في موضوع التراث والمعاصرة (في أصول التشريع الإسلامي)
الرسالة بين الأصولية والسلفية
دكتور بهاء الدين محمود محمد منصور
مجلة مركز صالح كامل للاقتصاد الإسلامي بجامعة الأزهر , العدد السابع والأربعون , 1433 هجرية – 2012 ميلادية
1- مقدمة
خلق الله آدم فى الجنة وأمره ألا يقرب شجرةٍ معينة، فعصى آدم ربه وغوى، وسواءٌ كانت الشجرة حقيقيةً أو رمزية إلا أن القصة تعنى أن هناك آداباً على كل من يريد أن يعيش فى ملكوت الله الأعلى أن يراعيها ولا يقرب حدودها، وكانت النتيجة أن أرسل الله آدم وأبناءه رحلةً محسوبةً فى الزمان والمكان والمواقف لكى يصيب الإنسان منها نتيجةً محسوبةً كلٌ بقدره (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23) ) [الحديد:22 ـ 23] يعود بعدها الصالحون إلى ملكوت الله الأعلى فى الجنة خالدين فيها لا يسمعون لغواً ولا تأثيماً (لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا تَأْثِيماً (25) إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً (26)) [ الواقعة الآيتين 25ـ26] بما يعنى أن هناك تغييراً فى السريرة قد أصابهم ففقهوا شريعة الله فى ملكوته.
كانت حياة آدم فى الجنة تتميز برغد العيش حيث لا يجوع فيها ولا يعرى ولا يظمأ فيها ولا يضحى؛ ولكن إبليس وسوس إليه فأخرجه منها ليواجه حياةً على الأرض تتميز بالشقاء ومكابدة الظروف (فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنْ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117) إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى (119) ) [طه: 117 ـ 119]، (لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ (4) ) [البلد: 4] حيث تتميز بنقص الموارد فى مقابل احتياجات آدم وأبنائه مما اضطره إلى العمل الفردى لإشباع حاجاته الخاصة ؛ ومن بعد ذلك عرف الإنسان أن هناك لذَّات حسية تصاحب الإشباع للحاجات البيولوجية فسعى إلى التمتع بها ؛ ثم إلى التجمع فى الأسرة والقبيلة والمجتمع والدولة بحثاً عن الأمن بمعنى التأمين من اعتداءات الآخرين من الأحياء والمخاطر الناتجة عن تقلُّبات الطبيعية وكذلك تأمين الحصول على الضرورات اللازمة للابقاء على الحياة من مأوى ومأكل وملبس؛ وبنشأة المجتمع نشأت السلطة المركزية للقيام على تنسيق المواقف والانشطة وصولاً إلى الأهداف العامة والمشتركة وتنظيم الأمور العامة فى المجتمع ذات صفة الاستدامة (تشريعات وأعراف) والاضطلاع بمسئوليات إدارتها مما أدى إلى ظهور فكرة تفويض السلطة طوعاً أو كرها (بقبول مبدأ الحكم بالغلبة) ومن بعد ذلك الظواهر المعقدة الخاصة بالسلطة والدولة والحكم ؛ وبتقسيم العمل ظهر التخصص وتبادل السلع والخدمات؛ وأخيراً ترتب على كل ذلك أن ظهرت عناصر الاقتصاد مثل الانتاج للسلع والخدمات وتبادلها والنقود كأداة للتبادل ومستودع للقيمة مما أدى إلى ظهور اكتناز الثروة باعتبارها قيمة قائمة بذاتها لتأمين الحصول على الاحتياجات ثم أدرك الناس أنها مصدر للقوة والنفوذ والوجاهة الاجتماعية ؛ وهكذا تسبب تعدد الاحتياجات البشرية مع نقص الموارد إلى كل ما نحن فيه من مشاكل وظواهر أعيت السابقين واللاحقين من أبناء آدم حتى يرث الله الأرض ومن عليها ونحن نبحث عن أفضل تنظيم للسلوكيات الفردية والجماعية (التشريعات للمجتمع والدولة) بهدف تعظيم الإشباع من الأمن والرفاهية.
عندما أمر الله آدم بمغادرة الجنة هابطاً إلى الأرض وعده بأن يرسل إليه هُدىً (قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى (123) ) [طه: 123]، هذا الهدى تعاقب فى رسالات السماء إلى الأرض حملها الرسل والأنبياء من البشر حتى ختمها الله بالرسالة الإسلامية الجامعة بشقَّيْها «القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة» إلى كل البشر بلا تفرقة فى الجنس أو اللون؛ إلى الأقدمين والمحدثين وقد تعهد الله سبحانه وتعالى بأن يحفظ القرآن الكريم بنفسه إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) [الحجر:9]، وشاءت إرادته أن يبقى نصه وحده إلى يوم القيامة من دون كل الرسالات السماوية حتى لا يختلط برسالته الخاتمة ما سبق أن أرسله فى مراحل قبلها ترتبط بزمانٍ ومكانٍ وأقوامٍ خاصة وينتهى الغرض منها بانتهاء ظروفها، بما يعنى أن شريعة الله الكونية التى لم تختلف ولم تتبدل فى كل الرسالات السماوية عنها فى ملكوت الله الأعلى اكتمل بيانها فى الرسالة الإسلامية لتسمو وتهيمن على كل ما سبقها (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنْ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) ) [المائدة:48]؛ كما تسمو وتهيمن الدساتير فى النظم التشريعية الوضعية الحديثة؛ ومن الثابت أن رسالة الإسلام السماوية «القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة» تتضمن عناصر ثلاثة رئيسة هى : العقيدة (تحتوى على أنباء الغيب وكلها خارج العلم الذى أساسه الحواس الخمس) ، والعبادات (و هى كيف يتقرب المسلم من ربه وتنطوى بدرجة كبيرة على الكثير من الغيبيات وأقصى ما نطمح إليه أن ندرك المغزى منها) ، وأخيراً الشريعة (وهى مجموعة من القواعد العامة المجرَّدة تنظم السلوك الاجتماعى للفرد وللمجتمع) والتى لا يمكن إلا أن تكون العلاقات المثلى التى يبحث عنها آدم وأبناؤه للحصول على أقصى ما يمكن من الإشباع للأمن والرفاهية وفى نفس الوقت مبادئها هى نفس ما تنتظم عليه الشريعة فى ملكوت الله الأعلى حيث كان آدم قبل إخراجه ونزوله إلى الأرض وبذلك يكون هناك ترابط واتساق لكل هذه الأمور.
الرسالة هى الرسالة الإلهية «القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة» وكلاهما وحى مرسل من الله سبحانه وتعالى إلى عبده سيدنا محمد د لتبليغها إلى البشر جميعاً فى كل زمانٍ ومكان؛ أما التراث فهو كل ما تركه لنا المسلمون السابقون؛ و«القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة» لا يُصنَّفان ضمن التراث الإسلامى بل هما رسالة الله سبحانه وتعالى الخاتمة إلى البشر جميعاً فى كل زمان ومكان أفراداً وجماعات (هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ (52)) [إبراهيم: 52]، (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَي اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنْ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20))[المزمل:20]، (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (30) ) [الفرقان:30]، (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) ) [التوبة:31]، (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) ) [الحجر:9]؛ والتراث يشمل بداخله «الفقه» و«علم أصول الفقه» وشأنهما شأن كل التراث من صنع البشر.
الأصولية هى الالتزام بالرجوع الدائم إلى الأصل ؛ والمقصود فى الشأن الإسلامى هو على أصول ما جاء فى عنصرى الرسالة الإلهية «القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة» والتمسك بها.
السلفية هى التسليم بأن التراث المنقول عن أىٍّ من «السلف الصالح» وهم «الصحابة أو التابعين أو تابعى التابعين»(حتى نهاية القرون الأولى من الهجرة) كله مطابق للمرجعية العليا «للقرآن والسنة»؛ وأن أحكامهم قد أصابت الأصول فى «القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة» صواباً مطلقاً؛ وبالتالى فإن التسليم بالمأخوذ عنهم يغنينا عن التدبُّر بأنفسنا فى «القرآن والسنة» لأننا لن نصل إلى مرتبتهم فى الفهم والإخلاص والتفقه فى الدين ؛ إذن السلفية هى فى حقيقتها منهاج للتعرف على مضمون أصل الرسالة «القرآن والسنة» بأخذ المعرفة عـن السابقين من أسلافنا الصالحين دون تفرقةٍ بين أحدٍ منهم وليست مذهباً فقهيا بعينه.
كل المسلمين فى كل العصور قديماً وحديثاً يسعون إلى أن يكونوا أصوليين يستندون على صحيح القرآن والسنة ؛ والسؤال الذى نسعى إلى الإجابة عليه فى مقالنا هذا «هل الفقه والفتوى والأحكام التى استنبطها السلف الصالح فى القرون الثلاثة الأولى من صدر الإسلام» لازالت تعبِّر تماماً عما جاء فى القرآن والسنة من قضايا وأحكام تخص «العقيدة والشريعة والعبادات» وصالحة للأخذ بها دون أى تصرُّف فى القرن الواحد والعشرين؟؛ وهل الفقه مجرد تحصيل حاصل «للغة القرآن والسنة» دون أخذ «فقه الواقع» فى الاعتبار؟ أم أن الفتوى تستوجب النظر فى الواقع كما ننظر فى «القرآن والسنة» وإن صح ذلك فما الموقع الصحيح لفقه السابقين من علمنا اليوم.
هذه المقالة تتناول منهج التعرف على الرسالة ؛ هل نقرأ عنصريها «القرآن والسنة» قراءةً مباشرةً وبأنفسنا لاستخراج ما فيها من فقهٍ «للعقيدة والشريعة والعبادات» مستعينين بأحدث ما لدينا من قدراتٍ علمية ؛ وفى هذه الحالة نستعين بآراء الفقهاء السابقين باعتبارها اجتهادات بشر وهذا ما نعنى به المنهج الأصولى حيث يستند فقهنا بهذا المنهج على ما جاء فى صحيح القرآن والسنة مباشرةً دون وساطة بينما يقع الفقه المنقول عن البشرِ السابقين موقع العلم القابل للنقد وقيمته تقف عند الإشارة إلى ما يراه السابقون صواباً فإن كان متسقاً مع معايير البحث العلمى متسقاً مع عنصرى الرسالة «القرآن والسنة» أخذنا به أما إذا كان معبراً عن رأىٍ خاصٍ بقائله لا يتجاوز زمانه ومكانه قدَّرنا له ذلك وأخذنا منه بقدر ما تسمح لنا المعايير العلمية والواقعية فى زماننا هذا ؛ هذا المنهج يختلف عن المنهج السلفى حيث يستند الفقه السلفى فى نهاية المطاف على فقه مذهبٍ مأخوذٍ عن إمامٍ من السلف الصالح أو قولٍ منقولٍ عن أحد الصحابة حكموا به فى موقفٍ معُـيَّن فى الزمان والمكان فى ظروف قرون سابقة عاشوا ومارسوا اجتهادهم فيها ؛ حيث يقبل السلفى وكالة السلف الصالح فى الاجتهاد بالإنابة عن المسلمين المعاصرين ويسلِّم بصواب اجتهادهم وأحكامهم وصلاحيتها للتطبيق فى القرن الواحد والعشرين ؛ والهدف النهائى من البحث هو تقويم الفروق الفقهية التى يُمكن أن تنتج بين قراءة «القرآن والسنة» بخلفية علوم ومعطيات العصر الحديث وذلك الفقه المنقول عن السلف الصالح.
