والنفوذ .
التعفف عن التمتع بأبهة السلطة أو اكتساب النفوذ الاجتماعي أو التربح منها كان الرسول الكريم عفيفاً عن السلطة والمال العام وكذلك حرم الله على أزواجه إن كُنّ يردن الله ورسوله فليس لهم إلا أن يكونوا مثله ?يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً???? وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا?????(الأحزاب، 28، 29).
السلطة أمانة لا تُستخدم لغير الغرض التى فُوضت من أجله، والاعتراف للرعية بحقها فى محاسبة الحاكم ومراجعته على السلطة العامة وعلى المال العام وهذا واضحٌ من خطبتى استهلال الحكم من أبى بكرٍ وعمر بطلب التقويم والنصيحة، وقصة المرأة التى راجعت عمر بن الخطاب على مهور النساء، وقصة الرجل الذى حاسب عمر على طول حُلّته .
و أخيراً رد المظالم قبل مغادرة مقعد السلطة بالوفاة أو بغير ذلك وهذا واضحٌ من ذكر الخبر عن مرض رسول الله الذى توفى فيه( )، الدروس والعبر، وكذلك فعل خلفاؤه الراشدون وعلى رأسهم أبوبكر وعمر عند الوفاة ومحاسبة كلٍّ منهم لنفسه وسؤالهم عمن جلد له ظهراً أو شتم له عِرضاً أو كان له درهماً فى ذمته .
و إحكاماً للبيان، فصَّل القرآن الكريم نقيض النظام الإسلامى فى الحكم والإدارة، وهو النظام الفرعونى( ).
يتمتع الفرعون بسلطة استبدادية مطلقة على الإدارة وعلى المال العام وعلى نفوس البشر وعقولهم، وهى كلها حلقاتٌ متماسكة، الإمساك بإحداها يسهل إحكام السيطرة على الآخرين، وقد بين القرآن الكريم أن حكم فرعون قد ارتكز على الاستخفاف بعقول أفراد رعيته، لعن الله فرعون وأعوانه، وأغرقهم، والنار يعرضون عليها فى قبورهم غُدوا ورواحا، ويوم القيامة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب، وهذا قمة المقت من الله سبحانه .
لقد كان فرعون مثالاً لرجل الدولة العلمانى، يحافظ على دولته وعلى قوتها وهيبتها، ولكنه يأخذ من قومه كل ما تطوله يداه من السلطة ومن المال العام لا يحدَّه فى ذلك إلا توازنات القوى فإذا استشعر قوة خصمه انحنى أمامه وطلب الرحمة كما فعل مع الله سبحانه وتعالى عندما أدركه الغرق ?وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ?(يونس، 90).
نمط الحكم الفرعونى الذى يأخذ كل ما تطوله يداه لا يحدَّه فى ذلك إلا توازنات القوى، هو نمط يتناقض مع مبادئ العلاقة الشرعية الإسلامية، لأن من يتبع سنة الرسول الكريم فى الحكم والإدارة عليه أن يُلزِمَ نفسه بالحدود التى شرعها الله وعليه أن يعطى الناس حقوقهم حتى ولو كان يستطيع منعها .
إذا كانت السياسة هى علم السلطة والاقتصاد هو علم الثروة فلا يوجد فرد ينتمى لأى مجتمع ويعمل بمؤسساته إلا ويمارس التواجد فى سلم إدارى وسياسى، ولا يوجد فرد إلا ويقتنى المال أو يستثمره بما يعنى أن كل فرد فى المجتمع معنى بتشريعات السلطة والثروة حتى ولو كان فى قاع السلطة وفى قاع أصحاب الثروة أو فى وسط السلم أو على رأسه، ومن هنا يتضح الموقع المحورى لتشريعات الحكم والإدارة الإسلامية والانحراف عنها يحرف كل العلاقات الشرعية فى المجتمع تقريباً .
مبادئ الحكم فى سنة الرسول الكريم وخلفائه الراشدين هى نفسها يُمكن أن تكون المبادئ الدستورية لأحدث الدول فى القرن الواحد والعشرين، فهل كان من المكن أن يطبقها بشرٌ لا يعرفون ولا يمارسون إلا ثقافة وعلوم وتقنيات القرن السابع الميلادى والعالم كله من حولهم يعيش ظلام القرون الوسطى.
لم يُعرِّف الرسول الكريم ولا خلفاؤه الراشدون نظاماً سياسياً متقدماً، فهذا لا يدخل فى مجال التشريع، ولكنهم علَّمُوا الناس الحقوق والوجبات بين الحكام والمحكومين وآداب السلوك فى هذا الأمر، هذا هو صميم ما يُؤخذ عن السنة الشريفة لأنه هو مجال التشريع، أما النظام السياسى الذى واكب دولة الرسول الكريم وخلفائه الراشدين فقد كان شديد البدائية والبساطة، ولكنه قابل للتطور بشرط المحافظة على الحقوق والواجبات الشرعية بين الحكام والمحكومين، ولقد كان من الممكن أن نتصور أن تنمو الدولة الإسلامية من بعد عمر بن الخطاب بالاتجاه نحو بناء الأطر القانونية والمؤسسية والآليات السياسية فى الدولة الناشئة بما يضمن العلاقة بين الحكام والمحكومين وعدم خروج أحد منهم عن الإطار المسموح به بالخطوات المنطقية الآتية( ):
– وضع صيغة تبين ما تم استخلاصه من المبادئ الفقهية التى تقوم عليها العلاقة بين الحكام والمحكومين فى الدولة.
– وضع الإطار والصياغة القانونية المحكمة التى تتفق مع هذه المبادئ بما يعنى تطبيقها فى ظل أقل ما يمكن من الاختلاف على المفاهيم والمبادئ .
– وضع البناء المؤسسى للنظام السياسى والإدارى بما يتفق مع هذه المبادئ ويضعها موضع التنفيذ .
– وضع الآلية القانونية والمؤسسية التى تفسر وتفصل فى الخلافات التى تنشأ عند تطبيق هذه المبادئ وتحمى النظام من الاعتداء عليه، شأنه فى ذلك شأن نظام الأحوال الشخصية والمواريث الذى لم يجد من يعارضه أو يلتف عليه منذ بداية نشوء الدولة الإسلامية حيث تم إنشاء الآليات اللازمة للتفسير والتفصيل والتطبيق والحماية وعقاب من يتعدى على حقوق الآخرين حتى أصبحت أعرافاً مستقرة .
بالرجوع إلى القرن السابع الميلادى، بالفكر السياسى والنظم والأعراف السائدة، حتى فى أرقى الدول فى ذلك العصر وهما الفرس والروم، وكلها تنتمى إلى حقبة القرون الوسطى فى تقسيم التاريخ الإنسانى، نجد أن معطيات الثقافة السياسية وعلوم ونظم السياسة والإدارة فى ذلك العصر والتقنيات القانونية، إلى آخر كل تلك المنظومات المتكاملة، ما كانت لتسمح بفهم مرامى ومبادئ الخلافة الراشدة ولا كيفية التعامل معها ولو قَبِل الخليفة بالتعفف عن مكاسب السلطة وأبهتها والتربح منها تقوىً لله وحباً فيه لما فهم معاونوه من الوزراء والمعاونين والخفراء، وما وجدوا غضاضة فى الالتفاف عليه، أما الشورى فأمر لم تسمح به تقنيات التنقل والاتصال وتداول المعلومات، بما أدى إلى قطع التجربة ومنع نموها القانونى والمؤسسى.
إذن لم تسعف تقنيات العصر ومفاهيمه وعلومه السياسية والإدارية هذه الدولة بعد اتساع أرجائها متزامناً مع دخول أعداد كثيرة من حديثى العهد بالإسلام مما أدى إلى أن انفتحت فجوة حضارية لتسقطها إلى حيث يستطيع أن يفهم ويتعايش أهل القرن السابع الميلادى والحقبة الممتدة من بعد ذلك فى القرون الوسطى وبما يتسق مع كل ما يحيط بهم من مناخٍ وأعراف.
لقد استمر حكم الرسول الكريم وصاحبيه أبو بكر وعمر حتى عام 24 هجرية، هى عمر التجربة، حيث مرت بعد ذلك بعهدين انتقاليين ؛ هما ولاية سيدنا عثمان رضى الله عنه حيث تسلل الأمويون إلى مراكز الدولة العليا، وانتهى بعهد سيدنا عليّ بن أبى طالب من عام 35 هجرية حتى قتل عام 40 هجرية وكانت كلها فترة المنازعات والفتن على النحو المعلوم فى التاريخ، والذى انتهى بزوال دولة الخلفاء الراشدين الشرعية الفاضلة وظهور الدول الإسلامية التاريخية، التى تختلط فيها توازنات القوى مع بعض النزوع إلى الثقافة الإسلامية فى الحكم والإدارة تزيد وتنقص حسب الظروف والأمزجة .
قام معاوية بن أبى سفيان بن حرب وعمرو بن العاص بقيادة جماعات المصالح، وساعدت هذه الفجوة الحضارية فى دفع الأحداث لصالحهما لتنتهى بالقضاء على دولة الخلافة الراشدة، حيث قام على أنقاضها نهجان رئيسان فى الحكم والإدارة اكتسبا ثباتاً مع الزمن واستمرَّا فى بلاد المسلمين حتى اليوم، وهما النهج الذى أنشأه معاوية فى دولته الأموية واتبعه العباسيون وأغلب دول المسلمين حتى اليوم ويدَّعى من أنشأوه واتبعوه بأنه نظام سنى وسيتبين من خصائصه لاحقاً أنه مختلف اختلافاً جذرياً فى موضوعٍ خطير هو موضوع الحكم والإدارة عما جاء فى السنة النبوية الشريفة ونهج الخلفاء الراشدون، والآخر هو الذى أنشأه ورثة أصحاب عليّ بن أبى طالب حيث تحول هؤلاء الورثة عما كان عليه الأوائل، من سنيين حقيقيين مناصرين لدولة الخلافة الراشدة كما كان عليّ بن أبى طالب إلى مناصرين لحق أبناء على وورثته فى الحكم ويُلقَّبون اليوم بالشيعة، ثم وبعد ذلك جماعاتٍ صغيرة ظهرت مؤقتة وانتهت بلا عمق مثل توابع الزلزال وأهمها جماعة الخوارج.
يتميز المذهب الذى أنشأه معاوية بن أبى سفيان بن حرب فى علاقات الحكم والإدارة مع المحكومين بالخصائص والأمور الآتية( ):
منع الشورى، سواء بمعنى حرية إبداء الرأى لكل فردٍ من أفراد الرعية، وهذا أقل ما فى الأمر الإلهى بالشورى، أو بمعنى محاسبة أولى السلطة على ما يُمارسونه من أوامر السلطة العامة كما بيَّن أبوبكر وعمر .
التحول إلى الملكية بتوريث الحكم، وهو أمر لم يعرفه الإسلام على الإطلاق لا فى عهد الرسول الكريم ولا فى سنة حكمه ولا فى سنة خلفائه الراشدين .
التمتع بالسلطة ببعض صور البغى والتكبر على الرعية والضعفاء فى الدولة، وهو الأسلوب الظاهر مثل سكنى القصور من المال العام واتخاذ المواكب، وما منع الشورى والانفراد بسلطة الحكم والبطش بمن يتجرأ من الخصوم السياسيين إلا قمة البغى والتكبر بغير الحق .
التربح من السلطة، عدم وضع حدود لاستحقاقات الملك أو رئيس الدولة نظير أعباء الوظيفة كما فعل أبوبكر وعمر رضى الله عنهما، مما أدى إلى انعدام التفرقة بين ما يمتلكه الملك بشخصه وما تمتلكه الدولة، ثم انتقلت العدوى إلى الموظفين العموميين بعدم التفرقة بين ما يجوز وما لا يجوز فى موضوعات المال العام .
عدم رد المظالم لا عند الوفاة ولا غيره، بما فتح الباب أمام الموظفين العموميين، كما يفعل ملوكهم، إلى التوغل فى المظالم، فلا رد لها لا الآن ولا غداً والحساب مؤجل لدى الغفور الرحيم الذى يغفر الذنوب جميعاً إلا الشرك به .
و السؤال الذى يفرض نفسه، هل يُمثِّل منع الشورى والتحول إلى الملكية بتوريث الحكم وعدم وجود حدود بين اقتناء المال عن طريق السلطة أو بالطرق الشرعية الإسلامية وعدم رد المظالم لا عند الوفاة ولا غيره تحوُّلاً يخرج عن الإطار العام للمعاملات والحدود الإسلامية، أم أنه صورة من صور التطبيق لسنة الرسول الكريم فى الحكم والإدارة ولا تؤدى إلى تناقضٍ رئيس مع ثوابت الشرع والحدود الإسلامية.
لم يمر عهد طويل على خروج من حكموا بهذا الذهب عن سنة الرسول الكريم وخلفائه الراشدين فى الحكم والإدارة إلا واضطروا إلى خرق الإطار العام للمعاملات الإسلامية، وكان ذلك بقتل حُجر بن عدى فى السنة الحادية والخمسين من الهجرة على يد معاوية بن أبى سفيان بن حرب نفسه وبعد توليته الحكم بإحدى عشر سنة( )، وهذا يُثبت أن السنة النبوية الشريفة التى اتبعها الخلفاء الراشدون فى الحكم والإدارة ليست إلا التطبيق الدقيق لصحيح المبادئ الإسلامية العامة فى موضوع الحكم والإدارة ولا يتسق مع الإطار العام للمعاملات الإسلامية إلا صحيح سنة الرسول الكريم فى الحكم والإدارة، وأن الخروج عن هذه السنة يؤدى حتماً إلى خرق الإطار العام للمعاملات الإسلامية والوقوع فى المحرمات الشرعية، وما قتل حُجر بن عدى إلا إثبات لذلك .
و المؤلف يرى وجوب تمييز النظام الذى استحدثة معاوية بنسبته إلى صاحبة وتلقيبه بالنظام الأموي فى الحكم والإدارة تمييزاً عن النظام الذى عُرف عن الرسول الكريم وسنته الشريفة واتبعه الخلفاء الراشدون فى الحكم والإدارة، وتنـزيهاً للرسول الكريم عما ينزلق إليه مُتبعوا النظام الأموي فى الحكم والإدارة من ممارسات تخرج عن الإطار العام للمعاملات فى الإسلام( ).
أما بخصوص الشيعة فيسمون فكرهم ونظمهم السياسية بإسمها، إنهم شيعة ويحملون فى ذلك المسئولية الأدبية عما يفعلون، ولا تداخل بينهم وبين غيرهم فى التعريف .
و أما فلول الخوارج، إن شعر بهم أحد، فهم أفرادٌ ينتشر بعض أجزاءٍ من فكرهم ويتداخل مع الغاضبين بإسرافٍ على حال المسلمين .
الشرعية الدينية والشرعية السياسية
فى موضوع النظم السياسية، الشرعية الدينية تعنى صياغة علاقات الحكم والإدارة على الآساسٍ التى أمر الله بها كما جاءت فى صحيح القرآن والسنة النبوية المشرفة، والشرعية السياسية تعنى قيام النظام السياسى بوظائفه التى هى شرطٌ لوجوده ولتفويضه السلطة( ).
بهذا المفهوم نستطيع أن نقول بأن نمط العلاقات بين الحكام والمحكومين فى دولة الخلفاء الراشدين هو النمط الإسلامى الشرعى الوحيد فى كل أنماط الحكم فى الدول الإسلامية وغير الإسلامية، وقد قام نظام دولة الخلفاء الراشدين على أساس المبادرات الشخصية للرسول الكريم وخلفائه الراشدين بإعطاء المحكومين حقوقهم الشرعية تقوىً وطاعة لله سبحانه وتعالى، ولكنه نظام لم يملك مقومات الشرعية السياسية بعد اتساع الدولة من المدينة المنورة الفاضلة إلى حدودها المترامية بعد الفتوحات على عهد سيدنا عمر بن الخطاب ودخول أفواجٍ هائلة من البشر تحت رعاية الدولة مسلمين وغير مسلمين لأنه يعلِّم ويعطى المحكومين حقوقاً لا يملك الآلية لفرضها على الخارجين عليها من الحكام وأعوانهم وكانت فترة المنازعات على عهد الخليفة الراشد عثمان بن عفان ثم استفحال الأمر والتحول إلى الفتنة الكبرى أدلَّة على فشل هذا النظام السياسى فى ذلك العهد مما أفقده شرعية الاستمرار فى السلطة .
بعد الفتنة الكبرى واستيلاء معاوية بن أبى سفيان بن حرب رضي الله عنهم على الحكم وهدمه دولة الخلافة الراشدة ابتدع نظاماً يتلافى هذا العيب حيث أبقى على كل ما فى الإسلام من عقائد وعبادات ومعاملات عدا ما له علاقة بالحكم والإدارة، حيث جعل العلاقة بين الحكام والمحكومين تتسم بمنع الشورى والاستبداد بالسلطة والمال العام وتوريث الحكم وعدم رد المظالم عند الوفاة أو ترك الحكم، بل والوصول فى بعض الأحيان إلى خرق الإطارالعام للمعاملات والحدود الإسلامية لإسكات المعارضين، إلى آخرما نعلم من اختلافاتٍ مؤكدة لنمط حكمه عما جاء فى سنة الرسول الكريم وخلفائه الراشدين، باختصار لقد أبقى على كل ما فى الإسلام من عقائد وعبادات ومعاملات واقتبس من إمبراطوريات الفرس والروم أحدث ما فيها من معاملات ونظم للحكم والإدارة، فهى النظم التى أثبتت بالتجربة نجاحا عملياً فى ظروف عصره وبذلك أضاف أسس الشرعية السياسية إلى نظام حكمه، بل واستمر نظامه هذا نظاماً ناجحاً حيث قامت عليه دول إسلامية عظيمة من بعده تسيدت النظام العالمى طوال القرون الوسطى التى امتدت من القرن السابع الميلادى، تاريخ بدء نظامه وحتى نهاية القرن الخامس عشر الميلادى، وبذلك نخلص إلى أن النظام الأموي فى الحكم والإدارة وإن كان قد فقد الكثير من شرعيته الدينية الإسلامية بانحرافه المؤكد عن سنة الرسول الكريم وخلفائه الراشدين فى الحكم والإدارة وخروقاته للإطار العام للمعاملات والحدود الإسلامية إلا أنه اكتسب الشرعية السياسية فى ظروف القرون الوسطى بنجاحه فى القيام بوظائف الدولة بامتياز فى ذلك الوقت.