اليوم، فى القرن الواحد والعشرين يرث المسلمون المذاهب الرئيسة التالية (1 ):
- مذاهب سياسية مثل السنة والشيعة والخوارج
- مذاهب اعتقادية مثل الأشاعرة والماتريدية والمعتزلة والوهابية
- مذاهب فقهية مثل الفقه السنى والشيعى والإباضى
وعلى هذا المنوال أعلن الشيخ على جمعة فى جريدة الأهرام المصرية (2 ): «إن الأزهر الشريف قد اعترف بالمذاهب الفقهية الثمانية التى يقلدها المسلمون فى العالم فى عصرنا الحاضر وهى الأربعة السنية (الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة) وإثنان من الشيعة (وهما الجعفرية والزيدية) وإثنان من خارج ذلك (وهما الإباضية والظاهرية) وهذه المذاهب الثمانية هى التى تكوِّن الموسوعة الفقهية التى بدأت فى سنة 1960 بالمجلس الأعلى للشئون الإسلامية والتى وضع برنامجها العلامة المرحوم محمد فرج السنهورى ومعه آخرون من كبار رجال الفقه فى مصر وكان قبل ذلك قد أصدر الإمام الأكبر الشيخ محمود شلتوت قراراً باعتماد المذهب الجعفري واعتماد الأخذ منه عند أهل السنة».
بالتأكيد يمثل التوجه بالأخذ بالاحكام من بعد أحد المذاهب الفقهية المأخوذة عن السلف الصالح ينطوى على سهولة ويسر على المسلمين من أصحاب التوجه السلفى حيث يوفر عليهم عناء البحث بأنفسهم فى الرسالة الإلهية وتحمل المشقة والمسئولية.
قد كان للمسلمين حضارةٌ عظيمة تسيَّدت العالم وقادت الفكر والعلم الإنسانى فى الفترة التى بدأت بالقرن السابع الميلادى وهو تاريخ نزول الوحى برسالة الإسلام على سيدنا محمد د؛ وانتهت بنهاية القرن الخامس عشر الميلادى وتلك هى الفترة التى كُتِبَ فيها أفضل ما فى التراث ؛ ثم انتقل مركز الحضارة الإنسانية من بعد ذلك إلى أوروبا والبلاد الغربية وبلادٍ أخرى ، لقد انقضت خمسة قرون منذ ذلك التاريخ حتى اليوم قطعت الحضارة الإنسانية خطواتٍ وحققت طفراتٍ هائلة فى التقدم العلمى والتكنولوجى وفى أساليب البحث والعلوم الإنسانية مما أوجد نظماً حديثة فى التشريع والسياسة والاقتصاد والعلاقات الإنسانية لم يكن لها ما يُماثلها فى تاريخ البشرية حتى نهاية القرن الخامس عشر مما جعل التراث يبدو غريباً فى بعض جوانبه عن عالمنا اليوم ، وهذا ما وصفه المفكرون بمشكلة «التراث والمعاصرة».
فيما يخص موضوع مقالتنا هذه فإن هناك موضوعات هامة قد استجدَّت واستقرَّت تطبيقاتهما فى العالم الإنسانى ؛ فى موضوع العقيدة هناك اكتشافات ونظريات علمية تحدِّث رؤية الانسان إلى الغيب وموضوعاته وتعضِّد الإيمان بوجود الخالق العليم الحكيم المهيمن بكل صفاته التى استقرت فى عقيدة المسلمين بما يساعد الانسان أن يُدرك بشئٍ من العمق دوره فى الحياة الدنيا فيتجاوب مع المقاصد التى أرادها الله من قضاء أبناء آدم رحلةً محسوبةً على الأرض؛ وفى المنظور الفلسفى العام لم يعد مقبولاً والخالق واحد إلا أن يكون عالم الغيب وخلق آدم فى الجنة ثم رحلة الإنسان على الأرض وعودة الصالحين إلى ملكوت الله الأعلى حيث الجنة إلا أن يكون كل ذلك موضوعٍ واحد أى أن رحلة الانسان على الأرض تحدث أثراً ما يجعل الانسان يتقارب مع دوره الذى يريده الله منه فى ملكوت الله الأعلى؛ وأن الرسالة «القرآن والسنة» تقرب إليه فهم هذا الدور وتوضح له المطلوب منه ؛ وأن الشريعة تدرِّبه عليه ؛ وفى موضوع الشريعة خاصةً فإن هناك موضوعات هامة قد استجدَّت واستقرَّت تطبيقاتهما فى العالم الإنسانى الأول هو ظهور الدساتير والثانى هو حل مشكلة اختيار ومحاسبة رؤساء الدول على السلطة المفوضة لهم فيما يُعرف اليوم بالفكر السياسى والاجتماعى المرتبط بالديموقراطية وآلياتها وسندرس آثار الأخذ بهما عند قراءة «القرآن والسنة» ونقارن بين النتائج وما جاءنا فى التراث ؛ وإذا كان فى النتائج جديد فأيهما أقرب إلى الرسالة وأكثر أصولية.
لكل ما سبق سنبدأ بقراءة «القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة» قراءةً دقيقة لنعرف موقع التراث من الرسالة لمن يريد أن يكون أصوليًّا فى القرن الواحد والعشرين.
2 – تعريف الرسالة الإلهية فى القرآن الكريم
الرسالة الإلهية هى «القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة»؛ وقد أرسل الله سبحانه وتعالى أنبيائه ورسالاته المتعاقبة تحمل الهدى لأبناء آدم كما وعده عند خروجه من الجنة ؛ وكانت الرسالات خاصة بأقوامٍ بعينهم أو لبيان المطلوب فى مواقف بعينها حتى ختم الله رسالاته «بالقرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة»؛ حيث السنة النبوية المشرفة ليست إلا وحياً يوحى من الله سبحانه وتعالى إلى رسوله الكريم لتفصيل ما جاء فى القرآن الكريم وتقييد مطلقه وبيان مُحكمه(3 ) ؛ وشاءت إرادة الله سبحانه وتعالى ألا يبقى من نصوص رسالاته إلا القرآن الكريم وحده لا يختلط بنصوصه شئٌ مما ورد فى الرسالات السابقة ؛ بل تعهد الله سبحانه وتعالى بحفظه (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) ) [الحجر:9]؛ أى أن كل آيات القرآن الكريم قطعية النص بلاغاً من الله خاتماً نهائياً إلى يوم القيامة ؛ مما يعنى أن قراءة هذا النص والعمل به تكليفٌ يقع على كل أبناء آدم فى كل زمانٍ ومكان ولا يُسمح لجيلٍ حديثٍ أن يتقاعس عن التفقه فى نصوصه اعتمادا وتسليماً لجيلٍ سابق.
يبين القرآن الكريم منهج تناول الرسالة الإسلامية “القرآن والسنة” وموقعها من رسالات الله السابقة ؛ حيث بيَّن أن آياته تنقسم إلى آياتٍ مُحكمات هن أم الكتاب وأُخَرَ متشابهات (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ (7)) [آل عمران: 7]، وبالتالى فإن الآيات المحكمات (قطعية النص قطعية الدلالة) تنبع منها المبادئ والأحكام الآساس فى الدين الإسلامى عقيدةٌ وشريعة وعبادات، بينما تشير الآيات المتشابهات (غير قطعية الدلالة) لما يُمكن أن يختلف فيه الناس باختلاف الزمان والمكان والعلوم والمفاهيم وتفسيرها وتأويلها هو محل الاجتهاد ، ولكن من المفترض بأن يكون الاختلاف بما لا يناقض ثوابت الدين المعرَّفة من خلال الآيات المحكمات لأن كل آيةٍ محكمةٍ هى نصٌّ قائمٌ بذاته واجب الاتباع لذاته فضلاً عن أن مجموعهم يعطى دلالةً إضافيةً هى الأخرى واجبةُ الاتباع لذاتها.
يبيَّن القرآن الكريم موقع السنة النبوية المشرف من الرسالة ؛ حيث يقول الله سبحانه وتعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (59) ) [النساء:59]، بمعنى أطيعوا الله، فهو مصدر للتشريع، وأطيعوا الرسول، فهو مصدر للتشريع يوحى إليه، ويكمل هذا المفهوم أنه معصوم من الخطأ (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) )[النجم:1ـ5]، لأن هذه العصمة ضرورية طالما أن له حق التشريع لتفصيل ما جاء فى القرآن الكريم وتقييد مطلقه وبيان مُحكمه (4 ) ، على أن نلاحظ أن الرسول الكريم لم يكن له أن يخرج عما أراد الله منه أن يبلغه (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67) ) [المائدة:67].
أَّمَّا عن موقع السلف الصالح «الصحابة والتابعين وتابعى التابعين من الأئمة والعلماء وأولى الأمر» من القرآن والسنة وإمكان اتباع أعمالهم وأخذ السنن عنهم فالأمر قاطعٌ واضح حيث أطيعوهم طالما أطاعوا الله ورسوله فهم ليسوا مصدرا للتشريع، وفى الشق الثانى من «الآية الكريمة رقم 59 من سورة النساء» المذكورة فى صدر هذا البند نجد أن الأمر شديد الصراحة ولا مجال للالتفاف عليه (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (59) ) أطراف هذه الآية الكريمة أربعة هم الله، والرسول، وأولوا الأمر والمسلمون، وإذا كان الشق الثانى من الآية يتحدث عن تنازع يُرد الأمر فيه إلى الله والرسول، فإن هذا يعنى أن التنازع هنا هو بين أولى الأمر والمسلمين، وأن المرجعية فى من هو على الحق ومن انحرف عنه هو رد الأمر إلى الله ورسوله، وبمنتهى الوضوح أطيعوا الله، فهو مصدر للتشريع، وأطيعوا الرسول، فهو مصدر للتشريع يُوحَى إليه، ويكمل هذا المفهوم أنه معصوم من الخطأ (سورة النجم، آية 1ـ5)، فالسنة النبوية المشرفة ليست إلا وحياً يوحى من الله سبحانه وتعالى إلى رسوله الكريم لتفصيل ما جاء فى القرآن الكريم وتقييد مطلقه ولبيان مُحكمه.
مارس الرسول الكريم حياة البشر (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (110)) [الكهف:110]، فهل كل ما يصدر عنه قد أوحى الله به إليه، أم ترك الله له أن يمارس حياة البشر فيما يخصه من أمورٍ بشرية بينما يوحى الله له ما يشاء فيما يخص أمور «العقيدة والشريعة والعبادات»، وهل أحاط الله رسوله بكل علوم الظواهر الطبيعية والاجتماعية، نذكر فى هذا الشأن ما حدث فى غزوة بدر فقد أجمع المسلمون على أن يثبتوا للعدو إذا أجمع على محاربتهم، لذلك بادروا إلى ماء بدر، ويسر لهم مطرٌ أرسلته السماء مسيرتهم إليه. فلما جاءوا أدنى ماءٍ منها نزل محمدٌ به . وكان الحُبَاب بن المنذر بن الجموح عليماً بالمكان ؛ فلما رأى حيث نزل النبى، قال يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل أمنزلاً أنزلكه الله فليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه، أم هو الرأى والحرب والمكيدة؟ قال محمد: بل هو الرأى والحرب والمكيدة . فقال يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنزلٍ ؛ فانهض بالناس حتى تأتى أدنى ماءٍ من القوم فتنـزل ثم نُغَوِّر ما وراءها من القُلُب، ثم نبنى عليه حوضاً فنملأُه ماءً ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون، ولم يلبث محمد حين رأى صواب ما أشار به الحُباب أن قام ومن معه واتبع رأى صاحبه، معلناً إلى قومه أنه بشرٌ مثلهم، وأن الرأى شورى بينهم، وأنه لا يقطع برأى دونهم، وأنه فى حاجةٍ إلى حسن مشورة صاحب المشورة الحسنة منهم(5 ).
هذه الواقعة وغيرها تدل على أن الوحى فى السنة النبوية المشرفة قد اختص فى الأساس بأمور الدين بعينها والأخذ بالسنة فى ذلك مُلزِم للمسلمين فى كل زمان ومكان، أما غير ذلك فأمورٌ للمسلمين أن يختاروا منها ما يتبعوه إذا أرادوا، ولعل الرسول الكريم بما حدث ببدرٍ هذا قد أراد أن يعلم المسلمين بأن يأخذوا عنه فى الأساس أمور دينهم، أما التقليد لممارساته للأمور البشرية فهو وإن كان صلى الله عليه وسلم معصوماً من الخطأ إلا أنه لا إلزام فيها، ولا شأن للوحى بها.
وعن الصحابة المقرَّبين فقد حرص أبو بكر وعمر ب على إثبات عدم عصمتهم من الخطأ عندما طلب كل منهما فى بدء حكمه التقويم والنصيحة مبينين أنهما غير معصومين من الخطأ، فهذا أبوبكر فى خطبته «إن الله اصطفى محمدا على العالمين وعصمه من الآفات ؛ وإنما أنا متبع ولست بمبتدع ؛ فإن استقمت فتابعونى، وإن زغت فقومونى»( 6)، وهذا عمر «أعينونى على نفسى بالأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر، وإحضارى النصيحة فيما ولانى الله من أمركم»( 7)، وهما أعف الناس عن السلطة والمال العام، بل وأكثر الناس علما بالشريعة الإسلامية، لكنه إعلان للحقوق والواجبات لتعليم من يأت من بعدهم .
من كل ما سبق نستنبط أنه ليس فى الإسلام كهانة ولا كهنوت ولا إمامة ولا مذاهب مستقلة تشرع بما لم يأت به الله ورسوله.
وبخصوص موقع «رسالات الله السابقة» من القرآن الكريم ؛ فإن القرآن الكريم يهيمن على كل الرسالات والكتب السماوية السابقة ويشملها، وهيمنته على الأحكام الإسلامية وكل ما يصدر فى الشأن الإسلامى أولى، وصدق الله العظيم إذ يقول:
(وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنْ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) )[المائدة:48]. بينما ثوابت الأديان السماوية لا تبديل لها عند الله حسب الآية الكريمة (الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64) ) [يونس:64].
فى الآية الكريمة (سورة آل عمران، آية 7) التى تم ذكرها فى صدر هذا البند قد بيَّن الله سبحانه وتعالى (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ (7)) ليس لتوقيف محاولات التأويل والتفسير من العلماء والأئمة والمجتهدين ولكن حتى لا يدَّعى أحدٌ أيَّا كانت مكانته العلمية والفقهية أن تأويله صحيحٌ صحَّةً مطلقة بل اجتهاد إن أصاب له أجران وإن أخطأ له أجرٌ واحد ؛ وكذلك أن نعلم أن تأويل السلف الصالح ليس صحيحاً صحةً مطلقة وليس نهائياً ؛ وإذا أضفنا إلى ذلك تعهد الله سبحانه وتعالى بحفظ نص «القرآن الكريم» (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) ) [الحجر:9] اتضح لنا أن «القرآن الكريم وثيقة» تبين العهد بين الإنسان وربه أتاحها الله لكل أبناء آدم فى كل زمان ومكان حتى يطَّلِع عليها كل فردٍ بنفسه دون وساطة إلى يوم القيامة لتكون حجةً عليه وأن كل فرد مكلَّف ومسئول بأن يقرأ آيات القرآن الكريم ويتفقه فى الدين بنفسه وأن يجتهد فى فهم الآيات المتشابهات مراعياً ظروف الزمان والمكان مع الحفاظ على كل ما جاء فى الآيات المحكمات ؛ وكل إنسان مسئول عن تقاعسه بالانقياد إلى فقهٍ منقول عن أحدٍ من بشرٍ غيره ؛ قد يقرأ رأى الآخرين ولكن لا ينقاد لأحدٍ فهو مسئول عن قراراته (وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً (13) ) [الإسراء:13].
والخلاصة هى:
• أن الإسلام يهيمن على ما جاء قبله من رسالات إلهية ؛
• و أنه قد حَرِصَ أبو بكر وعمر ب على إثبات عدم عصمتهم من الخطأ عندما طلب كل منهما فى بدء حكمه التقويم والنصيحة مبينين أنهما غير معصومين من الخطأ،
• أَّمَّا السلف الصالح «الصحابة والتابعين وتابعى التابعين من الأئمة والعلماء وأولى الأمر» فيأتى موقعهم بعد أبى بكر وعمر ب؛ هم غير معصومين من الخطأ وأعمالهم وأحكامهم وفتاواهم من أعمال البشر وصحيحة فى ظرفٍ معين من الزمان والمكان، وبناءً عليه فإنها كلها يجب أن تخضع للقياس على كل ما جاء من ثوابت القرآن السنة؛ وأن هذه الثوابت يكون جمعها فيما يُمكن تسميته «دستورية القرآن الكريم».
3ـ معرفة الإسلام بين الأصولية والسلفية:
كما تم التعريف فى صدر هذه المقالة فإن الأصولية فى المعرفة هى القراءة المباشرة «للقرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة»؛ أما السلفية فهى التسليم بأن التراث المنقول عن أىٍّ من «السلف الصالح» وهم «الصحابة أو التابعين أو تابعى التابعين» (حتى نهاية القرون الأولى من الهجرة) كله مطابق للمرجعية العليا «للقرآن والسنة» ويكفى النقل والتقليد لأحدٍ من السلف الصالح ليكون المسلم أصوليًّا.
«القرآن الكريم يبين المنهج الشرعى للتعرُّف على الرسالة حيث يبدأ بالأمر بقراءة القرآن فعندما نزل الوحى أول مرة على رسول الله د كانت أول آية هى سورة العلق التى تبدأ بالأمر بقراءة القرآن (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1))[العلق:1]؛ ثم جاء الأمر متواتراً بتدبُّرِ ما فيه (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (82) ) [النساء:82]؛ ( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24))[محمد: 24]؛ وكذلك جاء الأمر متواتراً للناس بأن يسيروا فى الأرض يجمعون الملاحظات الحسِّية ويدركوا ما وراءها من نظريات ومعانٍ ونذكر فى ذلك الآيات التالية: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) [الحج:46]؛ (ُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)) [العنكبوت:20]؛ وأخيراً هذه الخبرات الدنيوية التى أساسها جمع الملاحظات والخبرات الحسية وتراكم العلم البشرى تعضِّدُ كل ما جاء فى الرسالة الإلية من حقائق كونية (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53)) [فصلت:53].
من الفقرة السابقة نعلم أن الاجتهاد فى التعرُّف على الإسلام هو فرض عين على كل مسلم ؛ عليه أن يقرأ القرآن ويتدبَّر ما فيه وأن يجمع الملاحظات والخبرات الحسية الدنيوية بنفسه فهذا هو الطريق إلى إدراك آيات الله فى خلقه وفى قرآنه ؛ قد نستفيد بعلم غيرنا لمساعدتنا على «جمع العلم ومعرفة مضمون الرسالة الإلهية» ولكن إعطاء الوكالة الكاملة إلى الآخرين فى هذا الأمر هو نوعٌ من التقاعس عن تحمل المسئولية وتنازلٍ عن حقٍّ أصيل للمسلمين فى مراجعة أولى الأمر كما جاء فى «سورة النساء، آية 59» المذكورة فى صدر هذا البند؛ فضلاً عن أن الله قد نهى عن التسليم المطلق للبشر فى النقل عنهم فى موضوعات الرسالة دون فحصٍ وبحثٍ وتمحيص كما جاء فى محكم الآيات(اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) ) [التوبة 31] لأن النقل عن السلف الصالح (وهم بشر) يعنى ضمناً تفويضهم فى حق التشريع الإسلامى وهذا يتناقض تماماً مع كل ما تم بيانه فى بداية هذا البند عن «سورة النساء، آية 59»؛ وبالتالى فإن من أراد أن يكون أصولياً فعليه أن يجتهد بنفسه فى قراءة القرآن وتدبر أمور الرسالة بنفسه مع الاستفادة بعلم السابقين؛ أما التسليم وترك الاجتهاد للسلف الصالح والاكتفاء بالنقل عن أحدٍ منهم فليس من أصول الإسلام فى شئ فالعصمة من الخطأ ليست لأحدٍ من البشر إلا رسول الله محمد.
الأسباب التى حملت السابقين على التوجه السلفى فى جمع المعرفة الإسلامية قد تكون مقبولةً ومنطقيةً فى ظروف القرون الوسطى حيث الوسائل التعليمية ووسائط تخزين المعلومات شديدة الندرة فقد كانت الطريقة الوحيدة للنسخ هى الكتابة اليدوية مما يجعل الحصول على نسخة كاملة من «القرآن الكريم» مسألة لا تتوفر إلا لخاصة الخاصة من الملوك والأمراء بينما يعتمد العلماء الحفظ لآياته وسيلةً وحيدة للتعرف عليه فإذا أضفنا إلى ذلك الحاجة إلى وضع السيرة والسنة والعلوم الانسانية والوضعية فى متناول المشتغلين بالعلم اتضحت الصعوبة إن لم تكن الاستحالة التى يعانيها العامة فى جمع العلم مما يجعل من المنطقى أن يعتمد الناس على الخاصة من الفقهاء فى أخذ العلم عنهم ؛ وبذلك كان التوجه السلفى لدى عامة المسلمين توجهاً منطقياً للتعرف على الرسالة فى ظروف القرون الوسطى.