3ـ العالمية والعولمة

فى طريق التطور البشرى، ينقسم التاريخ البشرى المكتوب إلى ثلاثة عصور رئيسة( )، الأولى هى العصور القديمة وتبدأ بمعرفة الإنسان القديم للكتابة، والعصور الوسطى وتبدأ بانقسام الامراطورية الرومانية إلى شرقية عاصمتها بيزنطة وأخرى غربية عاصمتها روما وكان ذلك فى نهاية القرن الرابع الميلادى، وأخيراً العصر الحديث ويبدأ من سقوط الامبراطورية الرومانية الشرقية على يد محمد الفاتح، وكان ذلك فى أواخر القرن الخامس عشر الميلادى، وبذلك نستطيع أن نقول بأن الحكم الفرعونى يمثل قمة ما وصلت إليه الإنسانية فى العصور القديمة للوصول إلى الفاعلية فى الحكم والإدارة عملياً، بينما كان نظاماً كسرى وقيصر الإمبراطوريان المستبدان هما قمة علوم وتطبيقات الحكم والإدارة فى العصور الوسطى، أما فى العصور الحديثة فقد ظهر الفكر والتنظيم السياسى الذى يسمح بوضع الشورى وحرية إبداء الرأى واختيار الحكام ومحاسبتهم أموراً عملية وشديدة الاستقرار فى كل أرجاء الدنيا فيما يسمى بالديموقراطية وحقوق الإنسان.

كما جاء فى المقدمة، العالمية (Globalism) هى الظاهرة الفيزيقية المتمثلة فى تعاظم امكانات الاتصالات والانتقالات فى العالم حتى لتكاد تجعله مجتمعاً واحداً، أما العولمة (Globalization) فهى اصطلاح ظهر فى الخطاب السياسى العالمى فى بداية التسعينيات مع ظهور ما يُسمى بالنظام العالمى الجديد، حيث ظهر له المُنَظِّرون لركوب موجة العالمية واستغلال قواها كظاهرة طبعية لصياغة نظام عالمى جديد يرسخ هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية القطب الأوحد حالياً وحلفاءها( )، ونستطيع أن نقول بأن ظاهرة العالمية وتوابعها تكاد أن تمثل حقبة جديدة فى التاريخ البشرى سوف تظهر ملامحها بعد اكتمال تداعياتها .