هذا التفويض فى إنابة العلماء فى التعرف على الرسالة ثم النقل الكامل عنهم دون المراجعة غير منطقى اليوم فى القرن الواحد والعشرين فقد تم اختراع الطباعة الآلية فى القرن السابع عشر ويستطيع أى مسلم أن يحصل على نسخة كاملة من القرآن الكريم مقابل تكاليف زهيدة وربما دون أن يتكلف شيئاً على الاطلاق إن أراد «فهى توزَّع فى دور العبادة» وكذلك تتوفر نسخ من السيرة والسنة ومعاجم القرآن الكريم مُبَوَّبَةً آياته حسب الموضوعات وبصفةٍ عامة هناك وفرة من المراجع وأدوات البحث متاحةٍ لدى عامة الناس ؛ فإذا أضفنا الحاسب الآلى بعد الطباعة والتيسيرات الهائلة التى يتيحها ثم الشبكة العنكبوتية للمعلومات (الانترنت) اتضح أن الاعتماد على الغير فى عدم تحمُّل المسلم مسئولية قراءته المباشرة للرسالة يُعتبر نوعاً من التواكل والهروب من المسئولية.
4 – دستورية القرآن الكريم
القاعدة التشريعية (أو القانونية): هى قاعدة عامة مجردة تنظم السلوك الاجتماعى، وبالتالى لابد من توفر الشروط الثلاثة الآساس لجدواها؛ وهى القابلية للتطبيق وإلا فإنها لن تنجح فى تنظيم شئ ، وتحقيق المنفعة للبشر حتى يبحثوا عن تطبيقها بدلاً من أن يبحثوا عن سُبُل التحايل عليها ، وكذلك من المطلوب أن تتصف بتوافقها مع الثقافة السائدة حتى يتفهم الناس التطبيق والهدف من التشريع.
حتى القرن الخامس عشر الميلادى كانت أكثر النظم التشريعية حداثةً تقوم على أساس سمو القوانين وسيادتها على ما تحتها من تشريعات وفتاوى وسوابق قضائية؛ أول دستور مكتوب فى تاريخ البشرية هو الدستور الأمريكى عام 1776 ميلادية حيث تمت كتابته ليضع إطاراً مُحكماً للتشريعات فى الدولة الأمريكية الناشئة بحيث تتسق كلها على فكرٍ واحدٍ ومقاصد واحدة، وإلا تشتت التشريعات والقوانين وتفككت أوصال الدولة، ولا يُسمح لأحدٍ أيٍّا كان موقعه بأن يتجاوزه بما يعنى إقامة دولة القانون، مكملاً لهذا الدستور المكتوب ظهر فقه الرقابة الدستورية على التشريعات والآليات المصاحبة له ؛ وهكذا أصبح النظام الدستورى الحديث يقوم على أساس سمو الدساتير وتدرُّج القوانين بمستوياتها من القوانين ثم اللوائح والأوامر التنفيذية والإجرائية ثم التطبيقات الناجحة المُعترف بصحتها من فتاوى وسوابق قضائية حيث تؤخذ مرجعاً فى الظروف التماثلة .
لم ينشأ «علم أصول الفقه» ولا كتابة «الفقه» بطريقةٍ منهجية إلا فى القرن الثانى الهجرى وكان ذلك على يد الأئمة الأربعة المشهورين مالك والشافعى وأبوحنيفة وابن حنبل؛ ولذلك فإن «علم أصول الفقه» المنقول عن السلف الصالح قد نظر إلى القرآن الكريم باعتباره مصدراً لنصوص قانونية تنظم أعمالاً جزئية بعينها وتضع عقوبات (حدود) لمن يتجاوزها ولم يظهر فيه أى منهجية لإدراك دستورية القرآن الكريم بالمفهوم الحديث للدستورية ، «دستورية القرآن الكريم» تُعنى «بالإطار العام للمعاملات الإسلامية» الذى يحتوى بداخله كل ما هو شرعى ويقع خارجه كل ما هو غير شرعى فنـطبِّـق معايير «الرقابة الدستورية» على أى فتوى أو حكم ليس له نص فى القرآن الكريم أو السنة النبوية المشرفة فنعرف مدى شرعيته ، وفى هذا الشأن يجب أن يكون هذا الإطار قطعى النص قطعى الدلالة جامعاً مانعاً يمنع الخلط بين «ما هو شرعى وما هو غير شرعى»؛ صالحاً لكل زمان ومكان لأن الرسالة السماوية نزلت لكل البشر بلا حدود للزمان أو المكان.
يُبنى الإطار الدستورى للقرآن الكريم على كل ما جاء فى الرسالة السماوية قطعى النص قطعى الدلالة ؛ كل القرآن الكريم قطعى النص ولكن آياته تنقسم إلى قسمين رئيسين بحسب ما جاء فى القرآن الكريم نفسه (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ (7)) [آل عمران:7 ]، الآيات المحكمات هن أم الكتاب حيث تنبع منهن المبادئ والأحكام الآساس فى الدين الإسلامى عقيدةٌ وشريعة وعبادات ، هذا بينما تشير الآيات المتشابهات لما يُمكن أن يختلف فيه الناس باختلاف الزمان والمكان والعلوم والمفاهيم والتفاصيل التطبيقية ، أما السنة النبوية المشرفة فهى ليست إلا وحياً يوحى من الله سبحانه وتعالى إلى رسوله الكريم لتفصيل ما جاء فى القرآن الكريم وتقييد مطلقه ولبيان مُحكمه وبالتالى فإن كل ما جاءنا متواتراً عن الرسول الكريم فى موضوعات الرسالة الإلهية «العقيدة والشريعة والعبادات» فهو ملزم وجزء لا يتجزأ من الرسالة الإلهية.
5ـ الإطار العام للمعاملات الإسلامية
الإطار العام للمعاملات الإسلامية أساساته هى العدل والرحمة والإحسان وتأدية الأمانات إلى أهلها، وإذا حكموا بين الناس أن يحكموا بالعدل (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) ) [النحل:90]، (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً (58) ) [النساء:58]. وبخصوص السلطة والنفوذ فقد حرم الله البغى بغير الحق (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (33) )[الأعراف:33]، أما بخصوص التعامل فى الأموال والتبادل الاقتصادى فقد حرم الله أكل أموال الناس بالباطل (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً (29) ) [النساء:29]، وحرم التلاعب فى الكيل والميزان وبخس الناس أشياءهم لأكل حقوقهم فى تبادل السلع الاقتصادية (وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85)) [هود:85]، وحرم الإدلاء بأموال الناس بالباطل إلى الحكام (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)) [البقرة:188]، وأوجب أيضا المحاسبة بين الناس على الأموال حفاظاً على حقوق العباد (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلْ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282) ) [البقرة:282].
أما آداب التقاضى وواجباته فهى القسط فى الشهادة (وَإِنْ كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تجِدُوا كَاتِباً فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)) [البقرة:283]، (وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) ) [الأنعام:152]، (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمْ الأَنْعَامُ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) ) [الحج:30]، (وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً (72) ) [الفرقان:72]، أما فى القصاص فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) ) [النحل:126]( 8).
وهكذا وضع الله حدوداً للتعامل لا يتعداها أحدٌ مسلماً أو غير مسلم، مثل جرائم القتل أو السرقة أو الزنا والاعتداء على الأنساب دون إقامة الحدود التى أوضحها الله سبحانه وتعالى فى شرعه الحنيف، فضلاً عما هو محرم مما يندرج تحت صور البغى والتعدى على الآخرين، فإذا اختلفوا فإن آساس التقاضى العادل وأركانه يرعاها الله بنفسه فى آيات محكمات ويتوعد الخارج عن هذه الآساس أشد العذاب، حيث تقع كل هذه المعاملات على أساس متين من وجوب القسط فى الشهادة وعدم كتمها وتحريم قول الزور، وتلك أهم آساس إقامة العدل فى جميع المعاملات بين الأفراد وفى ساحات القضاء بل تكفي وحدها لإقامة مجتمع العدل والاستقامة.
6ـ العلاقة الإسلامية الشرعية بين الحكام والمحكومين( 9):
المبادئ العامة للمعاملات الإسلامية كُلٌّ لا يتجزأ ولو أخذنا واحدة منها بصدقٍ لقادتنا لاتباع باقى قواعدها ولو خرقنا إحداها لخرقنا الآخرين، ولو طبقناها على معايير وخصائص ومؤشرات العلاقة بين الحكام والمحكومين فى السنة النبوية الشريفة نجد أنها هى نفسها التى اتبعها الخلفاء الراشدون فى الحكم والإدارة، ونجد أن خصائصها وآساسها كالآتى:
العدل والمساواة والرحمة فعلى الرغم من مكانة الرسول الكريم العالية بين أصحابه إلا أنه لم يختص نفسه ولا أسرته بأبهة سلطة ولا ترف مال (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (29) ) [الأحزاب:28ـ29].
الشورى، أمر الله سبحانه وتعالى بالشورى كما جاء فى الآيتين الكريمتين (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) ) [آل عمران:159] و(وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38) )[الشورى:38]، وأقل ما يعنيه ذلك هو حرية الرأى وألا يُضار أحدٌ من اختلافه فى الرأى مع أصحاب السلطة والنفوذ.
التعفف عن التمتع بأبهة السلطة أو اكتساب النفوذ الاجتماعي أو التربح منها، كان الرسول الكريم عفيفاً عن السلطة والمال العام وكذلك حرم الله على أزواجه إن كُنّ يردن الله ورسوله فليس لهم إلا أن يكونوا مثله (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (29) ) [الأحزاب:28ـ29].
السلطة أمانة لا تُستخدم لغير الغرض التى فُوضت من أجله، والاعتراف للرعية بحقها فى محاسبة الحاكم ومراجعته على السلطة العامة وعلى المال العام وهذا واضحٌ من خطبتى استهلال الحكم من أبى بكرٍ( 10). وعمر(11 ) بطلب التقويم والنصيحة.، وقصة المرأة التى راجعت عمر بن الخطاب على مهور النساء، وقصة الرجل الذى حاسب عمر على طول حُلّته .
و أخيراً رد المظالم قبل مغادرة مقعد السلطة بالوفاة أو بغير ذلك وهذا واضحٌ من ذكر الخبر عن مرض رسول الله الذى توفى فيه(12 )، ومنه نأخذ الدروس والعبر، وكذلك فعل خلفاؤه الراشدون وعلى رأسهم أبوبكر وعمر عند الوفاة ومحاسبة كلٍّ منهم لنفسه وسؤالهم عمن جلد له ظهراً أو شتم له عِرضاً أو كان له درهماً فى ذمته .
وإحكاماً للبيان، فصَّل القرآن الكريم نقيض النظام الإسلامى فى الحكم والإدارة، وهو النظام الفرعونى( 13).
ونؤكد على أن الله سبحانه وتعالى قد أمر بأن يكون أمر المسلمين شورى بينهم، بل وأمر الرسول الكريم وهو المعصوم من الخطأ بأن يشاورهم فى الأمر، (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) ) [آل عمران:159] و(وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38) )[الشورى:38].
ونؤكد على أن القانون فى دولة الخلفاء الراشدين فى صدر الإسلام كان يُطبق على الحكام وأسرهم والمقربين منهم باعتباره قواعد عامة يخضع لأحكامها كل المواطنين فى الدولة كما هو متواتر فى كل المراجع( 14).
على نحو ما سبق بيانه تلخيص دستورية القرآن الكريم يقع فى ركنين رئيسين، هما: تقرير الحقوق الطبيعية للبشر، وهى فى هذا الشأن تسبق وتسمو على الدساتير التى يكتبها البشر، والركن الثانى هو الأمر بدستورية الدولة (بمعنى تطبيق القواعد التشريعية والقانونية العامة وأحكامهم بالتساوى على الحكام تماماً كما تطبق على المحكومين) ؛ والركنان لا ينفصلان باعتبار أن الحقوق الطبيعية للبشر التى بيَّنها القرآن الكريم فى آياته المحكمات لا يُمكن أن ينعم بها المحكومون بغير أن يسِّلم الحكام لهم بهذه الحقوق، حيث لا يوجد فى الدول المستبدة التى يستثنى فيها الحكام أنفسهم من المساءلة القانونية أى احترام لهذه الحقوق الطبيعية وخاصةً أن فيها حقوق تتصل بالمشاركة السياسية فى السلطة وحرية الرأى (الشورى) وأخرى تتصل بالحق فى المحاكمة العادلة وضوابطها.
الإطار الدستورى النابع من القرآن الكريم يبين الحقوق الطبعية للبشر من حيث هم بشر ويشمل كل الحقوق المنصوص عليها فى «إعلان حقوق الإنسان الصادر عن الأمم المتحدة عام 1948م»( 15),(16 ).
7ـ دستورية القرآن الكريم وعلم أصول الفقه
اشتدت الحاجة إلى وضع الضوابط حتى لا يخرج استنباط الفقه عن ثوابت ومقاصد التشريع الإسلامى كما جاءت فى الرسالة السماوية المكونة من القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة وقد تم تسمية هذه الضوابط الخاصة بوضع قواعد استنباط الفقه الإسلامى الصحيح باسم «علم أصول الفقه»، وكان أول من تصدى إلى وضع هذه الضوابط هو الإمام الشافعى ط فى القرن الثانى الهجرى فى مؤلفه العظيم «الرسالة»، حيث بين الإمام الشافعى أن مصادر التشريع أربعة بالترتيب الآتى: القرآن الكريم، السنة النبوية المشرفة، الإجماع، ثم الاجتهاد( 17).
على الرغم من مرور إثنى عشر قرناً على تأليف «الرسالة»، إلا أن مصادر التشريع الأربعة لم يطرأ عليها أى تغيير ، ويحظى الاجتهاد بالاهتمام الأكبر من الباحثين فى هذا العلم لوضع مناهجه وضوابطه ولم تخرج فى أغلبها عن القياس على الأشباه والأمثال وكيفية الاختيار والتفضيل بينها للأخذ بالأكثر قرباً والأقوى سنداً مما سبق من الأحكام .
فى ما سبق تم إثبات «دستورية القرآن الكريم»( 18) (بطبيعة تكوينه وبيانه لإطارٍ مُحكم من المبادئ التشريعية) وتم بيان موقع كل ذلك من الدساتير الوضعية التى تهيمن على القوانين والتشريعات فى الدول الحديثة، حيث يدخل القرآن الكريم فى صلب تشريع الدولة الإسلامية الحديثة سابقاً للدساتير الوضعية باعتباره التشريع الإلهى للحقوق الطبيعية للإنسان من حيث هو إنسان(19 )، ولكى يكتمل العمل فى موضوع «دستورية القرآن الكريم» نبيِّن موقع «الإطارى الدستورى العام للتشريع الإسلامى ومقاصده» من «علم أصول الفقه» لكى يصبح هذا الإطار جزءاً أصيلاً من ضوابط استنباط الفقه الإسلامى؛ وبذلك يتم ضبط الدساتير الوضعية والأحكام الفقهية فى تناسقٍ مع «دستورية القرآن الكريم»(20 ).
«علم أصول الفقه التقليدى» ينظر إلى ما فى «القرآن الكريم والسنة» من المبادئ قطعية النص قطعية الدلالة باعتبارها مبادئ تشريعية على مستوى موضوعات القانون الفرعية الجزئية «مثل أحكام الأحوال الشخصية، والمدنية، والجنائية، والمرافعات، وعلاقة الحاكم بالمحكوم، والأحكام الدولية وغير ذلك»، حيث تنظم كلٌّ منها موضوعاً جزئياً منفصلاً ولا يربطها جميعاً رباطٌ جامع مانع، وإذا وُجد هذا الرابط تم استنباطه بالاستقراء من الفرع إلى الكل مثلما حدث فى استنباطه لمقاصد المكلَّفين الخمسة التقليدية (حفظ النفس والعقل والدين والعِرض والمال)، وهو رباط لا يمثل إطاراً مقفلاً، وبالتالى لا يعطى تعريفاً جامعاً مانعاً للأعمال الشرعية وهو الدور المطلوب من الدساتير فى النظم التشريعية الحديثة ؛ دستورية القرآن الكريم تعنى الاعتراف بوجود إطار عام للمعاملات الإسلامية مكون من الآيات المحكمات اللاتى هن أم الكتاب وثوابت السنة النبوية المتواترة المتوافقة مع هذا الإطار والداعمة له وهى تشكل فئة مقفلة من الأعمال الشرعية لا يتداخل معها شئٌ يحرِّمُه الله ورسوله واتخاذه إطاراً دستورياً للتشريع الإسلامى؛ وبالتالى فإن الاعتراف بهذا الإطار جزءٌ من ضوابط علم أصول الفقه يجعل من الممكن أن يقوم على أساسه عمل الرقابة الدستورية على التشريعات والأحكام فى الموضوعات الجزئية والتطبيقات الفقهية ويفتح باباً واسعاً للحكم الشرعى على المستجدات فى الحياة المعاصرة فى القرن الواحد والعشرين.
8 – مشكلة “التراث والمعاصرة” بين الأصولية والسلفية
المنهج الرسمى للمعرفة الاسلامى المعتمد فى الدول العربية والاسلامية هو «النقل عن السلف الصالح» بما يمكن أن يكون قد عُرِفَ عنهم من «قولٍ أو فعلٍ أو مذهب» ثم المقارنة بين ما تم نقله والتحرك فى دائرته للوصول إلى الحكم منقولاً عن أحدهم لاكتساب العلم الشرعى الإسلامى؛ وهذا يعنى أن التوجه الرسمى العام لدى الدوائر الدينية والتعليمية والإعلامية هو توجه سلفى؛ وبالتالى فإن التوجه لدى عامة الشعب هو توجه سلفى أيضاً.
لم تكن هناك مشكلة بين الاقتداء بالسلف الصالح فى كل نواحى والحياة التى يمارسها المسلمون حتى القرن الخامس عشر الميلادى وما بعده ؛ وحتى ذلك الحين كانت السلفية هى الأصولية. لأسباب تاريخية متعددة انقطع الاتصال الحضارى مع الغرب أثناء عصر النهضة الأوروبى حتى بدايات القرن التاسع عشر حيث عادت بعض دول الغرب الأوروبى غازيةً إلى الشرق العربى؛ عندها أدرك المسلمون حجم ما فاتهم من أسباب النهضة فى «السياسة والاقتصاد والاجتماع والتنقل والاتصال» فاندفعوا إلى النقل عن الغرب المتحضر فى كل الأمور الدنيوية من علم وتكنولوجيا وطرق حياة؛ عندئذٍ أدرك المسلمون أن «التراث الإسلامى والفقه المنقول جزءٌ منه» ليس به أى أحكام سابقة يمكن القياس عليها وتسمح بنقل أسباب التقدم «السياسى والاقتصادى والاجتماعى وأحياناً العلمى وغير ذلك من جوانب الحياة البشرية»؛ وأصبحت هناك مشكلة فى التوفيق بين التراث (مستودع العلم السلفى) والمعاصرة.
الرسالة «القرآن والسنة» تحتوى على موضوعات «العقيدة والشريعة والعبادات»؛ العلوم الحديثة تعمق إدراك المسلم لصحة الاعتقاد قى وجود الخالق العليم الحكيم المهيمن( 21) ؛ أما العبادات (الصلاة والصوم وغير ذلك) فلا يوجد مجال للاجتهاد فيها وحىٌ من الله سبحانه وتعالى إلى رسوله وكل المسلمين قديماً وحديثاً ينقلون عنه حتى يرث الله الأرض ومن عليها ؛ وتبقى الشريعة هى محور الخلاف بين الفقه المنقول الذى لم يعرف المشاكل المعاصرة ولا أنماط الحياة المعاصرة وبالتالى فإن البحث فى الأشباه والأمثال من الوقائع السابقة التى التى حكم فيها السلف الصالح لا يسعف أحداً بأى حلول لهذه المشاكل الفقهية وبالتالى فإن قلب «مشكلة التراث والمعاصرة» يكمن فى موضوعات السياسة والاقتصاد والاجتماع.
بناءً على ما سبق فإن كل ما هو قطعى النص قطعى الدلالة من عنصرى الرسالة «القرآن والسنة» قد قد عرَّف اطاراً من المبادئ الدستورية المقصد منها تحقيق «الديموقراطية وحقوق الانسان»؛ فيما سبق من هذه المقالة تم بيان هذا الإطار وهذه المقاصد وكذلك تم بيان موقعهما من الدساتير الوضعية ومن علم أصول الفقه وبذلك يتم إدخالهما فى نسيج التشريع الإسلامى ، وبذلك يستوجب تنظيم السلوك الاجتماعى على الأسس الإسلامية عامةً أن نأخذ بالعناصر الآتية فى الاعتبار:
- الإطار الدستورى الاسلامى
- المقاصد التشريعية التى تهدف الرسالة “القرآن والسنة” إلى تحقيقها
- فقه الواقع
لقد غاب عن الفقه السلفى «الإطار الدستورى» لأنه لم يكن معروفاً وقت نشأة هذا الفقه ؛ وأما عن مقاصد التشريع التى بينها الفقه السلفى فقد كانت فى غاية البساطة والعمومية إلى درجةٍ تكاد ألا تضع قيوداً واضحةً على التشريع ؛ فقد كان مراد الله من خلقه يمكن أن يتلخص في عبادة الله وعمارة الدنيا (لأن كل التشريعات الوضعية تهدف إلى عمارة الأرض)، وتسمى هذه مقاصد الشارع (وهو الله سبحانه وتعالى)، ومنها تم استخلاص مقاصد المكلفين، وهي التي عُرِفت «بالمقاصد الخمسة»، وتمثل ما يُمكن أن يُطلق عليه النظام العام والآداب وهي: حفظ النفس والعقل والدين والعِرض (كرامة الإنسان) والمال (الملك)( 22).