3-1: العالمية
العالمية (Globalism) ظاهرة فيزيقية تتمثل فى توفر وسهولة وسائل التنقل والإعلام والاتصالات لدى العامة من البشر جميعاُ وعبورها لكافة الحدود بين الدول حتى ليكاد العالم أن تذوب بينه المسافات ويتحول إلى قرية واحدة، وتنتقل الأخبار والمعلومات عابرة حدود الدول فور حدوثها من خلال الفضائيات لا يحدُّها فى ذلك أحد، وقد أدت تلك الظاهرة الفيزيقية إلى التحولات الثقافية والسياسية والاقتصادية الآتية :
1. التداعيات الثقافية:
من خلال الإنترنت والفضائيات المرئية وكلها خدمات متاحة للعامة من البشر فى كل الدول، يستطيع المواطن أن يتابع الأخبار والأحداث فى كل مكان فى العالم، وأن يحصل على المعلومات عن أى موضوع يريده، ولا تستطيع دولة أن تنعزل عنها ولا أن تعزل مواطنيها سواءٌ فعلت ذلك بحسن نية أو بسوء نية، ولا ننكر أيضاً أن الخبر والمعلومة يُمكن أن تكونا ذوات صبغة خاصة بهدف خدمة أغراض مرسل الخبر، ولكن من يريد أن يمحِّص المعلومة ويأخذها من أكثر من مصدر ويخضعها للقياس والتحليل لن يُمكن خداعه بسهولة .
فى مثل هذا العصر المنفتح، لن يصمد من لديه شيء يؤثر على الأمور العامة ويتناوله الإعلام ويريد أن يُخفيه على المدى الطويل، فالمسألة مسألة وقت، تستطيع أن تخفى وتوجه العقول لخدمة هدفٍ معين على المدى القصير، ولكن على المدى الطويل لن يكون الأمر مستقراً .
أيضاً، الإعلام صناعة خطيرة ومتقدمة وتخترق كل البيوت وكل الحجب وكل الدول ويمكن أن تركز على مستخدميها لتوجيههم والتأثير عليهم فى موضوعٍ معين ولفترة معينة، وبالتالى فالإعلام أداةٌ رئيسة فى السياسة والاقتصاد فى عالم اليوم .
2 . التداعيات السياسية :
شيوع وسهولة التنقل والاتصال بين البشر جميعاً، مع الفضائيات والتليفون المحمول لم يجعل هناك مكان معزول من العالم وبالتالى لم يعد هناك مشكلة محلية وأخرى عالمية، وأن كل العالم يتأثر بالأحداث التى تحدث محلياً، إن لم يكن سياسياً أو اقتصادياً، فهو على الأقل يتعاطف إنسانياً مع الحدث، وأصبح من الممكن أن يتدخل الناس إن لم يكن باليد، فسوف يتدخلون بالكلمة والتعليق على الأقل، وبالتالى لم يعد هناك حدث محلى بالمعنى الجغرافى، ولكنه يُمكن أن يكون محلياً بمعنى أنه لا يهم أحداً إلا فى محيط الحدث نفسه .
إذا أضفنا إلى ذلك كثرة التنقل والسفر للعامة من الناس، حيث شاعت الهجرة المؤقتة بغرض العمل أو الدراسة فى دولٍ متقدمة مما أتاح لكثرة من مواطنى الدول غير المتقدمة أن يمارسوا رؤية قريبة للحياة السياسية المتقدمة ومافيها من عدالة وحرية ظاهرة فى التعبير عن الرأى، فإذا عادوا إلى بلادهم كان شعورهم بتخلف النظم السياسية فى بلادهم وضيقهم بها مؤكداً.
و هكذا ظهر فى الخطاب السياسى والإعلامى ما يسمى بالمجتمع الدولى وهو كيان ما فى دور التكوين لو التزمنا بمفهوم العالمية، وإن كان هناك من يريد أن يحتكر الحديث بإسمه فيما يُسمى بظاهرة العولمة كما سيتبين لاحقاً .
فى هذا الإطار وفى موضوعنا «العولمة والإسلام ونهاية التاريخ» نود أن نشير إلى الموضوعات السياسية ذات الطابع العام لدى البشر جميعاً، حيث نشير إلى تواتر تقارير الأمم المتحدة عن التنمية، ونشير فى ذلك إلى خطورة إحكام جماعات المصالح على مقدرات الدولة السياسية بما يحولها إلى «دولة النهب» على حد تعبير أحد هذه التقارير ( )، بما يوثق العلاقة بين الاستبداد والفساد فى دول العالم الثالث وضرورة الضغط على هذه الدول لإجبار النخب الحاكمة التى تستمرئ التمتع بالسلطة دون حساب من المحكومين على التنازل عن مكاسبهم الموروثة عن عصور التخلف البشرى، بما يجعل الإصلاح السياسى فى اتجاه الديموقراطية والشفافية و«الحاكمية أو الحوكمة أو الحكم الرشيد»(Governance) ( )، لقد أصبحت هذه القضية من الموضوعات الدى تهم المجتمع الدولى لتقليل بؤر الصراع حيث لم يعد هناك فرق بين بؤرة صراع محلية داخل الدولة تماماً وأخرى دولية تهم المجتمع الدولى، وهذا أمرٌ قد أصبح شائعاً فى الخطاب الدولى( ). حيث ورد عن تقرير للسيد كوفى عنان الأمين العام للأمم المتحدة بعنوان «أعمال الأمم المتحدة عن عام 2003، الملحق رقم 1/58/A ص 16» تحت عنوان فرعى «المساعدة فى الانتخابات» ما نصه «تنظر الأمم المتحدة إلى المساعدة فى الانتخابات على أنها أداة لمنع نشوب الصراعات».
3 . التداعيات الاقتصادية:
سهولة النقل والانتقال للمعلومات والدعاية والإعلام والعمالة والبضائع ورؤوس الأموال العابرة لحدود الدول والقارات، تجعل المستقبل للكيانات التى تملك القدرة على المنافسة، فلابد من التجمع للكيانات المالية، ولابد من توفير المناخ الجاذب لرؤوس الأموال والمناسب للاستثمار وأهم ما فيه الاستقرار السياسى والديموقراطية والشفافية والحاكمية (Governance) ، ويجب أن نلاحظ أنه فى عصر العالمية هذا ما أسهل أن تتحول الدولة بسبب فساد الحكم فيها من دولة جاذبة لرؤوس الأموال والكفاءات إلى دولة طاردة لرؤوس أموال مواطنيها وللكفاءات نتيجة للاستبداد والفساد الذى يمارسه الحاكم وأعوانه( ).
وهكذا فإن كل موضوعات الثقافة الإنسانية، كلها متاحة للناس جميعاً للدراسة والرؤية والمقارنة، وكذلك الفكر السياسى الحديث يخترق حدود الدول، واهتمامات المجتمع الدولى أيضاً تخترق حدود الدول، وأصبحت كل الموضوعات الثقافية والسياسية والاقتصادية داخل الدول وخارجها متاحةً للناس جميعاً للدراسة والرؤية والمقارنة، ومن أراد المنافسة فعليه أن يصلح من نفسه، ومعيار المنافسة إما شيئاً نافعا للناس بأصالة على المدى الطويل أو شيئاً يبهر الناس على المدى القصير، ومن لم يستطع أن ينافس فعليه أن يتخلص من عوامل قد تسبب اندثاره

3-2: العولمة
تعتبر العالمية وظاهرة تكون مجتمع عالمى متقارب هما أساس العولمة، لقد ظهرت قضايا العالمية الفيزيقية على السطح ضمن الاهتمامات العالمية فى بداية التسعينيات من القرن العشرين مواكبة لانهيار الاتحاد السوفياتى، التجمع الشيوعى الأكبر فى العالم فى ذلك الوقت وأحد القطبين المتنافسين على قيادة العالم.
بانهيار الاتحاد السوفياتى وتفككه إلى دول منفصلة، أصبح كوكب الأرض أحادى القطبية لا يتربع على سطحة إلا الولايات المتحدة الأمريكية القطب الأوحد والقوة العالمية الوحيدة المتفوقة عسكرياً واقتصادياً، مما يغريها باقتناص الفرصة لمحاولة ترتيب الأوضاع العالمية ثقافةً وسياسةً ونظماً عالمية ومحلية ليمتد تفوقها وهيمنتها على الأوضاع العالمية فى المدى المرئى من التاريخ، تسير فى ركابها وتصاحبها الدول الصناعية السبع والشركات متعددة الجنسيات العابرة للقارات والقوى المالية العالمية المسيطرة على اقتصاد العالم، كل ذلك للهيمنة وانتهاز فرصة العالمية الطبيعية المتاحة حاليا لصياغة النظام العالمى الجديد بحيث يُعاد تشكيله بما يخدم مصالح هؤلاء الأقوياء ويؤكد هيمنتهم على مقدرات العالم أطول فترة ممكنة، يجلس على قمة القوى المهيمنة على العالم اليوم والساعية إلى ضياغة العالم الجديد بما يخدم مصالحها، إدارة دولة الولايات المتحدة الأمريكية وقوى المال والرأسمالية العالمية، ولا نستطيع أن نجزم على وجه اليقين من منهم لة اليد العليا على الآخرين ولا من منهم سيحسم المنافسة لصالحه مع ملاحظة أنها منافسة من داخل المعسكر نفسه وذلك لأنه وإن كانت الإدارة الأمريكية تملك قرار استخدام القوى السياسية والعسكرية المتيسرة تحت يد وإمرة دولة الولايات المتحدة (القطب العالمى الأوحد حاليا) إلا أن المسيطرون على رأس المال والإعلام عالميا وفى داخل الولايات المتحدة الأمريكية يملكون الكثير من أدوات التأثير على الرأى العام ومراكز الأبحاث وهما الفاعل الرئيس فى تشكيل الإرادة العامة سواءٌ فى نوعية اختيار قيادات الدولة الأمريكية أو فى قرارها السياسى، وكذلك الحال فى كل الدول التى تتبنى نظماً سياسيةً تنتمى إلى نمط الديموقراطية الليبرالية، وهى تقريباً كل الدول الصناعية السبع الكبرى فى عالم اليوم، مما يشكك فى أن يكون الفاعل الرئيس فى قوى العولمة هو الرأسمالية الشرسة العابرة للقارات التى تريد ممارسة كل المتاح لديها من الضغوط بهدف اقتناص أقصى ما يمكن من الأرباح دون أى قيود ولا رحمة بالفقراء والمستضعفين .
أدوات الولايات المتحدة الأمريكية والقوى المتحالفة معها فى صياغة النظام العالمى الجديد هى وضع المنظمات العالمية والإقليمية تحت السيطرة ؛ يأتى على رأس هذه المنظمات الأمم المتحدة وأجهزتها، مع عقد مجموعة من المعاهدات والتحالفات العالمية والإقليمية بما يفتح الحدود السياسية والأسواق لصالح التكتلات الإقليمية والعالمية، مع السيطرة على أدوات الفكر والثقافة من خلال امتلاك أدوات الإعلام ودور النشر والأبحاث العالمية ودور التربية للنشئ لإعادة صياغة القيم والسلوكيات والأعراف لدى البشر على كوكب الأرض بما يجعل الناس يتقبلون ويتحالفون ويدعمون هذا النمط من الحياة والنظم التى تخدم هذه القوى المسيطرة على العالم، فإذا تم إعادة صياغة القيم والنفوس والعقول، استقر النظام العالمى الجديد واستمر جنى ثماره لصالح من أنشأوه حقبة تمتد إلى ما شاء الله لها أن تمتد .

4ـ صدام الحضارات ونهاية التاريخ

ببزوغ ظاهرة العالمية أصبح تلامس الحضارات وتنافسها على تقديم الحلول لمشاكل البشرية أمراً منطقياً، فإذا أدركنا أن لكل فكرٍ وحضارةٍ من يعتقدون فى صحة ما هم عليه ويدافعون عن وجوده لأن هناك، فضلاًعن الفكر واعتناقه، أوضاعا اجتماعية ومصالح قد ترتبت نتيجةً للأوضاع المؤسسية والأعراف الناتجة عن التطبيقات مما يُدخل المصالح بقوة فى معادلة المواجهة بين الحضارات، مما يجعل صدام الحضارات أمراً متوقعاً، وقد أشار إلى هذه الظاهرة المتوقعة صامويل هنتنجتون( )، والحضارات المرشحة لذلك هى الحضارة الغربية، والكنفشيوسية، واليابانية والإسلامية، والهندية، والسلوفاك الأرثوذكس، وحضارة أمريكا اللاتينية( ). وتوقع أن يكون أكثر الصدامات جدية هو ذلك الذى بين الحضارة الغربية من جانب والإسلامية والصينية من جانبٍ آخر، وأضاف أن أكثر الصراعات المحلية شيوعا ًفى العالم هى تلك التى بين المسلمين وغير المسلمين حيث يمكن أن تتضخم إلى صراعات أكبر ولذلك يُستوجب منعها من البداية، ولعلَّه يعنى بذلك أن المسلمين لا يستطيعون حل خلافاتهم بغير استخدام القوة والصراع . ثم استعرض هذه الحضارات وتفاوتها فى مدى قدرتها على نشر التقدم الاقتصادى والديموقراطية (باعتبارهما معيارين للتقدم السياسى) وخص المسلمين بالفشل فى دمج الديموقراطية فى عالمهم . وذكر أن المسلمين قد قسموا العالم إلى دار حرب ودار سلام، الأمر الذى انعكس على الباحثين الأمريكيين الذين قسموا العالم إلى مناطق سلام وهى الغرب واليابان (حوالى 15%من سكان العالم)، ومناطق اضطرابات وتشمل كل ما عدا ذلك . وفى الشأن الإسلامى أبرز أن مؤتمر حقوق الإنسان المنعقد فى الغرب بقيادة وارين كريستوفر ممثل حكومة الولايات المتحدة الأمريكية قد شجب التوافق بين الإسلام والكنفشيوسية لمطالبة ممثلى هاتين الحضارتين بمفهوم نسبية الحضارة مما يعنى رفضهم لعالمية الحضارة الإنسانية وتواصلها ويعنى بالتأكيد رفضهم الأخذ بنموذج الحضارة الغربية للتطبيق فى بلادهم كما هو( ).