من وجهة النظر الأصولية المُعَرَّفة فى هذا البحث (القراءة المباشرة للقرآن والسنة) سنجد أن القرآن الكريم لم يبين نظاماً سياسياً بعينه يكون وحدة النظام السياسى الشرعى الذى يقيمه المسلمون فى دولتهم؛ وكذلك وبنفس المنطق لم يبين القرآن الكريم نظاماً اقتصادياً أو اجتماعياً بعينه يكون وحده الشرعى؛ ولكن هناك مبادئ دستورية ومقاصد تشريعية منظِّمة تبين بوضوح الحقوق والواجبات الشرعية لأطراف العلاقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية بينما يتغير النظام السياسى والاقتصادى وكذلك الآليات بتغير الزمان والمكان والتكنولوجيات بما يمكن تسميته بفقه الواقع.
حديثاً وبعد الكشف عن الإطار الدستورى الذى يُبيِّنَه القرآن الكريم( 23)،(24) ندرك حدوداً واضحة تفصل بين الحلال والحرام فيما لم يأت به نص قطعى ، وتشتد الحاجة إلى هذا الإطار الدستورى حيثما لا يوجد ما يُقاس عليه فى التراث المنقول عن السلف الصالح ؛ بهذا الإطار الدستورى والمقاصد التشريعية الواضحة التى تهدف إلى احترام حقوق الإنسان بأبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية ؛ أما السياسية فأساسها العقد الاجتماعى فى «دولة الخلافة الراشدة» وهو «السلطة مقابل المحاسبة» ويعنى فى العصر الحديث مبدأ «لا سلطة بدون مسئولية ولا مسئولية بدون سلطة؛ وكذلك السلطة مقابل المحاسبة التى تستغرق كل جوانبها» بما يعنى تنظيم المجتمع على «فائض سلطة يساوى الصفر»(25) ؛ وحقوق الإنسان الاقتصادية فى موضوعين رئيسين الأول هو العدل فى تبادل السلع والخدمات والمعاملات والثانى هو الضمان الاجتماعى لحصول الفئات الضعيفة والعاجزة على حد الكفاف الكريم (ضرورات الحياة الكريمة)؛ أما العدل فى تبادل السلع والخدمات والمعاملات المبنية فيكون فى توفر شروط التراضى وعدم الخداع وفى هذا الشأن نؤكد على تحريم الربا حيث ينطوى على مغالطة شديدة الخبث تتمثل فى الحصول على «فائض القيمة» مع عدم الاشتراك فى مخاطر السوق مما يضمن للمُـقرضين بالربا الاستحواز على كل رأس المال العامل فى السوق بعد مدة كافية من الزمن(26) بما يعنى احتكارهم للثروة دون تقديم عمل نافع للمجتمع وهو قمة السرقة بأكثر الأساليب نعومةً وخداعاً؛ أما الضمان الاجتماعى فهو «ضمان حياة كريمة لكل إنسان من حيث هو إنسان وهذه الاحتياجات تشمل الملبس والمأكل والمسكن والخدمات الصحية والتعليم»؛ وحقوق الإنسان الاجتماعية بمعناها الشامل فى المساواة بين كل البشر مع حرية الاجتماع وحرية التنقل ومراعاة الاحتياجات النفسية والخصائص الطبعية للرجل والمرأة والطفل والشيخ وهى كلها الاحتياجات ذات صفة الاستدامة ؛ مع ملاحظة أن النظام الاجتماعى الأساس هو الزواج بين الرجل والمرأة ولا مجال لأى علاقات جنسية خارجه.
المنهج الأصولى الذى تم بيانه فى هذه المقالة يتبع الإطار الدستورى للقرآن الكريم؛ هذا المنهج يوحِّد المسلمين فى القرن الواحد والعشرين على نهج النبوة فى الحكم والإدارة وهو نفس ما اتبع الخلفاء الراشدون حيث العقد الاجتماعى فى الحكم والإدارة هو «الطاعة مقابل المحاسبة»؛ بينما المنهج السلفى يفرِّق المسلمين إلى اتباع كل الفرق التى ظهرت فى بلاد السلمين من بعد أحداث الفتنة الكبرى وهدم الخلافة الراشدة (عام 40 هجرية) حيث الفصيلين الكبيرين «السنة والشيعة» وما تفرع عنهما من شظايا الفصائل(27).
من كل ما سبق يتبيَّن أن هناك فروقاً جوهرية بين «التوجه السلفى لاستنباط المعرفة» و«القراءة المباشرة» لعنصرى الرسالة «القرآن والسنة»؛ لنستنبط فى النهاية أنه إذا كانت هناك مشكلة بين «التراث والمعاصرة» فإنه لا مشكلة على الإطلاق بين «الرسالة والمعاصرة».
9 – فى تطبيق الشريعة الإسلامية فى القرن الواحد والعشرين
أولاً: الإطار العام لدستورية القرآن الكريم يمثل مبادئ فوق دستورية تسبق الدساتير الوضعية فى الدولة الإسلامية الشرعية ، بما يعنى كتابة دستور حديث يقرر الحقوق الطبيعية للبشر جميعاً يحقق نظام الدولة فيه العقد الإجتماعى المستقر فى دولة الخلافة وهو «الطاعة مقابل المحاسبة» وهذا يستوجب الأخذ بالنظم السياسية الحديثة القائمة على الفصل بين السلطات وحق حرية تكوين الأحزاب بما فيها الممارسات الخاصة بالانتخابات بالمعايير العالمية لآليات الديموقراطية الحديثة، وأن القصد العام من الدستور هو تحقيق الديموقراطية بمعنى حق الشعب فى اختيار الحاكم ومحاسبته وحقوق الإنسان وخاصةً الفئات الضعيفة فى الحصول على الحاجات الأساسية الكريمة فى المأكل والملبس والسكن والتعليم والصحة.
ثانياً: فى مستوى التقنين للحدود التى جاءت فى الشريعة الإسلامية مذكورةً فى آياتٍ محكمات وسنةٍ متواترة يجب الأخذ فى الاعتبار أن «القانون هو بالتعريف: قاعدة عامة مجردة تنظم السلوك الاجتماعى»(28) بما يعنى أن على من يعمل على تنظيم الواقع عن طريق وضع القيود التنظيمية القانونية أن يكون مدركاً أشد الإدراك لطبيعة الواقع الذى ينظمة وفيزيقا العوامل المؤثرة فيه ؛ وإلا أدت القاعدة التنظيمية (القانونية) إلى غير ما قصد المشرع ، وعليه فإن فلسفة التقنين الوضعى المستند على الشريعة الإسلامية يجب أن تحافظ على الثوابت الآتية:
- أن يقع التشريع على المستوى القانونى داخل المبادئ الإطارية للمعاملات الإسلامية فى العدل والمساواة وأن تحقق «الديموقراطية وحقوق الإنسان»، وإلا يُطبق عليه عقوبة الامتناع أو الإلغاء .
- أن يُجرِّم التشريع فى الدولة ما جرَّمه الله وأن يحلَّ ما أحلَّه الله .
- أخيراً فى موضوع «حجم العقوبة ونوعيتها» فيما ذُكِرَ فى آياتٍ محكمات وسنةٍ متواترة؛ فإنه يُمكن أن يختلف التشريع فى الدولة الإسلامية الحديثة عمَّا كان عليه الأمر وارداً فى النص القرآنى يوم نزول الرسالة الإسلامية فى القرن السابع الميلادى بشرط أن يُعطى نفس الأثر النفسى والاجتماعى المقصود من العقوبة على من يعيشون ظروف الدولة فى القرن الواحد والعشرين وما بعده ، أى يمكن الاختلاف فى «حجم العقوبة ونوعيتها» بشرط المحافظة على فلسفة العقوبة وأثرها كما جاءت فى صدر الإسلام؛ مع ملاحظة أن العقوبة المذكورة فى القوانين تكون هى العقوبة القصوى وترتبط بحجم الجريمة ولكن دائما هناك تفويض للقاضى بإمكان تخفيف العقوبة إذا كانت هناك أسباب تستوجب التخفيف ومنها السلام الاجتماعى وفقه الواقع ؛ وسحب حق تعديل الحد الأقصى للعقوبة من القاضى الفرد إلى أهل الحل والعقد فى موضوع التشريع (المجالس النيابية المنتخبة فى الدول الديموقراطية) قد يكون مقبولاً بشرط أن يتحرى العدل والواقعية والسلام الاجتماعى باعتبارها المقاصد العليا للتشريع وألا يحرِّم حلالاً أو يحل حراماً.
بالأخذ بهذه القواعد الثلاث على مستوى التشريع للقوانين فى القرن الواحد والعشرين يمكن أن يتم «تنظيم السلوك الاجتماعى» على نفس ما أراد الله له أن يكون.
10– الخلاصة
الأصولية هى محاولة التطابق فى كل المفاهيم والأعمال مع ما جاء فى «القرآن والسنة» من «عقيدة وشريعة وعبادات»؛ أى باصطلاحات المنطق الصورى «تحصيل حاصل» لما جاء فى الرسالة الإلهية «القرآن والسنة».
السلفية هى فى حقيقتها منهاج للتعرف على مضمون أصل الرسالة «القرآن والسنة» بأخذ المعرفة عـن السابقين من أسلافنا الصالحين دون تفرقةٍ بين أحدٍ منهم وليست مذهباً فقهيا بعينه؛ إذن السلفية هى فى حقيقة الأمر تهدف إلى الأصولية من خلال مُسلَّمة مضمونها أن التراث المنقول عن أىٍّ من «السلف الصالح» وهم «الصحابة أو التابعين أو تابعى التابعين» (حتى نهاية القرون الأولى من الهجرة) كله مطابق للمرجعية العليا «للقرآن والسنة»؛ وأن أحكامهم قد أصابت الأصول فى «القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة» صواباً مطلقاً؛ وبالتالى فإن اتباع التراث المأخوذ عنهم هو المرجع الأصولى الذى يقول أصحابه بأننا إن أصبناه وتفقهنا فيه فهو يغنينا عن التدبُّر بأنفسنا فى «القرآن والسنة»؛ وهذا هو الموقف الشائع فى الأوساط الرسمية الحكومية «الفقهية والتشريعية والتعليمية والإعلامية» كما هو ظاهر فى حديث فضيلة الشيخ على جمعة (مفتى الديار المصرية) فى جريدة الأهرام المصرية(29) الذى تم ذكره فى مقدمة هذا البحث.
فى العصر الحديث يشيع لدى كثيرٍ من المراقبين للشأن الإسلامى تسمية السلفيين بالأصوليين باعتبار أن المدرسة المعرفية الإسلامية الوحيدة فى عصرنا هذا التى تستنبط أحكام الفقه الإسلامى فى «العقيدة والشريعة والعبادات» على مبدأ الالتزام الدقيق بأن يكون الاستنباط «تحصيل حاصل» لما جاء فى الرسالة الإلهية «القرآن والسنة» هو المدرسة السلفية وأن كل محاولات الاجتهاد لإزالة المشاكل الفقهية بين «التراث والمعاصرة» تمثل وجهات نظر حديثة فى قضايا جزئية تستند فى أغلبها إلى الاستناد على اجتهادات السابقين مع انتقاء مبدأ فقهى أو أكثر من المبادئ الفقهية وإعطائها أوزان نسبية تعطيها ثقل رئيس فى الحكم النهائى فى موضوعاتٍ بعينها ؛ مثالٌ لذلك الاستناد على المبادئ الفقهية التى تستوجب الواقعية وإزالة الحرج وتغليب المصالح أو إبراز واقعةٍ خاصة فى السنة لم تتكرر للتعميم فى موضوعٍ خاص؛ والنتيجة النهائية لكل محاولات تحديث الفقه بهذه الطرق هو فقه يستند على أمور تحتمل الخلاف ولا ينتهى الجدل بشأنها وأغلبها يقوم على مراجعات فقهية تستند على فقه منقول عن التراث؛ من أمثلة ذلك فى الفقه المعاصر الجدل فى شرعية خُلع المرأة لزوجها أو شرعية فوائد البنوك.
هذه المقالة تمثل مقدمة الهدف منها «التأسيس لفقه أصولى حديث» يستند استناداً مطلقاً على «القرآن والسنة» منهاجاً وفقهاً ؛ وقد تم بيان تفاصيل هذا المنهاج فى مقالاتٍ علمية منشورة تم ذكر بعضها فى مراجع هذا البحث؛ وفى هذه المقالة تم بيان أوجه القصور فى منهج المعرفة السلفى مقابل الأخذ بدستورية القرآن الكريم وبالجديد فى الفكر الإنسانى فى الموضوعات السياسية والاجتماعية المرتبطة بالديموقراطية وآلياتها .
ففى المنهاج تم الالتزام من البداية على عنصرى الرسالة القادمين إلى أهل الأرض بوحى السماء (القرآن الكريم وصحيح السنة النبوية المشرفة) ولكن المنهاج يختلف عن «علم أصول الفقه» التراثى فى نظرته إلى الآيات المحكمات اللاتى هن أم الكتاب (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ (7)) (سورة آل عمران، آية 7) فقد أبقى السابقون «الآيات المحكمات» متفرقات حيث لا حكم فيما فيه نص مُحْكَم ويكون الاجتهاد فى غير ذلك سواءٌ يشمله نص متشابه يحتمل التأويلات المختلفة أو لم يأت فى شأنه نصٌّ من القرآن والسنة ولكن المنهج الذى بيَّناه يُمكن أن «يؤسس لفقهٍ أصولىٍّ حديث» حيث يقوم على جمع كل ما هو «قطعى النص قطعى الدلالة» من عنصرى الرسالة الإلهية «القرآن والسنة» فإذا به يبين إطاراً دستورياً بالمعنى الصحيح للإطار الدستورى فى النظم التشريعية الحديثة؛ وهذا الإطار الدستورى للقرآن الكريم يقع بداخله كل ما هو شرعى ويقع خارجه كل ما هو غير شرعى وتحرسه الحدود التى بيَّـنها الله فى كتابه الكريم عقوبةً على كل من يخرق هذا الإطار.
الفقه الإسلامى يشمل «العقيدة والشريعة والعبادات»؛ أما «العقيدة» فتخبر بنى آدم بما غاب عنهم إدراكه من أمور الكون حيث يعيش البشر فى عالم الحواس الخمس لا يدركون من بعد حدوده إلا ما يستنبطوه بمنطقهم العلمى أو حدسهم الأدبى (المبنى على الوجدان)؛ و«العبادات» هى علاقة العبد بربه سبحانه وتعالى وكيفية مناجات الانسان له ؛ وهكذا فإن «العقيدة والعبادات» يغلب على عناصرهما التسليم والاتباع عن رسول الله د ولايوجد مجال للاختلاف عليها قديماً أو حديثاً.
أما «الشريعة» فهى قواعد للسلوك الشرعى الإسلامى أى ينطبق عليها التعريف العام للقانون حيث «القانون هو بالتعريف: قاعدة عامة مجردة تنظم السلوك الاجتماعى» وبذلك تصبح «مقاصد التشريع وفقه الواقع» مكوِّن أساس فى العملية التشريعية وإلا أدَّت النصوص التشريعية إلى غير ما قصد تحقيقه المشرِّع عندما أمر بأن يكون السلوك الاجتماعى على شكلٍ معيَّـن ؛ نتيجةً لذلك فإن القياس على أحكام الفقه المنقول يؤدى بطريقةٍ طبعية إلى تنظيم العلاقات البشرية على أحكام تماثل واقع الزمان والمكان الذى تم استنباط الحكم فيه أول مرة وهذا على الأغلب يجعل المسلم السلفى يتجاهل اختلافات العصر الحديث عما كان عليه الحال فى القرون الأولى للإسلام؛ ويجعل الخلافات المـوروثة تنتقل إلى المسلمين المعاصرين من خلال الفقه السلفى وأكبر مثالٍ على ذلك انقسام المسلمين إلى سنةٍ وشيعة ومذاهب أخرى صغرى فى القرن الواحد والعشرين دون أى مبرر لهذا الانقسام من صحيح القرآن والسنة.
فضلاً عما سبق فإن السلفى إذا واجه واقعاً جديداً من أنماط الحياة العصرية ومعاملاتها ولا يوجد له نص ينطوى على حكم وليس له شبيه فى القرون الأولى ولا يمكن تجنبه أصبحت الأمور فى أزمةٍ حقيقية لأن المنهج السلفى لن يسعفه ؛ ولا توجد قاعدة للاستنباط يلجأ إليها السلفى فى مثل هذه الأمور إلا المفاضلة بهدف ترجيح رأى سابقٌ قد صدر عن أحد الفقهاء على غيره من الآراء ؛ وعندئذٍ ينحصر البحث الفقهى فى بيان مبررات هذا التفضيل ؛ فإذا جاءت الحياة الحديثة بأنماطٍ من المواقف شديد الاختلاف عما كان عليه الحال عند أسلافنا ولا يوجد شبيهٌ لها فى السابق اضطر أغلب الفقهاء السلفيون المحدثون إلى تفضيل الحديث فى أمور العقيدة والعبادات وأحكام التلاوة للقرآن الكريم وترديد التفاسير عن السابقين من السلف الصالح مع تجنب الاجتهاد فى أمور الحياة التى يمارسها المسلمون ويحتاجون فيها للفتوى وأغلبها يقع فى موضوعات المعاملات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الشرعية.
فى هذه المقالة تم بيان «المنهاج الأصولى الحديث» المستند على «الإطار الدستورى للقرآن الكريم» حيث يعطى إطاراً دستورياً يبين الحقوق الطبيعية للبشر ويجب على الدساتير الوضعية المنظمة للدولة احترام مبادئه وأحكامه ومقاصده دون أن يبين نظاماً سياسياً أو اقتصادياً وترك شكل هذه النظم يختلف باختلاف تكنولوجيا وعلوم كل عصر وهذا يعطى مرونةً هائلةً لمواجهة كل ما يستجد فى أى عصر؛ وفى موضوع الفتوى فى المستجدات مما يواجهه المسلم من أمور الحياة المعاصرة وليس له مثيل فى التراث وهى الحالة الغالبة من أمور الحياة المعاصرة فقد تم اختبار هذا المنهاج فى استنباط الفقه السياسى وهو أكثر مجالات الاختلاف بين المسلمين وتفرقهم نتيجةً لأحداث «الفتنة الكبرى» حتى اليوم بين سنة وشيعة وآخرين؛ وساعد الفقه السلفى «المبنى على النقل عن التراث» على تعميق هذا الخلاف وإبقائه حتى اليوم؛ بل ساعد الفقه السلفى أيضاً على طمس صحيح نهج النبوة فى الحكم والإدارة وهو «الخلافة الراشدة» وتقديم «فقه الدولة الأموية» ممهوراً بعنوان «الفقه السنى» ليحجب نهج النبوة فى الحكم والإدارة نتيجةً لسطوة الفقه السلفى وهذا هو الموقف الشائع فى الأوساط الرسمية الحكومية «الفقهية والتشريعية والتعليمية والإعلامية».
أما تطبيق الشريعة الاسلامية فى الدولة على مستوى القوانين وما دونها من لوائح وأوامر إدارية بمنطق أصولى فلا نحتاج أن نجد شبيهاً له فيما سبق لدى أسلافنا حيث يكون على أساس الثوابت الآتية:
- أن يقع التشريع على المستوى القانونى داخل المبادئ الإطارية للمعاملات الإسلامية فى العدل والمساواة وأن تحقق «الديموقراطية وحقوق الإنسان»، وإلا يُطبق عليه عقوبة الامتناع أو الإلغاء .
- أن يُجرِّم التشريع فى الدولة ما جرَّمه الله وأن يحلَّ ما أحلَّه الله .
- أخيراً فى موضوع «حجم العقوبة ونوعيتها» فيما ذُكِرَ فى آياتٍ محكمات وسنةٍ متواترة ؛ فإنه يُمكن أن يختلف التشريع فى الدولة الإسلامية الحديثة عمَّا كان عليه الأمر وارداً فى النص القرآنى يوم نزول الرسالة الإسلامية فى القرن السابع الميلادى بشرط أن يُعطى نفس الأثر النفسى والاجتماعى المقصود من العقوبة على من يعيشون ظروف الدولة فى القرن الواحد والعشرين وما بعده، أى يمكن الاختلاف فى «حجم العقوبة ونوعيتها» بشرط المحافظة على فلسفة العقوبة وأثرها كما جاءت فى صدر الإسلام.
بالأخذ بهذه القواعد الثلاث على مستوى التشريع للقوانين فى القرن الواحد والعشرين يمكن أن يتم «تنظيم السلوك الاجتماعى» على نفس ما أراد الله له أن يكون.