بانهيار الاتحاد السوفياتى (الشيوعى/ الاشتراكى) من الداخل وتفككه فى بداية عقد التسعينيات، مما يعد انتصاراً للولايات المتحدة الأمريكية يؤكد تفوق نظامها السياسى والاقتصادى لتمارس الهيمنة والقيادة فى العالم باعتبارها القطب الأوحد الذى لا ينافسه أحد، وباستقراء انتصاراتها السابقة على ألمانيا وحلفائها الفاشستيون «فى الحرب العالمية الثانية» وبالفكر المستوحى من تحول العالم إلى قرية واحدة فى ظل ظاهرة العالمية استوحى فرانسيس فوكوياما مقالته عن نهاية التاريخ( )، حيث يعتبر هذه الانتصارات دليلاً على تفوق وفاعلية وكفاءة، فضلاً عن القبول الواسع للديموقراطية الليبرالية كنظامٍ للحكم على مستوى العالم حيث انتصرت خلال الأعوام الماضية على الأيديولوجيات المندثرة مثل الملكية الوراثية، والفاشستية، والشيوعية . وأضاف إلى ذلك أن الليبرالية الديموقراطية قد تكون هى نهاية ما يصل إليه الجنس البشرى من الأيديولوجيات وصور الحكم، بما نستطيع أن نعتبره نهاية التاريخ . هذا بينما كانت صور الحكم السابقة تنطوى على عناصر انهيارها وعدم منطقيتها، وفى المقابل على حد قوله كانت الديموقراطية الليبرالية خالية من التناقضات الداخلية . وأن تطبيق ثنائى الحرية والمساواة الذان هما أساس الديموقراطية يجعل الدول تتعافى من عيوب بعض تطبيقاتها . وأشار إلى أن فكرة نهاية التاريخ إلى حيث توجد الأيديولوجية المُثلى قد سبق إليها هيجل وماركس .
تطبيق الليبرالية فى الاقتصاد يعنى «السوق الحرة»، وقد نجح فى تحقيق مستويات عالية من الرفاهية فى الدول المتقدمة وكذلك فى دول العالم الثالث التى أخذت به . وكثيراً ما كانت حرية السوق مقدِّمةً للديموقراطية السياسية، وأن انتشار التعليم المصاحب للتقدم التكنولوجى والاقتصادى فى الدولة يؤدى إلى طلب الأفراد لحقهم فى المساوات والتميز (recognition) بما يؤدى إلى طلب الحرية والديموقراطية( ).

قضايا ومفاهيم سياسية معاصرة
القضايا السياسية المعاصرة هى تلك المتعلقة بقضايا العولمة أى صياغة النظام العالمى الجديد ويأتى على رأسها الإرهاب، والصراعات العرقية وأزمة البيئة . قضية العولمة والإسلام هى موضوع هذه المقالة، وأزمة البيئة ليس للمسلمين فيها موضوع خاص، لم يبق منها إلا الإرهاب والصراعات العرقية حيث يُتهم المسلمون بأنهم وراء اشتعالهما فى القرن الواحد والعشرين نتيجة لعدم قدرتهم على التوافق مع معطيات العصر . ليس هناك تعريفٌ محددٌ للإرهاب وذلك حتى يُمكن توظيف الكلمة ضد كل من يعارض، ولكن السمة المنطقية الوحيدة التى يمكن ألا يختلف عليها أحد فإنها يُمكن أن تكون فى استخدام العنف غير المبرر بأسبابٍ شرعية قانونية ضد المدنيين، سواءٌ كان هذا العنف تمارسه دولة ضد مدنيين مواطنين لها أو غير مواطنين، أو يمارسه أفراد ضد آخرين .

قضية الإرهاب
جاء فى جريدة الأهرام القاهرية يوم الجمعة 7 أكتوبر 2005م( )، بالصفحة الأولى الخبر الآتى «شن بوش في خطاب ألقاه أمس أمام معهد الديمقراطية الوطني هجوماً حاداً على من سماهم الجماعات الإسلامية الراديكالية،‏ وتحديداً تنظيم القاعدة قائلا‏:‏ إنه لا توجد طريقة أخري للتعامل معهم سوي تدميرهم وهزيمتهم‏،‏ وذلك بزعم أنهم يحملون أيديولوجية تحض على الكراهية‏،‏ وتمثل تهديداً للجنس البشري والحضارة الإنسانية‏.‏ كما وجه بوش تحذيرات قوية إلى الدول التي ادعي أنها تقدم الدعم والمأوي للمنظمات الإرهابية‏،‏ وأشار مرتين،‏ على وجه التحديد‏‏ إلى سوريا وإيران‏،‏ وطالب المجتمع الدولي بمحاسبتهما ‏. ثم أكد بوش أنه يمتلك استراتيجية شاملة لمحاربة ما وصفه بالإرهاب،‏ مع إقراره في الوقت نفسه بأن المعركة صعبة وتتطلب صبراً وضغطاً متواصلاً‏‏ وحلفاء أقوياء للولايات المتحدة‏».
من ذلك يتضح أن إدارة الولايات المتحدة الأمريكية، قائدة قوى العولمة سياسياً وعسكرياً تلصق تهمة الإرهاب بقوى وكيانات ذات طابع إسلامى حيث تذكرهم بصفتهم الإسلامية وليس صفتهم السياسية «الجماعات الإسلامية الراديكالية»، وتصرح بأنهم يحملون أيديولوجية تحض علي الكراهية‏،‏ وتمثل تهديدا للجنس البشري والحضارة الإنسانية، وهكذا ينتقل صراع الحضارات من الفكر إلى دائرة العمل.

مفهوم القوة الناعمة
من المفاهيم الحديثة التى برزت فى عالم السياسة نتيجةً لظاهرتى العالمية والعولمة وتوابعهما فنجد مفهوم القوة الناعمة (soft power)( )، ويعنى اكتساب الثقافة أهميةً وقوة فى عصر العالمية حيث الإعلام والاتصالات والتنقل العابر للحدود والقارات بما جعل العالم كله قرية واحدة مما أكسب قادة الفكر والرأى والثقافة تأثيراً عابراً للحدود والقارات، إذن الثقافة وما شابهها قوة ناعمة بتأثيرها على الرأى العام والإرادة العامة، ولهذا المفهوم علاقة عضوية بما ذهب إليه هنتنجتون عن صراع الحضارات على كسب الأنصار والإرادات العامة وتصادم هذه الإرادات نتيجةً لاختلاف القيم والرؤى.

مفهوم رأس المال الاجتماعى
مفهوم رأس المال الاجتماعى (Social capital)( )، يعنى قدر ما لدى الشعب من قيم التعاون والتماسك، وفى هذا الشأن تعتبر الوصايا والتعاليم الإسلامية مصدراً عظيماً بطبيعتها لرأس المال الاجتماعى .

5ـ أساس الديموقراطية فى العصر الحديث

منذ القرن السابع عشر الميلادى، والديموقراطية تكتسب قبولاً عاماً وتشغل موقعاً متميزاً فى الفكر السياسى والإدارى الحديث، حيث اكتشف العالم أنه لكى تستقيم الأمور ولا تـُدار المؤسسات العامة ولا الدول لحساب أشخاص أصحاب السلطة فإنهم يجب أن يُحاسبوا على السلطة العامة المفوضة إليهم فى الإدارة والسياسة وفى المال العام، الديموقراطيةهى مجموعة النظم والآليات والأسس التشريعية التى تنظم اختيار الحكام وأصحاب السلطة ومحاسبتهم على السلطة المفوضة إليهم باعتبار أن ذلك كله من الممارسات الطبعية للنظام السياسى والإدارى.
فى القرن الواحد والعشرين، يتمتع العالم اليوم بتراثٍ من معطيات العلوم الحديثة، وتاريخٍ مستقر لممارسات استمرت لقرون فى الدول الغربية الحديثة، وفى عصر العولمة تم إدخال الكثير من المبادئ المُؤَسِّسَة للديموقراطية ضمن المواثيق الدولية بما يعنى أن الديموقراطية هى تراث إنسانى يجب نشره والدفاع عنه .

5/1ـ معطيات العلوم السياسية الحديثة
استقر فى الفكر السياسى الحديث بدءًا من عصر التنوير (القرن السابع عشر حتى الثورة الصناعية فى القرن الثامن عشر) مجموعة من الموضوعات الهامة التى تطورت واستقرت بإطراد واكتسبت نجاحاً وقبولاً متزايداً بعد نجاح تطبيقاتها حتى أنها أصبحت جزءاً أساساً وعضوياً من الثقافة العامة الحديثة على مستوى الأفراد والجماعات وحقوق الإنسان والفكر السياسى والنظم القانونية والدستورية وذلك عن سيادة الدولة (القرن السادس عشر، بودان( )) والفصل بين السلطات (القرن الثامن عشر، منتسكيو ( ))، والعقد الاجتماعى والإرادة العامة (القرن الثامن عشر، جان جاك روسو ( ))، ونظرية المنفعة لجون ستيوارت ميل( )، مما أدى إلى تطور الدساتير الحديثة والنظم السياسية لتشمل المساواة وحرية إبداء الرأى، إلى آخر ما هو متعارف عليه من حقوقٍ للإنسان الطبيعى الذى خلقه الله حرًّا ولا يناقض طبائعه الشخصية، وتم تحصين هذه الحقوق فى مواجهة طغيان الدولة أو القائمين عليها بآليات المراجعة والتوازن Checks and balances المستقرة فى الدول الحديثة التى تمارس الديموقراطية وغير ذلك من العلوم والتقنيات الحديثة، كلها تساند ما تحتاجه دولة الخلفاء الراشدين من علوم وتقنيات لمساندة مبادئ الشورى وحرية الرأى والتعفف عن الاستفادة من السلطة والنفوذ والتربح منهم وأخيراً إجبار الحكام على رد المظالم والقصاص من الظالم منهم، وهى كلها أمور مطبقة بنجاحٍ فى الدول الحديثة تحت إسم الديموقراطية( ).
5/2- القواعد الآمرة والقواعد غير الآمرة فى القانون الدولى
من القواعد الآمرة فى القانون الدولى التى تحميها المواثيق الدولية وتجيز للمنظمات الدولية (مثل مجلس الأمن) أن يفرض عقوبات وأن يتدخل لفرضها على الدول غير الملتزمة ؛ من هذه القواعد الحق فى الحياة، حظر التعذيب بجميع صورة وأشكاله ومنها الاعتداء الجسدى والاعتقال ومن يثبت ارتكابه لأحد هذه الجرائم يحاكم أمام محكمة جنائية دولية،و هذا ينبع من الفرض بأن المجتمع البشرى تجمعه أخوة واحدة، ونشير فى ذلك الشأن إلى الإعلان العالمى لحقوق الإنسان الصادر عن الأمم المتحدة عام 1948م( ).

5/3ـ قضية نشر الديموقراطية
كان أحدث ما وصلت إليه الإنسانية فى العصور القديمة هو نمط الحكم الفرعونى حيث قامت عليه دولٌ عظيمة وحضارات، وفى العصور الوسطى انتقلت القوة والحضارة إلى نمط الحكم الإمبراطورى كما كان كسرى وقيصر حيث اقتبس معاوية بن أبى سفيان بن حرب الكثير من ملامح نظامهم، لقد حكَّم معاوية القرآن وصحيح السنة النبوية المشرفة فى كل شئون الدولة عدا ما يمس علاقة الحكام بالمحكومين، فقد تشبه فيها بنمط الحكم الإمبراطورى ولذلك اكتسب الشرعية السياسية فى العصورالوسطى، وفى العصر الحديث وبعد تقدم العلوم السياسية الحديثة وتطبيقاتها ونجاحها المبهر فى تنظيم تعبير الناس عن آرائهم ووضع الحكام فى وضع المساءلة القانونية عن تصرفاتهم فى السلطة العامة وفى المال العام فيما يُعرف بمباشرة الحقوق السياسية. أصبح النمط السائد للحكم فى العصور الحديثة مناصراً لنشر مبادئ الديموقراطية وممارساتها، لأنه الأقرب لإرضاء المواطنين فى الدولة، وبالتالى الحصول على تجاوبهم مع نظم الحكم فانتهت نظم الحكم الإمبراطورية المستبدة المعتدية على المال العام الرافضة للمساءلة العامة والرافضة لرد المظالم.
اليوم فى القرن الواحد والعشرين، وفى عصر العالمية وتداخل الثقافات والمعارف والفضائيات أصبحت الحقوق الديموقراطية للمواطنين فى الدولة من الحقوق الأساسية للإنسان، وتقدمت الأمم المتحدة بعباراتٍ قوية عن حقوق الإنسان فى الحرية السياسية وضمانات أمنه من بطش الدولة [ مقال د/ ميلاد حنا فى الأهرام عن تقرير كوفى عنان عن الديموقراطية، ص20] ممايُعتبر تعضيداً قوياً لنشر الديموقراطية فى العالم، وهكذا فإن الأخذ بالديموقراطية يرفع مستوى الأداء للأفراد فى الدولة نتيجة لاقتناعهم بجدوى الانتماء وزيادة العائد عليهم فى النظام الديموقراطى منه فى النظام الاستبدادى، أيضاً تتعرض الدول الاستبدادية لضغوط المناخ العالمى الرسمى والأهلى والإعلامى والثقافى بما يضعها فىموضع الاتهام دائماً بانتهاك حقوق الإنسان وانعدام الشفافية ونظافة اليد والفساد، وكلها أمور تؤدى إلى انحطاط الأداء فى الدولة واستهلاك جزء كبير من طاقاتها للدفاع عن نفسها خارجياً وداخلياً .