وهكذا يرث المسلمون اليوم ظاهرتين كانتا طبـعيـتيـن ولهما ما يبررهما فى ظروف القرون الوسطى وامتد وجودهما حتى اليوم دون سندٍ قطعىٍّ من «القرآن والسنة» أو من «فقه الواقع» الذى يختلف اليوم فى القرن الواحد والعشرين عما كان عليه الحال عندما اكتسبتا الشرعية؛ وهما «النقل عن السلف الصالح دون نقدٍ على مرجعية رد الأمر إلى الله ورسوله (أى على أساس كل ما هو قطعى النص قطعى الدلالة فى القرآن والسنة)» و«ادعاء شرعية الحكم بالغلبة والاستبداد بالسلطة وتوريث الحكم»؛ ومن الواجب اليوم التصحيح ورد الأمر إلى أصوله بالقراءة المباشرة لعنصرى الرسالة الإلهية «القرآن والسنة» على أساس «دستورية القرآن الكريم».
============================
قائمة المراجع
(1) «د أحمد محمود كريمة ـ جامعة الأزهر» ، المذاهب الإسلامية ـ جريدة الأسبوع ـ العدد 489ـ 7 أغسطس 2006م ـ ص 29 (2) مقال للدكتور/ على جمعة مفتى الديار المصرية فى جريدة الأهرام المصرية، الإثنين 28 من ربيع الأول 1427هـ ، 27 فبراير 2006م ، السنة 130 العدد 43547، الصفحة الثالثة عشر(3 ) «أصول التشريع الإسلامى»، الشيخ على حسب الله، دار المعارف، القاهرة، 1985، ص39.
(4 ) «أصول التشريع الإسلامى»، الشيخ على حسب الله، دار المعارف، القاهرة، 1985، ص 39
(5 ) « حياة محمد»، محمد حسين هيكل، مرجع سبق ذكره، ص 274.
(6 ) «سنة الرسول الكريم وخلفائه الراشدين فى الحكم والإدارة، بيان لعناصر الحداثة»، د. بهاء الدين محمود منصور، مجلة مركز صالح كامل للاقتصاد الإسلامى، مركز صالح كامل للاقتصاد الإسلامى، جامعة الأزهر، السنة السابعة – العدد الثانى والعشرون، 1425هـ – 2004م، «تاريخ الطبرى، تاريخ الأمم والممالك»، لأبى جعفر محمد بن جرير الطبرى، المجلد الثانى (من السنة الأولى للهجرة لغاية السنة 35 للهجرة، دار الكتب العلمية، بيروت ـ لبنان، 1408هـ ـ 1988 م، (ص 244، 245).
(7) «سنة الرسول الكريم وخلفائه الراشدين فى الحكم والإدارة، بيان لعناصر الحداثة»، د. بهاء الدين محمود منصور، مرجع سبق ذكره. «الفاروق عمر»، محمد حسين هيكل، دار المعارف، القاهرة، 1986 (الطبعة الثامنة)، ( الجزء الأول) ص 93، 94.
(8) * «سنة الرسول الكريم وخلفائه الراشدين فى الحكم والإدارة ، بيان لعناصر الحداثة»، د. بهاء الدين محمود منصور ، مجلة مركز صالح كامل للاقتصاد الإسلامى ، مركز صالح كامل للاقتصاد الإسلامى ، جامعة الأزهر ، السنة السابعة – العدد الثانى والعشرون ،1425 هجرية – 2004م، * «سقوط وبعث نمط الخلافة الراشدة فى الحكم والإدارة»، د. بهاء الدين محمود منصور ، مجلة مركز صالح كامل للاقتصاد الإسلامى ، مركز صالح كامل للاقتصاد الإسلامى ، جامعة الأزهر، السنة التاسعة – العدد الخامس والعشرون، 1426 هجرية – 2005م، * «العولمة والإسلام ونهاية التاريخ»، د. بهاء الدين محمود منصور، مجلة مركز صالح كامل للاقتصاد الإسلامى، مركز صالح كامل للاقتصاد الإسلامى، جامعة الأزهر، السنة التاسعة – العدد السابع والعشرون، 1426 هجرية – 2005م،
http://democracyinislam.net/.
(9 ) «سنة الرسول الكريم وخلفائه الراشدين فى الحكم والإدارة، بيان لعناصر الحداثة»، د. بهاء الدين محمود منصور، مرجع سبق ذكره. * «سقوط وبعث نمط الخلافة الراشدة فى الحكم والإدارة»، د.بهاء الدين محمود منصور، مرجع سبق ذكره. * «العولمة والإسلام ونهاية التاريخ»، د. بهاء الدين محمود منصور، مرجع سبق ذكره. * «الأسس الفيزيقية للعقيدة والشريعة الإسلامية»، د. بهاء الدين محمود منصور، مرجع سبق ذكره. * «الشريعة الإسلامية فى الحكم والإدارة، الأصول والإحياء»، د. بهاء الدين محمود منصور، مجلة مركز صالح كامل للاقتصاد الإسلامى، جامعة الأزهر، السنة الحادية عشرة – العدد الثانى والثلاثون، 1428هـ – 2007م.
(10) «تاريخ الطبرى، تاريخ الأمم والممالك»، لأبى جعفر محمد بن جرير الطبرى، المجلد الثانى (من السنة الأولى للهجرة لغاية السنة 35 للهجرة)، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، 1408هـ – 1988م (ص 244، 245).
(11) «الفاروق عمر»، محمد حسين هيكل، مرجع سبق ذكره، ص 93، 94.
(12 ) «تاريخ الطبرى، تاريخ الأمم والممالك»، لأبى جعفر محمد بن جرير الطبرى، مرجع سبق ذكره، ص227.
(13) «سنة الرسول الكريم وخلفائه الراشدين فى الحكم والإدارة، بيان لعناصر الحداثة»، د. بهاء الدين محمود منصور، مرجع سبق ذكره.
(14) «سنة الرسول الكريم وخلفائه الراشدين فى الحكم والإدارة، بيان لعناصر الحداثة»، د. بهاء الدين محمود منصور، مرجع سبق ذكره. * «سقوط وبعث نمط الخلافة الراشدة فى الحكم والإدارة»، د. بهاء الدين محمود منصور، مرجع سبق ذكره. * «العولمة والإسلام ونهاية التاريخ»، د. بهاء الدين محمود منصور، مرجع سبق ذكره. * «الأسس الفيزيقية للعقيدة والشريعة الإسلامية»، د. بهاء الدين محمود منصور، مرجع سبق ذكره. * «الشريعة الإسلامية فى الحكم والإدارة، الأصول والإحياء»، د. بهاء الدين محمود منصور، مرجع سبق ذكره. * «تاريخ الطبرى، تاريخ الأمم والممالك»، لأبى جعفر محمد بن جرير الطبرى، مرجع سبق ذكره. * «الفاروق عمر»، محمد حسين هيكل، مرجع سبق ذكره. * «حياة محمد»، محمد حسين هيكل، مرجع سبق ذكره. * «فقه السنة»، الشيخ سيد سابق، مرجع سبق ذكره.
(15) «الإعلان العالمي لحقوق الإنسان» الذى اعتمد ونشر على الملأ بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 217 ألف (د-3) المؤرخ في 10 كانون الأول/ديسمبر 1948م
(16) «التأسيس لدستورية القرآن الكريم»، د. بهاء الدين محمود منصور، مجلة مركز صالح كامل للاقتصاد الإسلامى، جامعة الأزهر، السنة الحادية عشرة – العدد الثالث والثلاثون، 1428 هجرية – 2007 م.
(17) «الرسالة»، للإمام محمد بن إدريس الشافعى، مكتبة دار التراث، القاهرة، 1426 هجرية – 2005م.
(18) “التأسيس لدستورية القرآن الكريم” ، د. بهاء الدين محمود منصور ، مجلة مركز صالح كامل للاقتصاد الإسلامى ، جامعة الأزهر ، السنة الحادية عشرة – العدد الثالث والثلاثون ، 1428 هجرية – 2007 م.
(19) المرجع السابق
(20) «دستورية القرآن الكريم وعلم أصول الفقه الإسلامي»، د. بهاء الدين محمود منصور، مجلة مركز صالح كامل للاقتصاد الإسلامى، جامعة الأزهر، السنة الرابعة عشر – العدد الثانى والأربعين ، 1431 هجرية – 2010 م.
(21) «الأسس الفيزيقية للعقيدة والشريعة الإسلامية»، د. بهاء الدين محمود منصور، مجلة مركز صالح كامل للاقتصاد الإسلامى، جامعة الأزهر، السنة العاشرة – العدد التاسع والعشرون، 1427 هجرية – 2006 م.
(22) «الحكم الشرعي عند الأصوليين»، الأستاذ الدكتور على جمعة، دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة، القاهرة، 1427هـ ـ 2006م، ص 7.
(23) “التأسيس لدستورية القرآن الكريم” ، د. بهاء الدين محمود منصور ، مجلة مركز صالح كامل للاقتصاد الإسلامى ، جامعة الأزهر ، السنة الحادية عشرة – العدد الثالث والثلاثون ، 1428 هجرية – 2007 م.
(24) “دستورية القرآن الكريم وعلم أصول الفقه الإسلامي” ، د. بهاء الدين محمود منصور ، مجلة مركز صالح كامل للاقتصاد الإسلامى ، جامعة الأزهر ، السنة الرابعة عشر – العدد الثانى والأربعين ، 1431 هجرية – 2010 م.
(25) «فائض السلطة هو السلطة التى لا حساب عليها»؛ انظر «الأسس الفيزيقية للعقيدة والشريعة الإسلامية»، د. بهاء الدين محمود منصور ، مجلة مركز صالح كامل للاقتصاد الإسلامى ، جامعة الأزهر ، السنة العاشرة – العدد التاسع والعشرون ، 1427 هجرية – 2006 م.
(26) «الأسس الفيزيقية للعقيدة والشريعة الإسلامية»، د. بهاء الدين محمود منصور، مجلة مركز صالح كامل للاقتصاد الإسلامى، جامعة الأزهر، السنة العاشرة – العدد التاسع والعشرون، 1427 هجرية – 2006 م.
(27) «سقوط وبعث نمط الخلافة الراشدة فى الحكم والإدارة»، د. بهاء الدين محمود منصور، مجلة مركز صالح كامل للاقتصاد الإسلامى، مركز صالح كامل للاقتصاد الإسلامى، جامعة الأزهر، السنة التاسعة – العدد الخامس والعشرون، 1426 هجرية – 2005م.
(28) «المدخل للعلوم القانونية، النظرية العامة للقانون»، الدكتور/ أحمد شوقى محمد عبد الرحمن، منشأة المعارف بالإسكندرية، 2005 ص 6
(29) مقال للدكتور/ على جمعة مفتى الديار المصرية فى جريدة الأهرام المصرية، الإثنين 28 من ربيع الأول 1427هـ ، 27 فبراير 2006م ، السنة 130 العدد 43547، الصفحة الثالثة عشر