5/4ـ أداء الدول الأموية فى عصر العولمة
النظام الأموي هو بطبيعته الوليد الشرعى لظروف القرون الوسطى، ومنذ تأسيسه على يد معاوية بن أبى سفيان بن حرب وهو نظام استبدادى انفرد فيه بسلطة الحكم ثم ورَّثها للأبناء ومنع الشورى وحرية الرأى واقتنى من المال العام وتصرف فيه كيف يشاء رافضاً أى محاولة لمحاسبته أو انتقاده وعند مغادرة المنصب بالترك أو الوفاة لا حساب ولا رد للمظالم .
فى القرن الواحد والعشرين، أداء الدول الإسلامية التى تتبع هذا النمط الأموى فى الحكم والإدارة هو نمط ضعيف يهدر على الأغلب حوالى 20% من الدخل القومى على حماية النظام( )، ذلك النظام المتناقض مع مناخ العصر ويلقى معارضةً وتحقيراً فى الداخل والخارج، وهذا المنصرف الكبير هو أوضح مؤشر على حجم الرفض وانعدام التأييد الذى يعانى منه النظام فى داخل الدولة ومن المناخ العالمى العام، وهناك أمرٌ خطير استجد فى العصر الحديث يختلف فيه النظام الأموى فى القرن الواحد والعشرين عما كان عليه فى القرون الوسطى؛ فالنظام بطبيعته نظام استبدادى يديره أصحاب المصالح الذين لا يتعففون بطبيعتهم البشرية عن التمتع بالسلطة والتربح من المال العام، قديماً فى القرون الوسطى لم يكن هناك امكان إلا أن يبقى المال المنهوب داخل الدولة ولا سبيل أمام الحاكم وأعوانه إلا التملك وإبقائه داخل الدولة وقد حارب ملوك القرون الوسطى من أجل ممالكهم حتى الموت ومن أمثال ذلك قتال قنصوة الغورى دفاعاً عن مصر ضد السلطان العثمانى سليم الأول فى موقعة مرج دابق حتى الموت ومن بعده بعام واحد طومان باى فى موقعة الريدانية حيث قاتل حتى وقع أسيراً وشُنق من بعد أسره، لم يحاول أحدٌ منهما الهرب على الرغم من أنهما لم ينشآ فى مصر، وكانا من المماليك، وما ذلك إلا لأنهما لم يكن لهما شيء خارج مصر فدافعا عن ملكهما الذى اتحد مع ملك مصر، أما فى العصر الحديث مع سهولة التنقل والتملك خارج البلاد استدعى الخديوى توفيق الإنجليز لحماية ملكه من عرابى المطالب بإصلاحات دستورية تحد من سلطة مُلكه، وفى عصر العولمة الأمر فى غاية الخطورة حيث تنتقل رؤوس الأموال بإشاراتٍ إلكترونية لا يعلمها إلا الله ويستطيع الأعوان والأنجال الحصول على الجنسيات الأجنبية والتمتع بحماية دولها بحكم الملايين التى حولوها إلى هذه الدول وأصبح المسلمون تحت حكم النظم الاستبدادية كما الأيتام فى مأدبة اللئام، حيث تـُنـزح رؤوس الأموال إلى خارج الدولة لسببين الأول لأنها منهوبة ويجب إخفاؤها لأن ظهورها فى يد من نهبوها مَدْعاتٌ للمطالبة باستعادتها والثانى هو تأمينها بعيداً عن إمكان استعادتها بوساطة أصحابها، ونـزح المال إلى خارج الدولة يؤدى إلى ضعف الاستثمار وضعف التنمية الاقتصادية، فإذا علمنا أن مناخ الاستثمار فى الدولة الحديثة يرتكز على عدالة الحكم وشفافية قراراته( ) علمنا حجم الكارثة التى تعيشها الدول الإسلامية المتبعة لنظم الحكم الاستبدادية وسوء حالتها الاقتصادية.
لو أعلن الحاكم وأعوانه ما يملكون بالخارج لكان أفضل للمسلمين من إخفائه، حتى ولو لم يطالب أحدٌ باستعادته، لأن المال المنهوب إلى خارج البلاد فى الخفاء وبغير القدرة على الإعلان عن ملكيته يجعل من الحاكم وأعوانه المالكين لهذا المال المنهوب المخفى فى البنوك والشركات الأجنبية عُرضة للابتزاز من جانب المودَع لديهم وهكذا أصبحت الدول الإسلامية ذات نظم الحكم الاستبدادية مُخترقة إلى النخاع فى عصر العولمة ولا يحتاج أحدٌ أن يقاتلها أو يحتلها لكى يكسر إرادتها، فقط يكفيه أن يُغرى الحاكم وأعوانه ذوى الأهمية بإيداع المال المنهوب لديه، وأن يسهل لهم وللأنجال اللجوء إليه بعد انتهاء فترة الولاية والحكم، فما أرخص ما ضاع به استقلال الدول الإسلامية ذات النظم الاستبدادية.
وهكذا انحط أداء الدول الإسلامية، أولاً باهدار مبالغ كبيرة من الدخل القومى لتثبيت نظم حكمٍ استبدادية مستهلكة فقدت شرعيتها فى المفهوم البشرى الحديث فى علوم القرن الواحد والعشرين فى السياسة والإدارة والاقتصاد، ثانياً الاستبداد نفسه مصدر للتربح من السلطة وفسادها وهذا وحده مناقض لمناخ الاستثمار وطارد لرؤوس الأموال وللكفاءات البشرية، وأخيراً لا يستطيع الحاكم المستبد المتربح من السلطة ومن المال العام أن يحتفظ بالمال المنهوب داخل الدولة التى يحكمها، بل يحولها إلى خارج البلاد بإشارات إلكترونية غاية فى السهولة إلى دول آمنة، هى على الأغلب ذات نظم سياسية وإدارية وقانونية شديدة الاستقرار حتى لا يقع تحت سطوة مستبد آخر بعد انتهاء حكمه، والمستبد هو أفضل من يعرف معنى الاستبداد والسلطة المطلقة التى لا حساب عليها، وهذا يعنى أنه غالباً ما يودع المال المنهوب لدى مؤسسات مالية فى أحد الدول الصناعية السبع، وهى الدول المتحالفة مع الرأسمالية العالمية للسيطرة على العالم اليوم، فينزلق الحاكم إلى الابتزاز من جانب من أودع المال لديهم وإلى التحالف مع قوى العولمة على الأغلب.
وهكذا تناقض واقع الدول ذات النظم الأموية فى عصر العولمة عن ذلك الذى كان فى القرون الوسطى لقد كانوا ملوكاً عظاماً عاشوا عصرهم، ولكنهم اليوم جثث هامدة غير قادرة على الأداء، مرفوضين من العصر ومناخه العام وثقافته، يُهدرون المال العام لحماية نظمهم التى هى خارج الزمن، ومطارَدَةً فى داخل دولهم وخارجها، استبدوا بالسلطة وعرَّضوا مواطنيهم للقهر وعرَّضوا المعارضين بالرأى للاعتقال والتعذيب فأذلوهم، وباستبدادهم أصبحت دولهم طاردة للكفاءات وطاردة لرؤوس الأموال فانحطت دولهم ثقافياً وعلمياً واقتصادياً، وأودعوا المال المنهوب خارج بلادهم لإخفائه لأنهم لا يستطيعون المجاهرة به داخلها فتعرضوا للابتزاز من قوى الرأسمالية العالمية، فضاع استقلال الدول الإسلامية ذات النظم الاستبدادية، وهذا يفسر حالة انحطاط الأداء الثقافى والاقتصادى والسياسى لهذه الدول فى عصر العولمة واختلافه اختلافاً بيناً عما كان عليه فى القرون الوسطى، وبذلك نستطيع أن نقول بأن النمط الأموي فى الحكم والإدارة قد اختلف أمره فى العصور الحديثة عما كان عليه فى القرون الوسطى حيث فقد شرعيته السياسية إضافة لفقدانه الطبعى لشرعيته الدينية.

5/5– الخطاب الإسلامى فى القرن الواحد والعشرين
فى مقال لجريدة الأهرام المصرية يوم 23 يوليو 2005م( )، كتب الأستاذ الدكتور على جمعة مفتى الجمهورية فى مجال الرد على بعض الكتابات التى تتهم المؤسسة الدينية المصرية بممالأة السلطة الحاكمة بأن «المؤسسة الدينية فى مصر لها منهجها ويتمثل هذا المنهج فى نقل المذهب السنى بمذاهبه الأربعة المعروفة المشهورة (الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة) مع الاعتراف بالمذاهب الأخرى التى يتبعها المسلمون فى العالم أصولاً وفروعاً على منهج الفهم السليم، وهى: (الجعفرية والزيدية والإباضية) بل والظاهرية التى يؤيدها مجموعة من العلماء هنا وهناك»( ) .
فى مناهج البحوث فى العلوم الطبيعية، نبدأ البحث بذكر ملخص لآخر ما وصلنا من العلم فى هذا الموضوع، ثم نحلله ونذكر ما لم يدخل فى اعتبار الباحث من مستجدات أو رؤى وتكون هذه هى الركيزة لموضوع البحث الجديد، وبنفس المنهج نتناول ما جاء فى المذاهب السنية الموروثة عن (الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة) وغيرهم من أحكام وفتاوى العلماء السابقين الذين لا ننكر فضلهم . كل ما جاء عنهم بخصوص العقائد والعبادات مقبول تماماً ولا مجال لدى مؤلف هذا البحث للتعقيب عليه، ولكن هناك مستجدات فيما يختص بموضوع الحكم والإدارة لم تكن موجودةً على عصر هؤلاء الفقهاء الكرام، الأول هو أن هؤلاء الفقهاء الأفاضل قد عاشوا فى القرون الوسطى تحت سطوة حكومات شديدة القوة والاستقرار والتحضر إلى أبعد ما يكون بمقاييس عصرها بما أكسبها الهيبة والقبول السياسى والاحترام، وتلك أمور مختلفة أشد الاختلاف فى عصر العولمة، والثانى هو أن ذلك الزمن المنتمى إلى القرون الوسطى لم يتح حلولاً فكرية وتنظيمية وتقنية لموضوعات تنظيم الشورى ومحاسبة الحكام مما ألزمهم عملياً بالسكوت لأنه ليس لديهم حلولاً لو طالبهم أحد بشرح كيفية التنفيذ، واليوم الحلول الفكرية والتنظيمية لهذه الأمور متاحة فى عصرنا الحديث فيما يُسمى بالديموقراطية، والثالث هو أن سقف ما كان مسموحاً به من فتاوى تتعلق بالعلاقة بين الحكام والمحكومين ما كان ليتجاوز ما يسمح به الحاكم وإلا تعرض الفقهاء للبطش بهم، فإذا أخذنا بفتاوى هؤلاء الفقهاء الكرام كما هى فقد ألزمنا أنفسنا ضمنيا بسقف ما عايشوه من ظروف على الرغم من أن سنة الرسول الكريم وخلفائه الراشدين فى الحكم والإدارة تسمح للمحكومين بأكثر من ذلك بكثير بل وتتقارب بما هو فى الديموقراطية وحقوق الإنسان على أحدث ما يكون .
لقد تعرض الإمام أبو حنيفة النعمان للضرب والسجن على يد والىبنىأمية «إبن هبيرة» لرفضه تولى القضاء المأمورة أحكامه بأمر الوالى( )، كما تعرض الإمام أحمد بن حنبل للضرب والجلد والتعذيب لخلافه مع المأمون ومن بعده المعتصم فى موضوع الرأى فى خلق القرآن( )، فما هو سقف ما كان مسموحاً به لهؤلاء الأئمة حقيقةً فى موضوع الاختلاف مع الحكام وخاصةً إذا تعلق الأمر بما يحدُّ من حريتهم فى التمتع بالسلطة المطلقة والسيطرة على العقول والنفوس والمال العام .
نسوق فى مقام الخطاب الإسلامى مثالاً آخر له مغزى، هو ما جاء بإذاعة القرآن الكريم خلال شهر يوليو من عام 2005 فى برنامج «أهل البيت» الذى يُقدمه الأستاذ حمدى رفعت الساعة العشرة صباحاً ويتحدث فيه الأستاذ الدكتور جودة أبو اليزيد المهدى عميد كلية القرآن الكريم بجامعة الأزهر الشريف بطنطا حيث ذكر وقائع رؤية أمير المؤمنين هارون الرشيد للرسول الكريم فى المنام وأمرِه له بإطلاق سراح الإمام موسى الكاظم فأرسل رسولاً إليه فى محبسه فأحضره حيث أطلق سراحه ومنحه ثلاثين ألف درهم وسمح له أن يقيم حيث يشاء ولو أراد أن يعود إلى المدينة فليعد . هذه الوقائع تعنى بلغة القرن الواحد والعشرين اعتداء حاكم على حرية أحد الأئمة بسجنه دون سند قانونى، ثم إطلاق سراحه ومنحه ثلاثين ألف درهم من المال العام دون سند قانونى أيضاً، إنها سلطة مطلقة ولا يوجد ما يماثلها فى سنة الرسول الكريم ولا خلفائه الراشدين فى موضوع الحكم والإدارة، فكيف نصف هذا الحاكم بأنه أمير المؤمنين على الرغم من تجاوزه لحدودٍ فى الحكم كان الرسول الكريم يُلزم نفسه بها، فترتبك عقول السامعين فلا يعلمون أن اعتداء الحاكم على حريات المواطنين وتصرفه فى المال العام بلا حسيبٍ ولا رقيب هو من الأعمال الشرعية، ولا حرج فيها من الناحية الإسلامية، أو أن تحريم هذه الأمور يجرى على العامة دون الحكام، أى أن هناك محسوبية فى الشرع الإسلامى، أو أن هذا التحريم ملئ بالثغرات حيث يمكن الإفلات منه بسهولة كما حدث مع أمير المؤمنين وغيره ممن قتلوا وشهدوا الزور من الحكام.
الفقه المنقول الذى كتبه كبار الأئمة وفضلائهم من أمثال أبو حنيفة والشافعى ومالك وابن حنبل وفضلاء أئمة الشيعة من أهل البيت قبل الغلو فى حب علىٍّ عَلَى حساب صحيح السنة النبوية، كله صحيح فى العقائد والعبادات والقواعد الكلية فى التعامل، بل وفيما يُذكر عن العلاقة بين الحكام والمحكومين، ولكن الفقه والأحكام ليست قاطعة ولا ملزمة ضد الحكام المستبدين والمعتدين على حقوق الرعية وذلك فى أمور الاستبداد بالسلطة وبالمال العام، والتاريخ واضح والأحكام موجودة، والميل إلى تجاهل الخوض فى أمور الحكم والإدارة والميل إلى عدم الخوض فى خروقات الحكام للإطار العام للمعاملات الإسلامية، كل ذلك سعياً إلى تجنب الصدام، وعذرهم مفهوم لأنهم لو طُولبوا بآلية لتحجيم سلطة الحكام وإلزامهم بصحيح السنة النبوية الشريف والخلفاء الراشدين فى الحكم والإدارة لتفسخت الدولة وواجهت فتنة كبرى بين المتمسكين بصحيح سنة الرسول الكريم فى الحكم والإدارة مقابل أصحاب المصالح القابضين على السلطة، ولن تكون المحصلة النهائية إلا أن نعود إلى نفس النقطة حيث بدأت وانتهت أحداث الفتنة الكبرى وهى العجز الفنى عن إقامة نظام وآلية لتنظيم الشورى وممارسة الرعية لحقوقهم الشرعية قِبَلَ الحكام ويلزمهم بها ولذلك فإن التمسك بالشورى فى مناخ القرون الوسطى لن يأت من الناحية العملية إلا بفتنة أخرى على غرار الفتنة الكبرى التى بدأت بعهد الخليفة الراشد عثمان بن عفان وانتهت بتولى نظم الحكم الأموية للأمر فى الدول الإسلامية، فى هذا المناخ لم يجد الفقهاء إلا أن يناشدوا الحكام ويذكروهم بفضل سنة الرسول دون القدرة على إصدار أحكام ملزمة، وهكذا أصبحت آساس سنة الرسول الكريم والخلفاء الراشدين فى الحكم والإدارة مثالية مثلها فى ذلك مثل قواعد القانون الدولى غير الملزمة ولكن من المفضل اتباعها باعتبارها من مكارم الأخلاق وتختلف فى ذلك اختلافاً جذرياً عن اعتبارها تشريعاً ملزما، وهذا هو سقف الأحكام الفقهية التى يمكن أن يحصل عليها المظلومون من الرعية قبل الحكام فى الفقه المنقول الذى كُتب تحت حكمهم وفى ظروف وأعراف القرون الوسطى حتى ولو كان صادراً عن أعلم الفقهاء وأتقاهم لأن سقف ما يستطيعون الحكم به لا يتعدى ذلك.
إذا كانت السياسة هى علم السلطة والاقتصاد هو علم الثروة فإن التوَاء المفاهيم والأحكام بما يؤدى إلى إفلات الحكام وأعوانهم من الإدانة على اعتداءاتهم على المعارضين لهم فى الرأى وتعدياتهم على المال العام ليتسبب فى التواء المفاهيم واختلاطها لدى العامة فى كل معاملاتهم على المستوى الشخصى فى أمور السلطة والثروة كذلك، فالقواعد متماثلة وكما منح العلماءُ الشرعية والإجازة للكبار على هذه المعاملات، كذلك طمع الصغار فى المعاملة بالمثل، واختلطت المفاهيم .
تمسُّك المسلمون اليوم فى القرن الواحد والعشرين بنمط الحكم الأموي يسئ إليهم أفراداً ودولاً ولكن الأخطر هو تسمية هذا النمط الذى تأكدت عيوبه وعوراته بأنه سنة، فهذا ادعاء كاذب يسئ إلى الله ورسوله، فالله لم يأمر باستبداد الحكام بالسلطة وبالمال العام، بل توعد من يفعل ذلك – هو وأعوانه – بأشد العذاب فهى أعمالٌ فرعونية، والمسلمون اليوم مطالبون بأقل ما يجب عليهم هو أن يبينوا للناس كافة داخل بلاد المسلمين وخارجها أن الله ورسوله أبرياء من نمط الحكم المستبد، إن فعلوا ذلك وبينوا الأصل وهو سنة الرسول الكريم وخلفائه الراشدين فى الحكم والإدارة فقد برئوا بأنفسهم من هذا الخطأ الجسيم لأن ربط الإسلام بنمط الحكم الأموى هو ادعاء ضمنى بأن ممارسة الاستبداد بالسلطة والاعتداء على المال العام كان من السنة مما يُسقط الإسلام نفسه، ويسئ إلى رسوله، ويسهل على أعدائه والمتربصين به مهاجمته مما قد يؤدى إلى انصراف الناس عنه واحتمال اندثاره فى المستقبل وخاصةً أن هناك من يسعى إلى القضاء عليه فى عصر العولمة .
الاسلام باعتباره مصدراً للثقافة مُطارَدٌ اليوم من قِبَل قوى العولمة على النحو الذى تبين فى كل ماسبق بيانه عن العولمة وتلامس الحضارات ومحاولات هيمنة القوى العالمية والقطب الأمريكى الأوحد وما ذلك إلا بغرض صياغة العالم كله فى نسيج واحد متجانس يناسب الأوضاع التى تريدها القوى العالمية فى القرن الواحد والعشرين، يضاف إلى كل ذلك اغتراب القيم السياسية المقدَّمة من الفقه المنقول عن قيم العصور الحديثة فى الأمور السياسية المتسمة بالديموقراطية، هذا على الرغم من أن القيم المنبثقة عن الخلافة الراشدة والمغيبة عن واقع حياة المسلمين هى أكثر تقدمية فى انحيازها إلى خير البشر وحقوقهم الإنسانية من كل ما هو متداول فى هذا الشأن.
لقد كان الإسلام فى بدايته قوة ناعمة حقيقية حيث اكتسب الأنصار بقوة إقناعه وقدرته على صنع الحضارة وتحسين نمط الحياة لدى البشر، ونستطيع أن نلحظ علم الرسول الكريم بذلك بما فعل فى صلح الحديبية، فقد كان بوحىٍ من العليم الحكيم واثقاً من انتشار ما يدعو إليه، فسعى إلى توفير المناخ المناسب لتبليغه، ونلحظ ذلك أيضاً بانتشار الإسلام فى الدول التى فتحها المسلمون حيث استحسن الناس هذا الدين واستكانوا لشرعته، ولو لم يكن الأمر كذلك لما استطاع العرب أن يحكموا هذه المساحات الشاسعة خارج أرضهم، ولا تعداداً من الشعوب لا يقل عن عشرين ضعفاً لعددهم، بل واستقر الأمر للإسلام الذى كان عامل تماسك الدولة المترامية الأطراف لأكثر من ثمانية قرون، وهذا أمرٌ يستحيل تنفيذه بقوة الاحتلال المسلحة، ونلحظ أيضاً أنه أقام دولةً قويةً فى مدى أربعين عاماً من بدء البعثة المحمدية حتى نهاية عهد عمر بن الخطاب، وهذا يؤكد قدرته على إنشاء رأس المال الاجتماعى، ولو استعاد الخطاب الدينى الإسلامى وجهه الأصلى وأقام العدل فى العلاقة بين الحكام والمحكومين كما كانت فى سنة الرسول الكريم وخلفائه الراشدين، لاستطاع فى خطوةٍ واحدةٍ تحديث الخطاب الدينى للحاق بمعطيات القرن الواحد والعشرين ولأصبح قوةً ناعمةً صالحة لرفع رأس المال الاجتماعى، وهذا أمر يختص بالخطاب الدينى الإسلامى نفسه مستقلاً عن واقع المسلمين وبصرف النظر عن إرادتهم فى تطبيقه أو عدم تطبيقه.

5/6ـ الشرعية الدينية والشرعية السياسية وإمكانات التطور
النظام الإسلامى الشرعى الوحيد هو المأخوذ عن صحيح سنةالرسول الكريم فى الحكم والإدارة، ويتميز بالشورى والعدل والمساواة والرحمة، الشورى فى أقل ما تعنيه هو حرية الرأى وألا يُضار أحدٌ من اختلافه فى الرأى مع أصحاب السلطة والنفوذ، والتعفف عن التمتع بأبهة السلطة أو اكتساب النفوذ الاجتماعي أو التربح منها، أما السلطة فأمانة لا تُستخدم لغير الغرض التى فُوضت من أجله، والاعتراف للرعية بحقها فى محاسبة الحاكم ومراجعته على السلطة العامة وعلى المال العام، وأخيراً رد المظالم قبل مغادرة مقعد السلطة بالوفاة أو بغير ذلك، مبادئ الحكم هذه هى نفسها تصلح لأن تكون المبادئ الدستورية لأحدث النظم السياسية فى القرن الواحد والعشرين، وقد طبقها الخلفاء الراشدون بنجاحٍ كاملٍ على عهد أبى بكر وعمر بن الخطاب حيث هزمت الدولة الإسلامية الفرس والروم وهما أكبر دولتين فى العالم فى ذلك العصر،و بذلك تمتعت هذه الدولة بالشرعية السياسية إضافةً لتمتعها بالشرعية الدينية التى هى من خصائصها.
بعد أحداث الفتنة الكبرى استحدث معاوية بن أبى سفيان بن حرب رضى الله عنه نظامه السياسى المتمثل فى إقامة دولته على كل ما فى القرآن والسنة النبوية الشريفة من أحكامٍ وتشريعات عدا ما يخص أمور الحكم والإدارة، فقد اقتبسه من النظم السياسية لكسرى وقيصر وقد كانا أعظم وأحدث دولتين على عصره يمارسان حكماً ناجحاً وحضارة عظيمة، وبذلك أنشأ دولة عظيمة وحضارة إسلامية هائلة مما أغرى الأسر الحاكمة من بعد الأمويين بتقليده واتباع خطاه ونمط حكمه، واقتبس ضمن ما اقتبس ما تميز به نظام حكمه هذا بالاستبداد بالسلطة ومنع الشورى وتوريث الحكم والاستبداد بالمال العام والتربح من السلطة وعدم رد المظالم، ونظراً للنجاح السياسى لهذا النظام فقد اتبعه العباسيون وغيرهم من الدول الإسلامية متتابعةً، مقيما لدولٍ إسلامية متسيدة للعالم ومقيمة لأعظم الحضارات فى عصرها حتى نهاية القرن الخامس عشر الميلادى فى حكم الدولة العثمانية، وقد قيض الله عمر بن عبد العزيز رضى الله عنه فى وسط حكم الدولة الأموية ليحيى السنة النبوية الشريفة فى الحكم والإدارة ليكون الخليفة الراشد الخامس بإجماع الآراء ليكون حجة على من سبقه ومن تبعه من الحكام ويبين أن شرع الله لا يوجد سبب للخروج عليه إلا البغى والاعتداء على حرمات الله وأن الخروج عن الإطار العام للمعاملات الإسلامية لا يوجد ما يبرره من ناحية الحكم والإدارة ولكنه يحدث لأن الذى يمارسه هو من أهل البغى والاعتداء على الضعفاء.
فى ظروف العصر الحديث وبدءاً من عصر النهضة الأوروبية فى القرن السابع عشر الميلادى، ظهر عوار هذا النظام وتدنى أداء الدول الآخذة بمذاهب الحكم المتخلفة عن القرون الوسطى، النظام الأموي ليس نظاماً سنياً حقيقياً لأنه لو كان كذلك لثبت صلاحة فى نهاية الزمان (نهاية التاريخ) ولكنه نظام مرتبط بظروف الزمان والمكان الذين استوجبا ظهوره، إنه الوليد الشرعى لظروف القرون الوسطى، تلك التى استوجبت وجوده فى بلاد المسلمين، وقد استنفد عمره الافتراضى ولكن إدخاله قسراً فى نسيج الفقه المنقول لعلماء الدين الإسلامى، وذلك بضغط الحكام على الفقهاء مادياً وأدبياً لدفعهم إلى عدم التعرض لبحث مدى شرعية أعمالهم وإجبارهم على تجاهل ذكرها فى أحاديثهم أصلاً مع إسباغ الألقاب الدينية الرفيعة على أشخاصهم بما يوحى بأن الرذائل المصاحبة لممارسات الاستبداد والمخالفة للشرع لا تدين مرتكبيها بل هى من ممارسات الحكم والإدارة الطبعية وبالتالى من الممكن التأسى بها بغير حرج، وأخيراً تسمية النظام نفسه بأنه نظامً سنى، كل هذا أعاق إمكانات تطور الفكر والنظم السياسية فى الدول الإسلامية فى العصور الحديثة، وحالياً فى عصر العولمة وانفتاح المعارف والحضارات على بعضها فإن التقول على الله ورسوله بأن أعمال هؤلاء الحكام المستبدون المتمسكون بأعراف القرون الوسطى هم سنة، بمعنى أنهم يفعلونها تقليداً عن شخص الرسول الكريم وسنتة العطرة، فإن هذا يسئ إلى صورة الرسول الكريم أمام العالم الخارجى ويجرئ المجرمين من الجهلاء الأجانب عليه، إذن النظام السياسى الاستبدادي والفقه المرتبط به، ذلك الذى ابتدعه معاوية بن أبى سفيان رضي الله عنهما وبنيت عليه دول إسلامية وحضارات سادت العالم فى القرون الوسطى واكتسبت بذلك الشرعية السياسية، قد فقد شرعيته السياسية نتيجة لفشله فى أداء وظائف الدولة فى العصر الحديث وتحول إلى نظامٍ شديد الخطورة على دول المسلمين وعلى الإسلام نفسه فى عصر العولمة.

6ـ الإسلام والمسلمون فى مناخ العالمية والعولمة
كما سبق بيانه، يرث المسلمون اليوم، فى القرن الواحد والعشرين ثلاثة أنماط للحكم والإدارة ؛ الأول هو النمط الأموي فى الحكم والإدارة بسماته المناقضة لسمات الحكم والإدارة فى السنة النبوية ومع ذلك ينتشر هذا النمط فى حوالى 90% من دول المسلمين ويطلقون عليه بغير حق أنه نمط سنى مع أن حكامه يمارسون الاستبداد بالسلطة ويعتدون على المال العام ويورثون الحكم إن استطاعوا إليه سبيلاً ولا يردون المظالم وهذا مناقضٌ تماماً لسنة الرسول الكريم وخلفائه الراشدين فى الحكم والإدارة التى تشتمل ضمن آساساتها على الشورى والمساواة بين أصحاب النسب والجاه وغيرهم من خلق الله والتعفف عن المال العام ورد المظالم فأين هذا من الممارسات الواقعية فى الحكم والإدارة حتى يُقال عنها إنها سنة. وينقسم الباقون (حوالى 10%) بين نظم شيعية وأخرى تعلن أنها علمانية، ولا توجد دولة واحدة تحاول أن تطبق نمط الخلافة الراشدة مع أنه هو أصل ما جاء فى السنة النبوية المشرفة واتبعه الخلفاء الراشدون، ووقع فى نفوس المسلمين أنه لا سبيل لتطبيقه على أرض الواقع، باعتبار أنه المثل الأعلى الذى لا يطبقه إلا الأنبياء والقديسون والأخيار، وأنه من مكارم الأخلاق .
المسلمون اليوم فى القرن الواحد والعشرين بظروف انفتاح الثقافات والحضارات على بعضها البعض يحتاجون إلى تأسيس نظامٍ إسلامى جديد يتميز بالشرعية الدينية والشرعية السياسية، وعلى نمط ما فعل معاوية رضى الله عنه فى إنشاء نمط حكمه العبقرى الملائم للقرون الوسطى، يستطيع المسلمون اليوم أن يستعيروا الديموقراطية الليبرالية، فهى تحقق الشورى وحرية الرأى وتمنع التربح من السلطة وتنظم محاسبة الحكام على السلطة المفوضة إليهم وترد المظالم، ولكن الإرادة العامة التى هى أصل السلطة فى الديموقراطية الليبرالية يمكن تقييدها بضرورة احترام حقوق الإنسان، ونؤكد على حقين أولهما ضرورة اتباع الفطرة التى فُطر الناس عليها وهى ذات خواص معروفة جسمانية ونفسية واعتبار المحافظة على الفطرة الإنسانية الطبعية مطلباً من حقوق الإنسان وإرادته العامة وأن انحرافه عن ذلك لا يكون إلا بتزييف إرادته ووعيه، والثانى ضرورة توفير الحد الأدنى من الآساس الضرورية لحياةٍ كريمة مادية ونفسية ونضيف إلى ذلك التطور بمبدأ احترام آساس التنمية المستدامة، وبذلك تتقارب الديموقراطية الليبرالية بعد تطعيمها بآساس الشريعة فى المعاملات مما هو معروف عن السنة النبوية الشريفة والخلفاء الراشدين، وفى نفس الوقت تتخلص من عيوب الليبرالية حيث يصبح المذهب الإسلامى الجديد أكثر عدالة وتحقيقاً لمصالح البشر الحقيقية مقابل الرأسمالية الشرسة التى تمتطى الديموقراطية الليبرالية وترفض أى قيودٍ عليها فتعيدنا إلى صورٍ من البغى فعلها المستبدون من قبل بالسلطة ويمارسها اليوم أصحاب المال الرافضون لأى قيودٍ على ممارساتهم وميزان القوة والنفوذ لصالحهم بحكم ما تحت أيدبهم من المال.

7ـ الخلاصة

الأصل فى الإسلام هو اتباع سنة الرسول الكريم فى كل نواحى الحياة، ومنها نمط الحكم والإدارة، علمنا الرسول الكريم مبادئ للحكم والإدارة تتميز بالشورى والمساواة بين أصحاب النسب والجاه وغيرهم من خلق الله والتعفف عن المال العام وعدم التربح من السلطة ورد المظالم، وسنة الرسول الكريم هى نفس ما اتبع الخلفاء الراشدون فى ممارسات الحكم والإدارة، وهذه السنة هى التطبيق الخاص لمبادئ وإطار المعاملات فى موضوع الحكم والإدارة ومن يخرج عنها ينزلق إلى خرق الإطار العام للمعاملات الإسلامية، وبالتالى هو النمط الوحيد الذى ينطبق عليه تمام الانطباق كل معايير الشرعية الدينية، هذا النمط اكتسب إضافةً إلى شرعيته الدينية شرعية سياسية بنجاحه المبهر فى أداء وظائفه السياسية بانتصاره على الفرس والروم أقوى دولتين وأعظم حضارتين معاصرتين فى العالم له، ولكن بعد اتساع رقعة الدولة الإسلامية وازدياد أعداد المسلمين من غير من تربوا على يد الرسول الكريم وصحبته المباشرة سواءٌ كانوا من الطلقاء أو من غيرهم اهتزت الدولة لأنها تشرع للمحكومين حقوقاً فى الشورى والعدالة لايستطيع النظام السياسى بآليات القرون الوسطى وعلومه وثقافاته أن يتجاوب معها أو يفسرها بدقة ويضع الحكام وأعوانهم فى داخل حدودهم الشرعية لايتعدونها، من أجل ذلك اهتز النظام السياسى لدولة الخلفاء الراشدين على عهد سيدنا عثمان وغرق فى الفتنة الكبرى على عهد سيدنا على بن أبى طالب ولم يملك النظام مقومات استعادة الاتزان إلى حيث يجب أن يكون شرعاً على سنة الرسول الكريم وخلفائه الراشدين فى الحكم والإدارة فقد كان الأمر خارج قدرات العصور الوسطى بأعرافها وثقافاتها وتقنياتها وعلومها وفقد النظام شرعيته السياسية، وانتهت الفتنة الكبرى بإسقاط الخلافة الراشدة على يد معاوية بن أبى سفيان رضي الله عنهما وتأسيسه لنمطٍ جديدٍ فى الدولة الإسلامية لم يألفه الذين اتبعوا سنة الرسول الكريم وخلفائه الراشدين فى الحكم والإدارة، استحدث معاوية نمطاً سياسياً يتمسك بصحيح الإسلام عقيدةً وعبادة ومعاملات فى كل نواحى الحياة، عدا ما يمس الحكم والإدارة، فقد اقتبس فى هذا الشأن الكثيرٍ من ملامح ذلك النمط الذى حكم به كسرى وقيصر، فتميز نمط حكم معاوية ومن تبع نمطه من الحكام بالاستبداد بالسلطة ومنع الشورى وتوريث الحكم، فضلاً عن التربح من السلطة واقتناء المال العام حسب ما تطوله أيديهم وحسب ما يريدون، ولا يردون المظالم وهذا مناقضٌ تماماً لسنة الرسول الكريم وخلفائه الراشدين فى الحكم والإدارة التى هى وحدها صحيح الشرع الإسلامى بدليل انزلاق من يمارس هذا النمط من الحكم إلى خرق الإطار العام للمعاملات الإسلامية، وكان أول من خرقه هو مؤسس هذا النمط نفسه بقتله حجر بن عدى بعد محاكمةٍ لا تتوفر فيها شروط العدالة بغرض إسكاته عن معارضة حكمه، وكان ذلك بعد إحدى عشر سنة من استيلاء معاوية على الحكم، ولكن على الجانب الآخر تميز هذا النظام الجديد فى الدولة الإسلامية بالاستقرار والتوافق الكامل مع مفاهيم وثقافات وظروف القرون الوسطى الممتدة من القرن السابع بداية تأسيس النظام وحتى القرن الخامس عشر الميلادى، على مدى ثمانية قرون استكان المحكومين لهذا النمط من الحكم وتفهموا ظروفه وأسبابه، وأثبت هذا النظام صلاحيته السياسية حيث بلغت الدول الإسلامية التى أخذت به قيادة العالم المعاصر لها وأقامت حضاراتٍ وتنمية عظيمة للبشر وللدولة، وبذلك نستطيع أن نقول أن هذا النمط من الحكم قد أكتسب الشرعية السياسية طالما استقر واقتنع به المحكومون ومارس مهامه فى إدارة الدولة بنجاحٍ تشهد به إنجازاته على الواقع، ولكن شرعيته الدينية محل شك لما تتلوث به من خروقاتٍ للإطار العام للمعاملات الإسلامية .
تمييزاً لذلك النمط من الحكم والإدارة الذى استنه معاوية بن أبى سفيان فى الحكم والإدارة بسماته المناقضة لسمات الحكم والإدارة فى السنة النبوية ومنعاً لخلطه بصحيح سنةالرسول الكريم وخلفائه الراشدين فى الحكم والإدارة، وحتى لا يظن أحدٌ أن معاوية قد أخذه عن الرسول الكريم بما يسئ إليه صلى الله عليه وسلم، لهذين السببين فإن مؤلف هذه المقالة يطلق عليه إسم النمط الأموي فى الحكم والإدارة.
توافق الفقه المنقول عن الأئمة الذين عاشوا ظروف القرون الوسطى مع النمط الأموي فى الحكم والإدارة وتجنب الاحتكاك به وذلك بتجاهل خروقات النظام للإطار العام للمعاملات الإسلامية وإسباغ الألقاب الدينية على الملوك والرؤساء فمنهم من رضى الله عنه ومنهم أمير المؤمنين وعلى أقل تقدير يُمنح كلٍّ منهم لقب خليفة.
يرث المسلمون اليوم، فى القرن الواحد والعشرين ثلاثة أنماط للحكم والإدارة؛ الأول هو النمط الإسلامى السنى الشرعى الأصلى المأخوذ عن سنة الرسول الكريم وخلفائه الراشدين فى الحكم والإدارة، والثانى ذلك الذى استنه معاوية بن أبى سفيان فى الحكم والإدارة بسماته المناقضة لسمات الحكم والإدارة فى السنة النبوية ومع ذلك ينتشر هذا النمط فى حوالى 90% من دول المسلمين ويطلقون عليه بغير حق أنه نمط سنى مع أن حكامه يمارسون الاستبداد بالسلطة ويعتدون على المال العام ويورثون الحكم إن استطاعوا إليه سبيلاً ولا يردون المظالم وهذا مناقضٌ تماماً لسنة الرسول الكريم وخلفائه الراشدين فى الحكم والإدارة التى تشتمل ضمن آساساتها على الشورى والمساواة بين أصحاب النسب والجاه وغيرهم من خلق الله والتعفف عن المال العام ورد المظالم فأين هذا من ممارسات فى الحكم والإدارة حتى يُقال عنها أنها سنة، وينقسم الباقون (حوالى 10%) بين نظم شيعية وأخرى تعلن أنها علمانية، ولا توجد دولة واحدة تحاول أن تطبق نمط الخلافة الراشدة مع أنه هو أصل ما جاء فى السنة النبوية المشرفة واتبعه الخلفاء الراشدون ووقع فى نفوس المسلمين أنه لا سبيل لتطبيقه على أرض الواقع باعتبار أنه المثل الأعلى الذى لا يطبقه إلا الأنبياء والقديسون والأخيار وأنه من مكارم الأخلاق، ووسط هذا العرض نبين أن الشيعة الأوائل على عهد عليّ بن أبى طالب كرم الله وجهه كانوا هم السنيين الحقيقيين المدافعين عن الخلافة الراشدة (التى هى نفسها سنة) .
بدءًا من القرن السابع عشر الميلادى تردى أداء النظم المطبقة في العالم الإسلامي بالمقارنة بالنظم الأوروبية وسقطت أغلب الدول الإسلامية فى براثن الاستعمار والتبعية السياسية وبدلاً من أن يدافع الملوك المسلمون عن بلادهم ضد الغزاة الأجانب أصبحت سهولة تحويل رؤوس الأموال إلى الخارج سبباً فى عدم استحياء الملوك المسلمين الذين يمارسون النمط المستبد بالسلطة وبالمال العام من طلب معونة الأجانب ضد مواطنيهم المطالبين بالإصلاحات السياسية والمثل الواضح لذلك هو استدعاء الخديوى توفيق للاستعمار الإنجليزى ليحتل مصر لتثبيت مكاسبه الملكية ضد الإصلاحات السياسية البرلمانية للثورة العرابية. ولو لم يكن مستبداً ويعتبر أن من حقه امتلاك الأرض ومن عليها لما فعل ذلك، وتصاعد هذا التدنى فى الأداء للنظم المستبدة فى عصر العولمة ليتحول إلى نزح لثروات بلاد المسلمين بطرقٍ إلكترونية إلى حسابات للملوك والرؤساء المستبدين لدى المؤسسات المالية الدولية والدول الصناعية الكبرى وبالتالى السقوط فى براثن الابتزاز من قبل قوى العولمة، وهكذا فقدت الدول المستبدة شرعيتها السياسية فى العصر الحديث إضافة إلى فقدانها من الأساس لشرعيتها الدينية.
فى عصر العولمة الذى يتميز بانفتاح العالم على بعضه البعض بسهولة التنقل والاتصال والشركات العابرة للقارات والفضائيات والإعلام العابر للقارات وحدود الدول، لم تعد هناك إمكانية لعزل أتباع مذهبٍ معينٍ عن متابعة ما لدى الغير من أفكارٍ ورؤى، وبالتالى فإن الفكر الأقوى الذى يقدم رؤى أكثر منطقيةً وواقعية وأكثر جدوى من الناحية العملية للبشرية وحاجاتها هو الذى سيملك القدرة على المنافسة والبقاء فى عصر العولمة .
التحولات التاريخية ليست عشوائية وليست بغير اتجاه، بل هى أيضاً تحقق قول الله تعالى ?كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقّ وَالْبَاطِلَ فَأَمّا الزّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمّا مَا يَنفَعُ النّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأمْثَالَ?(الرعد: 17)، لقد كان النمط الأكثر حضارة وفاعلية على أداء مهام النظام السياسى فى العصور القديمة هو النمط الفرعونى فى الحكم والإدارة، وفى العصور الوسطى تحول شكل الحكم وسماته إلى النمط الكسروى/ القيصرى ذلك النمط الذى استخلص منه معاوية الكثير من سمات حكمه وخلطها بالمبادئ الإسلامية ليظهر ذلك النمط فى الحكم والإدارة بحيث يطبق نمطاً من الحكم والإدارة مطبقاً وناجحاً فى ظروف عصره وليسود وينجح فى أداء مهام الدولة السياسية وينشئ أرضية مناسبة مستقرة لقيام المسلمين بأعمالهم لإنشاء حضارة إسلامية امتدت وتسيدت العالم طوال القرون الوسطى من القرن السابع الميلادى إلى نهاية القرن الخامس عشر .
اليوم فى العصور الحديثة بزغ عصر الديموقراطية والشورى لتتسيد الدول التى أخذت به الحضارةالحديثة، وفى القرن الواحد والعشرين تطبق الدول الكبرى مذهب الديموقراطية الليبرالية التى تضع كل السلطة السياسية والاقتصادية فى يد الإنسان الفرد يسير الأمور كيف يرى دون أى قيودٍ عليه باعتباره العاقل المسئول عن قراراته، ولكنها على الجانب الآخر وإن كانت قد نجحت فى تحييد أصحاب السلطة من استخدامها خارج ما فوضت له، إلا أنها تسمح ضمن آلياتها بإغواء الأغلبية بالمال والمصالح والتعليم وأجهزة الإعلام بما يُحرف إرادة الأغلبية عن صحيح ما يُمكن أن تكون عليه فطرتهم لو تُركت بدون هذه الضغوط الناعمة.
اليوم فى القرن الواحد والعشرين بظروف انفتاح الثقافات والحضارات على بعضها البعض يحتاج المسلمون إلى تأسيس نظامٍ إسلامى جديد يتميز بالشرعية الدينية والشرعية السياسية، وعلى نمط ما فعل معاوية رضى الله عنه فى إنشاء نمط حكمه العبقرى الملائم للقرون الوسطى، يستطيع المسلمون اليوم أن يستعيروا الديموقراطية الليبرالية، فهى تحقق الشورى وحرية الرأى وتمنع التربح من السلطة وتنظم محاسبة الحكام على السلطة المفوضة إليهم وترد المظالم، ولكن الإرادة العامة التى هى أصل السلطة فى الديموقراطية الليبرالية يمكن تقييدها بضرورة احترام حقوق الإنسان ونؤكد على حقين أولهما ضرورة اتباع الفطرة التى فُطر الناس عليها وهى ذات خواص معروفة جسمانية ونفسية والثانى ضرورة توفير الحد الأدنى من الآساس الضرورية لحياةٍ كريمة مادية ونفسية ونضيف إلى ذلك التطور بمبدأ احترام آساس التنمية المستدامة، وبذلك تتقارب الديموقراطية الليبرالية من آساس الشرعية الإسلامية المعروفة عن السنة النبوية الشريفة والخلفاء الراشدين بعد تطعيمها بآساس الشريعة فى المعاملات، وفى نفس الوقت تتخلص من عيوب الليبرالية حيث يصبح المذهب الإسلامى الجديد أكثر عدالة وتحقيقاً لمصالح البشر الحقيقية مقابل الرأسمالية الشرسة التى تمتطى الديموقراطية الليبرالية وترفض أى قيودٍ عليها فتعيدنا إلى صورٍ من البغى فعلها المستبدون من قبل بالسلطة ويمارسها اليوم أصحاب المال الرافضون لأى قيودٍ على ممارساتهم وميزان القوة والنفوذ لصالحهم بحكم ما تحت أيدبهم من المال.
الشريعة الإسلامية هى شريعة الله الكونية فى تطبيقها الخاص على الأرض، وبهذا المفهوم هى أولى دون غيرها بأن تكون هى الأكثر ملاءمةً للبشرية وتحقيقاً لحاجاتها المعنوية والمادية، وبمفهوم نهاية التاريخ تكون الشريعة الحاكمة فى النهاية هى الأكثر تحقيقاً وإشباعاً لفطرة الإنسان فى تكامل جوانبها، بل وهى التى يميل إليها الناس لو تـُركوا على فطرتهم بغير ضغوط من السلطة أو إغواءٍ من المصالح المؤقتة أو تحريفٍ لمشاعرهم بأضواءٍ وضغوطٍ ناعمة، ويشير الله سبحانه وتعالى إلى ذلك بقوله الكريم (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللّهِ الّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّهِ ذَلِكَ الدّينُ الْقَيّمُ وَلَـَكِنّ أَكْثَرَ النّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ)(الروم:30).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *